سبتمبر 2019 والطريق نحو الثورة المصرية الثانية

الاشتراكيون الثوريون
2019 / 9 / 29 - 11:01     


حالة الارتباك والتخبط التي مُنِيَ بها المجال السياسي المصري خلال الأسبوعين الماضيين تذكِّر بما يشعره المرء عند ركوب قطار الملاهي. صعود حاد يعقبه سقوط سريع وانحناءات يمين ويسار تصيب المرء بالدوران. فالمتابع لوسائل التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك وتويتر، لا يشهد فقط تلك الرؤيتين المتناقضتين حول الأحداث، أي رؤية النظام وأجهزته الأمنية ولجانه وفنانيه ومثقفيه حول صلابة النظام وشعبيته الجارفة وفشل المؤامرات الخبيثة ضده من جانب، ورؤية كثير من معارضي النظام حول أننا على أعتاب ثورة جديدة وأن النظام على وشك الانهيار. بل أن في صفوف كثير من المعارضين أنفسهم نجد التحولات من يوم لآخر بين تفاؤل مفرط وتوقعات بنزول الملايين للشوارع والميادين إلى حالات من التشاؤم والانهيار والشعور بأن النظام قادر على الاستمرار إلى الأبد.

ربما يكون من المفيد في مثل هذه الظروف أن نتأمل المشهد ككل وأن نخرج أنفسنا من عالم التكهنات والأماني في محاولة لرصد ما نعرفه عن الوضع الحالي وما كشفته لنا أحداث الأسابيع القليلة الماضية.

أولًا، شكَّلت مظاهرات الجمعة 20 سبتمبر نقلةً نوعية في المعارضة السياسية للنظام. فرغم أنها لم تتجاوز عدة آلاف من المتظاهرين فمضمونها السياسي وشعاراتها المعادية للسيسي وكون أنها أكبر مظاهرات سياسية تشهدها البلاد منذ الانقلاب لاشك أنها فاجأت النظام وفاجأت كذلك ما تبقى من قوى سياسية معارضة. ولكن رد فعل النظام لتلك المظاهرات شكل أيضًا نقلة نوعية. فحملة الاعتقالات التي أعقبتها هي أيضًا الأكبر والأوسع منذ سنوات. أي أن التصعيد الذي مثلته مظاهرات 20 سبتمبر ووجه بتصعيد مضاد من قبل الدولة.

ثانيًا، أن فيديوهات وتسريبات محمد علي أحدثت تآكلًا جديدًا في شرعية نظام السيسي وحكمه العسكري، تضاف إلى التآكل الذي أحدثته من قبل سياسات التقشف وتعويم الجنيه وتسليم تيران وصنافير والتعديلات الدستورية. هذا التآكل يضيق بشدة من ما تبقى من تحالف 30 يونيو وهو ما أكدته موجة الاعتقالات الأخيرة في صفوف قوى حسبت على ذلك التحالف. ولكن المزيد من تآكل الشرعية وانقلاب النظام على حلفاء الأمس لا يعني على الإطلاق أن النظام على وشك الانهيار.

ثالثًا، أن توقع أن يترجم تآكل الشرعية وحالة الغضب تجاه النظام فجأة إلى يوم فاصل من المليونيات يطيح بالسيسي يعبر عن درجة كبيرة من المثالية بل وربما السذاجة. علينا أن نتذكر أن مليونيات 2011 التي أطاحت بمبارك كانت نتاج عقد كامل من المعارضة الاجتماعية والسياسية للنظام. سلسلة طويلة من الإضرابات العمالية والاحتجاجات الاجتماعية والمظاهرات والوقفات السياسية توجت في النهاية بثورة يناير.

ولكن حتى هذه الدعوة المثالية ليوم الخلاص 27 سبتمبر واجهها النظام بحالة من الذعر والحشد الأمني لم نر مثلها منذ 2013. إغلاق الشوارع والميادين وإغراقها بالمخبرين والمدرعات بالتأكيد ليس تعبيرًا عن نظام مستقر وواثق من شرعيته، بل نظام مأزوم تؤرقه أشباح الثورة.

رابعًا، أن أزمة نظام السيسي ليست فقط نتيجة لتآكل شرعيته وتصاعد الغضب الجماهيري تجاهه. فكما طرحنا في مقال سابق فهناك أسباب بنيوية متراكمة لهذه الأزمة. منها محاولة السيسي تحويل وضع التفويض الاستثنائي الذي فرضته لحظة الثورة المضادة إلى وضع طويل المدى. بالبورجوازية المصرية توجت السيسي كمنقذ ومخلص من كابوس الثورة والإخوان وليس ملكًا مدى الحياة. وكبار رجال الدولة قبلوا إعادة ترتيبه لتوازن القوة بين مؤسسات الدولة (خاصة الجيش والشرطة والرئاسة والقضاء) كوضع استثنائي لإنهاء حالة الفوضى ولكن بالتأكيد ليس كوضع أبدي يثبت بيادة الجيش فوق عنق الجميع ويثبت بيادة السيسي فوق عنق الجيش.

ولكن أن نقفز من قراءة تلك التناقضات والشروخ بل والأزمات إلى تصور أن البرجوازية أو رجال الدولة المصرية قد قرروا الإطاحة بالسيسي هو أيضًا نوع من المثالية والخيال. فالسيسي ديكتاتور عسكري مصاب بالبارانويا يعيش على بث الخوف ليس فقط في صفوف أعدائه، ولكن وربما بشكل أكثر في صفوف رجال مؤسساته وحلفائه. وهو يأمن نفسه بسلسلة لا تنتهي من الإقالات والتعيينات والتغييرات في صفوف قادة الجيش والمخابرات والأمن. أما رجال الأعمال فرعبهم منه يتجاوز بمراحل تململهم وضيقهم من تجاوزاته.

وخامسًا، فهناك فيلٌ في الحجرة كما يقول المثل الإنجليزي، وهو التناقض بين الغضب الجماهيري المتصاعد تجاه السيسي ونظامه وسياساته وبين الضعف الشديد للمعارضة المنظمة سواء الإصلاحي منها أو الجذري. فالنقابات العمالية والمهنية قد تم تأميمها وتدجينها بشكل شبه كامل والأحزاب السياسية المعارضة قد تم تضييق الخناق عليها ومنعها من التفاعل مع الجماهير. أما الحركات الثورية فقياداتها بين السجن والمنفى أو في انتظار أحدهما وأبسط محاولة للاقتراب من الجماهير تكون عاقبتها كارثية كما نعلم جميعًا.

ولكن أزمة النظام وفقدانه للشرعية والغضب الجماهيري المتصاعد تجاهه تعني أن قدرة النظام على خنق المعارضة ستتآكل هي الأخرى وفرص إعادة البناء والتنظيم في الجامعات والنقابات وأماكن العمل والأحياء ستفرض نفسها من جديد.

ما تشكله أحداث سبتمبر 2019 ليس مؤشرًا على انهيار وشيك للنظام، ولكنه مؤشرٌ لحدوث نقلة نوعية في حالة الغضب الجماهيري تجاه النظام بشكل عام والسيسي بشكل خاص. هذه النقلة النوعية لن تُتَرجَم إلى ثورة شعبية بين ليلة وضحاها، ولكنها بالتأكيد ستتحول إلى الآلاف من الاحتجاجات الصغيرة والمحدودة في أماكن العمل والدراسة والسكن ضد الاستغلال والاستبداد والظلم والفساد. وهذه هي الثغرات التي يمكن من خلالها إعادة بناء معارضة جذرية ومنظمة للديكتاتورية العسكرية في مصر.

ولابد أن نتذكَّر أننا لا نبدأ من الصفر. فتجربة ثورة يناير حاضرة في أحداث سبتمبر، والخبرات النضالية والتنظيمية التي اكتسبها مئات الآلاف من الشباب في تلك الثورة لم تتبخر ولم تختف، وستتحوَّل تلك الخبرات إلى ذخيرة لا تنضب في المعارك القادمة مع النظام، تسرع من وتيرتها وتعجِّل من قيام ثورتنا المصرية الثانية. فلنبني تنظيماتنا ونستعيد مواقعنا وقواعدنا ونفكر معًا في كيفية بناء جبهات متحدة توحد صفوفنا في مواجهة عدو ستزداد شراسته كلما أحس بالضعف والأزمة.