بناء تكتيك وتيار داخل الحركة، أم رسم أهداف عامة ؟


فلاح علوان
2019 / 10 / 11 - 16:19     



إنطلقت الحركة الحالية في العراق كتصاعد لسلسلة إحتجاجات تطالب بحقوق عامة، وتأمين خدمات وفرص عمل ومكافحة الفساد إمتدت لسنوات. إن عماد الحركة الحالية ومادتها البشرية هم فقراء المدن، المعطلون عن العمل، او الباحثون عن العمل، الراديكاليون من مناهضي الفساد وتحكم القوى السائدة.
الحراك الحالي الذي بلغ مستوى الإنتفاضة، رفع شعارات أبعد من المطالب اليومية، فقد رفع شعار تغيير النظام، أي إن الحركة المطلبية التي لم تحقق أهدافها تبنت أهدافاً سياسية. غير أن الأهداف السياسية التي تسود التظاهرات لم تستمد مباشرة من المحتوى الإجتماعي الطبقي للحركة. لقد تبنى المتظاهرون السياسات التي كانت ترفعها فئات سياسية أخرى متنافسة مع الأقطاب الحاكمة، من مثل المطالبة بنظام رئاسي، مناوءة الدور الإيراني في العراق، الطلب من الأمم المتحدة التدخل، أي قوات دولية تقودها أمريكا .. وهكذا. كل هذه سياسات تابعة، وليس فيها أي سياسة نابعة من داخل الحركة ومعبرة عن محتواها.
بمعنى، إن الجماهير ما إن تحولت من المطالب ذات الطبيعة الاقتصادية والإصلاحية الى المطالب السياسية، حتى وقعت مباشرة تحت نفوذ التيارات البرجوازية.
لماذا يندفع المحتجون نحو شعارات تيارات أخرى؟
ينتقل تأثير التيارات البرجوازية الفكري الى صفوف الجماهير الشعبية، لا عن طريق التنظيم والبرامج السياسية، بل كونها " واقع الحال" السياسي القائم، وأفكارها هي المنتشرة في المجتمع، وإن السياسة هي "إختصاصهم"، وما على الجمهور سوى تأييد هذا التصور السائد أو ذاك.
أما الإنطلاق من الحاجات اليومية الى السياسة فيتطلب الإستعداد النظري والسياسي، أو الأحرى بناء السياسة على أساس تحقيق الحاجات والمطالب.
هل يمكن الإنتقال من المطالب ذات الطابع الإقتصادي الى السياسة وكيف؟
تبدأ الحركات المطلبية بالمطالب التي تمس المعيشة مباشرة، وأهمها توفير فرص العمل ومكافحة الفقر وتأمين الخدمات العامة. إن البرجوازية الحاكمة تسارع الى إجراءات إصلاحية تفادياً لسقوط حكمها، وتقوم بتوفير بعض فرص العمل وإجراء بعض التحسينات تحت ضغط الحركة الشعبية. ويمكن تطور تيار إصلاحي وتحوله الى حزب أو كيان سياسي مهمته الاصلاحات وتجنب الأزمة السياسية، مثل أحزاب الإشتراكية الديمقراطية في أوربا.
هل المطالب الحالية غير قابلة للتنفيذ في إطار النظام الحالي؟ وهل المطالب الحالية تعكس الأزمة العامة للنظام السياسي والتي ستفضي الى إنهياره؟
فيما يخص القسم الأول من السؤال؛ إن المطالب الحالية هي تعبير عن الإفتقار الى أبسط مستلزمات الحياة وهذا نتج عن سياسة الحكومة التي جرى تنصيبها بعد الإحتلال لغرض إعادة رسم العلاقة بين الدولة والإقتصاد، وهيكلة الإقتصاد وإعادة تنظيمه بالإرتباط مع الإحتكارات العالمية، وتلعب الحكومة والبرلمان والمؤسسات المرتبطة بهما دور ممثل رأس المال في تغيير هيكل الإقتصاد وإنهاء مسؤولية الدولة تجاه المجتمع، وخصخصة كل القطاعات وتحويل الثروات الطائلة الى أرصدة خاصة في البنوك العالمية، وإفلاس الدولة ومديونيتها وعجز الموازنة، وتزايد مضطرد لملايين العاطلين عن العمل. أي بإختصار إنه نظام غير قابل للحياة الّإ بفناء المجتمع. إن عجز النظام عن تحقيق المطالب الحالية راجع لكونه هو سبب هذه الأوضاع، وإنها النتاج المباشر له. أي بكلمة لا يمكن لهذا النظام تسيير حياة المجتمع مع إستمرار سياسته الحالية وإرتباطاته العالمية.
وبالنسبة للقسم الثاني من السؤال؛ نعم إن الحركة الحالية تعكس الأزمة العامة للنظام وللسياسة الإقليمية في المنطقة كذلك. ولكن عدم تبلور إتجاه سياسي داخل الحركة يجعل زخمها يتوجه في أكثر من وجهة، مما يعني تبدد طاقتها الثورية.
إن الغالبية العظمى من المحتجين، ورغم إنتمائهم الإجتماعي الى الطبقة العاملة من حيث المصالح ومستوى المعيشة، ألّا أنهم لم يأتوا من المصانع ولا من مواقع العمل الأخرى. إنهم الجمهور المبعثر في عشرات المهن الوقتية، ومن يعاني البطالة الجزئية، باعة المفرق، الخريجون الباحثون عن التوظيف، الناقمون على الحكومة، المعدمون، المستأجرون الفقراء، وكل من يصطلح عليهم بالعمالة الهشة أو precariat والذين يصعب عليهم بسبب من موقعهم الإجتماعي ومستوى وعيهم الربط بين ظروفهم وتحكم الرأسمال، لأنهم لا يواجهون رأسمالياً يتحكم بحياتهم وأجورهم، وإنما يواجهون سلطة متخمة تتحكم بالمليارات، ويعتبرون إن تبدل المسؤولين في الحكومة سوف يبدل توزيع الثروة. ومن جانب آخر، فليس هناك حزب عمالي إشتراكي في العراق، ولم تتبن الطبقة العاملة تصورات حزب إشتراكي لكي تنخرط فئات المحتجين من الكادحين مع العمال في إطاره. إن الحركة بحاجة الى شكل شبيه الى حد ما بما حصل في روسيا عام 1917 من تحالف للفلاحين الفقراء مع العمال، حيث كان للعمال تنظيم وحزب سياسي.
إن هذا الشكل من العمالة في العراق، هو النتيجة الحتمية للعولمة والسياسة الإقتصادية النيوليبرالية في العراق. والحركة الحالية هي تجلي لشكل الاعتراض بوجه الإنسحاق الذي يعانيه الإنسان في ظل هذه السياسات الرأسمالية. وحيث لا يوجد تنظيم لهذا الجمهور من العمال، ولا توجد لديهم نقابات أو منظمات، فإن شكل إحتجاجهم هو التظاهر ومواجهة البنادق.
لا يقتصر دور السياسات الاقتصادية الحالية على التقشف وتغيير شكل علاقة الدولة بالإقتصاد والخدمات العامة، إنها سياسة مسخ الإنسان، ضياعه، استلابه. حين لا يجد الشاب في جيبه أكثر من ألف دينار أي أقل من دولار واحد، وهو يرى مواكب السيارات ذات الدفع الرباعي، وهي تقل مسؤولاً واحداً فقط. ويرى هذا الشاب ، إن وقود سيارات المسؤولين هذه لجولة واحدة تعادل إنفاقه هو وعائلته لأيام، فمن المحتم إنه لن يجد أمامه الّا الإنتفاض والثورة، لأن العالم الذي يعيشه يجعله يفقد أي شكل من المنطق لتفسير ما يجري.

ما هو الإطار العام لهذه الحركة؟ وما هي إمكاناتها الذاتية؟
إن الشعارات السياسية التي رفعها العديد من المحتجين تعكس، رغم نواقصها، شكل الأزمة.
إن رفض الدور الإيراني هو إنعكاس للسياسة الإقليمية والأزمة التي تمر بها، والهيمنة الإيرانية والتوسع العسكري والسياسي والإقتصادي. وهذا المحور من الحركة وفي ظل غياب ممثل ثوري للجموع، سيكون فرصة لتنامي تيار قومي رجعي. وقد يجر الحركة بإتجاهه، خاصة وإنها مادة جاهزة بيد باقي الأقطاب الإقليمية الرجعية مثل السعودية، تركيا، إسرائيل.
إن الدور الإيراني في العراق ليس نتاج سياسة عرضية لحكام إيران، إنه جزء من الصراع حول الشرق الأوسط وإقتسام النفوذ فيه. أمريكا التي تريد فرض ما يعرف بالشرق الأوسط الجديد في سياسة مشتركة ومتظافرة مع السياسة الإسرائيلية، وإيران التي تسعى لترسيم الخارطة وفق مصالحها وسياستها.
إن الصراع من أجل إقتسام الشرق الأوسط، الذي يجري تحت أطر أيديولوجية، ترفعها أمريكا بحجة نشر الديمقراطية، وإيران تحت شعار نشر الإسلام ونظام ولاية الفقيه، وإسرائيل برواياتها وخرافاتها الكهنوتية التوراتية، هو في الحقيقة إعادة تقسيم الخارطة الجيوسياسية لمتطلبات تنامي تراكم رأس المال على الصعيد العالمي. إن الشرق الأوسط هو أحد أهم بؤر الصراع السياسي الإقتصادي في العالم، والذي يشهد حروباً لا نهاية لها من أجل الهيمنة وإعادة التقسيم.
إن الإنسان المستلب المستعبد في هذه المنطقة التي تحكمها الانظمة الاستبدادية منذ قرون، تقع ثوراته وإنتفاضاته غالباً تحت نفوذ التيارات البرجوازية السائدة.
إن عدم تبلور تيار سياسي إشتراكي يشكل تعريفاً للإنسان وهوية له، يجعل انتماء الانسان السياسي والقيمي عرضة للانزلاق في هاوية الانتماءات للتيارات المهيمنة العقائدية والبراغماتية.
إن التيار الإشتراكي لم يبلور منظوراً غير قومي، حول قضية الشرق الأوسط الكبير أو مشروع تقسيم المنطقة، والرؤيا الإشتراكية العامة للمسألة تكاد تقتصر على إستجابات لمتطلبات آنية أو عملية، دون أن تشكل منظوراً عاماً بوجه الأيديولوجيات البرجوازية. إن إقتصار دور التيار الإشتراكي على المطالب اليومية ومعاناة المواطنين والنضال الإقتصادي سيترك المنظور السياسي العام للاوضاع بيد البرجوازية.
ومع استمرار الصراع الأمريكي الإيراني في الشرق الأوسط، ستستمر التيارات العقائدية والصراع الفكري والسياسي حول دور إيران في المنطقة، وإنعكاسه على حياة المجتمع، وعلى شكل الانظمة السياسية في البلدان التي ينتشر النفوذ الإيراني فيها، كالعراق ولبنان وسوريا واليمن.
إن هذه العقدة قد فرضت نفسها في الحركة الحالية، رغم إنها لم تتبلور في تعبير سياسي عام وواضح.
رفض النظام الحالي البرلماني الفاسد، وهذا ناجم عما عاناه المجتمع من ظلم ونهب وهظم حقوق وهدر كرامة، تحت سيطرة جمع من بضعة مئات، يجري إيصالهم الى البرلمان بوسائل شتى ومساومات بين الكتل السياسية التي لا تمثل سوى مصالح الرأسمال وممثليه كأميركا، والاقطاب الإقليمية مثل إيران والسعودية وتركيا.
إن رفع شعار إسقاط النظام، يعني إن الحركة المطلبية قد وصلت الى طريق مسدود، والنظام عاجز عن تأمين فرص العمل ومتسبب في نهب وهدر ثروات المجتمع.
ولكن مع غياب رؤيا لشكل النظام السياسي المقبل القادر على حل أزمة المجتمع، يصار الى رفع شعار نظام رئاسي، وإلغاء رواتب الرئاسات الخيالية. وهذا الطرح له مخاطره التي تتمثل في إمكانية تلفيق بديل مصطنع من بعض القوى أو دفع شخصيات الى الواجهة لإمتصاص زخم الحركة وتفتيتها في مشاريع وآمال وهمية.

تحقيق المطالب.
إن كل المطالب التي يرفعها المحتجون هي عادلة، بل إنها حقوق أساسية جرى حرمان الجمهور منها.
في كل عام يدخل سوق العمل نحو نصف مليون شخص من جانب، ومن جانب آخر يجري تعطيل المؤسسات القديمة وعدم الشروع بإقامة مشاريع واسعة، مما يؤدي الى تراكم جموع العاطلين عاماً بعد عام حتى بلغ أزمة بطالة مستعصية. ويجري إقرار الموازنة استناداً الى السياسة الإقتصادية الرأسمالية وشروط المؤسسات العالمية، لا على أساس حاجات المجتمع. إن أزمة النظام الحالي هي إذن أزمة إقتصادية خطيرة، أزمة اجتماعية، وأزمة سياسية داخلية وإقليمية. وعلى الحركة الحالية أن تجيب على شكل البديل القابل للحياة، والقادر على الاجابة على حاجات المجتمع.
سيسعى النظام الى المسكنات والى مزيد من الإقتراض وبالتالي تهديد مستقبل الأجيال القادمة. ستسعى بعض القوى السياسية الى الظهور بمظهر البديل أو المصلح، وستقوم القوى العالمية بلعب دورها دفاعاً عن مصالحها.
لا يمكن للجيش أن يلعب دوراً ثورياً أو دوراً حاسماً كما جرى في مصر أو تونس، بسبب الهيمنة الأمريكية والتحكم بالمؤسسة العسكرية والتسلح، ولا يمكن للقوى المسلحة شبه النظامية الّا أن تكون قوى قمعية بيد النظام، وقد تحولت الى سند للنظام بصورة علنية.
يتبع -

فلاح علوان
08-10-2019