عن اُفول المرحلة الناصرية ووعينا السياسي المبكر


رضي السماك
2019 / 9 / 28 - 20:54     

منذ رحيله المفاجئ عن دُنيانا قبل نحو نصف قرن ، وتحديداً في الثامن والعشرين من سبتمبر / أيلول 1970 والرئيس العربي المصري جمال عبد الناصر ما فتئ الغائب الحاضر في الساحتين السياسية والثقافية على امتداد قارتنا العربية من المُحيط إلى الخليج ، وليس من قبيل المبالغة القول إن هذا الحضور مازال يشتد ويتعاظم كلما تعاظمت الرزايا والكوارث السياسية التي تمر بها اُمتنا العربية ، حيث يزداد الحنين الجارف إلى زعامته والاحساس بفقدانه في ظل غياب من من يملأ مكانه . ولا غرو في ذلك فقد كان عبد الناصر في عصره نسيج وحده في الزعامة الوطنية والقومية المتفردة طوال عقدين تقريباً من فترة حكمه وثورة يوليو تحت قيادته( 1952 - 1970 ) ، والتي سرعان ما أفل نجمها بعد موته ، وظلت زعامته القومية شاغرة حتى يومنا هذا حيث عجز زعماء الأحزاب والأنظمة القومية العربية كافة عن شغلها حتى يومنا هذا كزعامة تتمتع بشبه إجماع جماهيري عربي .
ولعلنا نستطيع أن نشبّه التأثير الهائل لهذه الثورة المصرية على أقطارنا العربية ، ومنها قطرنا البحريني ، على مختلف الصُعد السياسية والثقافية والاجتماعية ولاسيما فيما يتعلق بالتحرر من الاستعمار الاجنبي بتأثير الاتحاد السوفييتي ( القوة العظمى الثانية التي برزت في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى انهيارها مطلع تسعينيات القرن الماضي ) على بلدان العالم الثالث ، ومنها بلداننا العربية الواقعة تحت هيمنة الاستعمار الغربي . ومن الصعب تخيّل التحرر السريع الذي حققته هذه البلدان من ربقة الإستعمار ونيلها استقلالاتها في تلك الفترة لولا الدعم القوي الذي قدمه الاتحاد السوفيتي لنضالاتها لحركات تحررها الوطني ونضالاتها الجماهيرية ، ومن ضمنها مصر الناصرية نفسها في سني الثورة الأولى . وبالتالي يمكننا القول إن كل بلداننا العربية التي نالت استقلالها خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي مدينة في جزء كبير من تعبيد طريق تحررها واختصاره لمصر الناصرية المدعومة من الاتحاد السوفييتي ، مما ساهم في التسليم بحقها في تقرير مصيرها ونيل إستقلالها الناجز وبناء دولها الفتية المعبرة عن إرادتها الوطنية لتصبح عندئذٍ عضواً مستقلاً في الاسرتين العربية والدولية الدولية ( الامم المتحدة وجامعة الدول العربية ) .
ولم تكن البحرين استثناءً من بين هذه البلدان ، بل لعلها من أبرز أقطار خليجنا العربي التي استفادت من ذلك الدور المصري القومي خلال الزعامة الناصرية أيما استفادة في نضالها التحرري طوال ذينك العقدين ، بدءاً من الهبة الجماهيرية التي قادتها هيئة الاتحاد الوطني ( 1954 - 1956 ) والتي تزامنت مع أحداث بالغة الأهمية في عمر الثورة المصرية خلال سنواتها الاربع الاولى : ( الجلاء ، تأميم القناة ، كسر الاحتكار الغربي للتسلح الوطني بصفقة الاسلحة التشيكية ، دور عبد الناصر في وضع اللبنات الاولى لتكتل دول عدم الانحياز المستقلة حديثاً في مؤتمر باندونج ، إفشال العدوان الثلاثي ) .. ففي هذه الفترة نفسها لعبت الحركة الوطنية والجماهيرية البحرينية دوراً مناهضاً كبيراً في التنديد بالعدوان الثلاثي ، وليس انتهاءً بانتفاضة مارس 1965 الشعبية . وبالجملة فقد قدمت قاهرة عبد الناصر مختلف أشكال الدعم والمساندة الممكنة للقوى الوطنية وللإنتفاضات الجماهيرية الاحتجاجية الشعبية في البحرين ضد السلطات الاستعمارية ، وبخاصة الإعلامية ، حتى نيل استقلالها عام 1971 .
وإذا كانت أجيال فتية شابة متعاقبة من البحرينيين الشباب قد تفتحت مداركها السياسية الوطنية الأولى قبيل سن المراهقة منذ إنطلاقة ثورة يوليو 1952 على وقع ما حققته -تحت قيادة عبد الناصر - من انتصارات و مكاسب كبرى في مواجهة المخططات والأطماع الاستعمارية في العالم العربي ، وما حققته أيضاً داخل مصر من تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية هامة كبرى لصالح السواد الأعظم من شعبها وذلك في غمرة المد القومي العارم ؛ فلعل كاتب هذه السطور كان محظوظاً لكونه واحداً من أبناء آخر جيل بحريني وعربي تفتحت مداركه السياسية الأولى الطرية المبكرة ( قبل ولوجنا مرحلة المراهقة ) خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياة عبد الناصر حيث ما زلت في السنوات الأولى من العقد الثاني لعمري ، وتحديداً منذ عشية حرب يونيو 1967 حيث التحضيرات الحماسية المفرطة لمصر الناصرية لخوضها حتى رحيله الفاجع في مثل هذا اليوم من سنة 1970.
وأتذكّر كُنا حينها أيام الحرب المعدودة في السنة الأولى من المرحلة الاعدادية ، وتحديداً في مدرسة الخميس الاعدادية للبنين ، المجاورة لواحد من أشهر معالم البلاد الأثرية ( مسجد الخميس ) . وأحسبُ أن زميلي في الدراسة بهذه المدرسة مؤلف هذا الكتاب ، الأخ الصديق والفنان الموسيقي الإستاذ إبراهيم الدوسري ، هو واحد من أبناء جيلي الذين تفتحت مداركهم مع هذه السن من سني طفولتنا قبيل ولوجنا سن المراهقة ؛ وكان معظمنا حينذاك تستهويه كرة القدم ، لكن كانت تجذبه السياسة وأجواؤها بنفس القوة تحت التأثيرالطاغي -إعلامياً وسياسياً وفنياً - لمصر الناصرية الذي استمر حتى سني غروبها القصيرة الأخيرة ( 1967 1970 ) . كما كنا مولعين بشدة للاستماع للإذاعات المصرية وخاصةً " صوت العرب " ، وكذلك الصحف والمجلات القاهرية والتي كانت في زمن الناصرية معروفة برواجها السريع في السوق المحلية وتنفد جميعها بعد سويعات من نزولها في المكتبات ومحلات بيعها . و أتكّر كُنا نتسابق على شرائها بمصروف الجيب البسيط الذي ندخره قبل أن يخطفها الكبار التي غالباً ما يحجز أصحاب المكتبات غالبية كمياتها المطروحة للبيع لمعارفهم . و كانت الاذاعة المدرسية في تلك السنين الخوالي تبث خلال الفُسح أغاني وطنية لاُم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وغيرهم ما يأجج الحماسة الوطنية والقومية في نفوسنا . كما تأثرنا بمدرسينا البحرينيين والعرب المُعارين للبحرين والذين كان معظمهم في ذلك الزمن الجميل ناصريي الهوى والاتجاه . وكم كان الكثير منا أيضاً شغوفاً بمادة التاريخ ، حيث كُنا مأخوذين بإعجاب وافتتان شديدين بالصفحات التي تُظهر صور الزعيم جمال عبد الناصر في كامل أناقته أو ما تحتويه بعض الصفحات من فقرات قصيرة مأثورة منتقاة من خطبه وإن لم تكن مُقررة ، وكذلك بموضوعات التاريخ الحديث التي تتناول ثورة يوليو والاحداث التي أرتبطت بها خلال الخمسينيات والستينيات .
أما خلال الفُسح ، فقد كان الجو مُفعما بأحاديث السياسة كأي جو طلابي جامعي عربي ، فإما نتجاذب الحديث بإعجاب عن آخر خطاب سمعناه للزعيم عبد الناصر ، وإما عما صدر من آخر عدد من مجلات وصحف مصرية تتناول الزعيم وتنشر صوره ، وإما في كثير من الأحيان ندخل في حوارات عاصفة مع قلة من أترابنا من ذوي الاتجاهات والميول السياسية الوطنية الاخرى ، وبخاصة البعثية واليسارية ، قبل أن تتطور انتماءات أكثرنا لاحقاً بالتحول لهذا الاتجاه أو ذاك الإتجاه من التيارات الوطنية الكبرى بعد غُروب شمس الناصرية . وما زلت أتذكّر جيداً المسيرة السلمية الطلابية الاحتجاجية ضد العدوان الاسرائيلي خلال أيام حرب يونيو / حزيران المعدودة في عام 1967 يتقدمها أساتذتنا العرب والبحرينيين ، وقد تم تنظيمها سريعاً على عجل فور انتهائنا من أحدالامتحانات النهائية ، وقد سارت على شارع الشيخ سلمان بشكل مُنظّم رغم طول مسافتها من مدرستنا ( الخميس نفسها ) إلى سوق المنامة وذلك في يوم قائظ تحت أشعة الشمس الحارقة لعله اليوم السادس أو السابع من يونيو 1967 وهي تهتف بحياة عبد الناصر منددةً بالعدوان . وأتذكُر كان من بين هؤلاء المدرسين الذين يتقدمون المظاهرة الاستاذان المرحومان : الفلسطيني أحمد السلامين ، والبحريني عبد العزيز الخواجة . كما مازلت أتذكر جيداً المسيرة الجماهيرية الجنائزية البكائية الكبرى المُهيبة التي خرجت بُعيد وفاته بمشاركة كلا الجنسين كباراً وصغاراً ومن مختلف فئات شعبنا ومناطق وطننا ، وقط شاركنا فيها ونحن طلبة في مستهل دخولنا المرحلة الثانوية قبيل بدء العام الدراسي الجديد انطلاقاً من جامع الفاضل بقلب المنامة حيث جابت أرجاء سوقها ثم جابت شتى أرجاء وضواحي المدينة ، وكانت واحدة من اكبر المسيرات في تاريخ البحرين الحديث .
وبغض النظر عن أي تحولات لاحقة في الاتجاهات السياسة لأي فرد من أبناء جيلي ، إلا أني لا أحسبُ أحداً منهم وقد حظي بمعايشة هذه التجربة الثرية إلا ويعتز بها أشد الاعتزاز باعتبارها فترة من فترات حياته الأثيرة على قلبه ومازال مكانها محفوراً في ذاكرته ووجدانه السياسية والاجتماعية والإنسانية ، وذلك لما لها من أثر بالغ في زرع البذرات الأولى لوعيه السياسي الطري والتي مهّدت بعدئذٍ لصقل شخصيته وتعميق وعيه ونضجه الثقافي والفكري مع تقدم عمره وتجربته ؛ ذلك بأني إذ أتأمل اليوم تلك المرحلة ينتابني حقاً العجب الشديد - مقارنة بكل أو بمعظم الاجيال اللاحقة - كيف جذبتنا بقوة الثقافة والأجواء السياسية في ذلك الزمان قبيل دخول سن المراهقة ونحن ما برحنا أطفالاً تلاميذ في تلك السن الغضة التي لم تكن أعمارنا تتجاوز الثانية عشرة أو والرابعة عشرة من العمر على الأكثر .. وما كان ذلك برأيي ممكناً لولا أننا عاصرنا الحضور الإعلامي والتعليمي القوي لآخر اشعاعات شفق اُفول الناصرية .
وإذ تحيي القوى الوطنية والتقدمية في أقطارنا العربية وفي بلدان عديدة من العالم الصديقة للعرب الذكرى المؤلمة التاسعة والأربعين لوفاة الزعيم والقائد الوطني جمال عبد الناصر التي رحل بعد غروب مثل هذا اليوم 28 سبتمبر / أيلول من عام 1970 ، وإذ تمر أيضاً ذكرى مرور نصف قرن على رحيله في العام القادم ، فإن تجربة عبد الناصر ستظل - إلى أجل تاريخي طويل تجربة- خصبة حية ، بما لها من ايجابيات كبيرة وبما عليها من سلبيات ، جديرة على الدوام للإستفادة من عِبرها ودروسها التي لا تنضب ، سواءً في أوقات الهزائم والمحن أم في أوقات الانتصارات .
* فصل من كتاب بعنوان " البحرين في زمن جمال عبد الناصر " ، تأليف إبراهيم راشد الدوسري ، ويتم تدشينه في حفل جماهيري هذا المساء بمناسبة مرور 49 عاماً على رحيل عبد الناصر، ويُعيد كاتب هذا المقال نشره هنا بتصرف . )