التجمع في موقف لا يحسد عليه


يعقوب بن افرات
2019 / 9 / 24 - 13:36     

وصف مراقبون قرار القائمة المشتركة بالتوصية على بيني غانتس كمرشح لرئاسة الحكومة بالخطوة التاريخية. واحتل الخبر عناوين الصحف المحلية وحتى العالمية. وقد نشرت صحيفة نيو يورك تايمز الامريكية مقال رأي لرئيس القائمة المشتركة ايمن عودة يفسر من خلاله قرار القائمة المشتركة بتفضيل غانتس على نتانياهو. وقد حظى ايمن عودة بتأييد واسع جدا من قبل المعسكر المعادي للرئيس دونالد ترامب وحليفه الاسرائيلي وربيبه نتانياهو. وبالرغم من وصف هذا الموقف "بالتاريخي" الا انه سرعان ما تبدد، والدعم لغانتس تبين وبسرعة كدعم مجاني وغير مرغوب فيه من قبل حزب "كاحول لافان" الذي يعتبر هذا الدعم مضرا لصورة ومصلحة الحزب. وبكلمات اخرى، يبدو ان ايمن عودة واحمد طيبي كمن دخلا عرسا دون دعوة.
في الحقيقة موقف الحزب الشيوعي الاسرائيلي التقليدي كان، وتماشيا مع موقف موسكو، يقضي بتفضيل حزب العمل اليساري على حزب حيروت اليميني الفاشي. ومن هنا جاء دعم حكومة رابين سنة 1992 ومن بعده دعم بيريس لرئاسة الحكومة في انتخابات 1996 امام نتانياهو وتكرر الامر في انتخابات 1999 عندما فاز براك على نتانياهو وهذا عندما تم الاقتراع بورقتين، واحدة للقائمة للكنيست والثانية لرئاسة الحكومة. وكل مرة كان المبرر شبيه، "اسقاط الغول" نتانياهو، ومنذ ذلك الحين وحتى الان بقى نفس المبرر الذي يستعمله ايمن عودة اليوم لدعم غانتس، اسقاط نتانياهو. واليوم وبعد ان حصلت القائمة المشتركة على مكسب "تاريخي" واصبحت ثالث كتلة برلمانية، تريد ان تعيد مجدها ونفوذها الى ما كان عليه قبل 27 سنة.
ولكن وللأسف الايام التي مرت لن تعود، ايمن عودة ليس توفيق زياد، بني غانتس ليس رابين، كاحول لافان ليس حزب العمل والجبهة اصبحت مركب رئيسي في قائمة مع شركاء جدد لم تكن موجودة في ذلك الحين. ففي الوقت الذي احتاج رابين لاصوات الجبهة والحزب الديمقراطي العربي في حينه من اجل منع سقوط ائتلاف حكومي من 56 عضو كنيست فاليوم حزب كاحول لافان لا ينوي باي حال الاعتماد على 13 عضو كنيست من القائمة المشتركة لتشكيل الحكومة وهذا بعد ان انتقلت الساحة السياسية الاسرائيلية نحو اليمين واكبر برهان على ذلك هو انكماش حزب العمل من 44 مقعد زمن رابين الى 6 مقاعد اليوم.
صحيح ان أعضاء الكنيست العرب الخمسة آنذاك كانوا بمثابة حجز الزاوية لتمرير اتفاق اوسلو ودونهم لم يكن لرابين الأغلبية المطلوبة. وادى ذلك الامر الى تأجيج الحملة اليمينية ضد رابين والتي كلفته حياته من ناحية، وكلفت الفلسطينيون ثمنا سياسيا بالغا اذ تم الاتفاق في حينه على ترتيبات مؤقتة مهدت في الواقع الطريق الى الازمة التي نعيشها اليوم حين استمر الاحتلال في الضفة الغربية وتم تشكيل سلطة فلسطينية فاسدة مما أدى فيما بعد الى انقسام فلسطيني خطير بين فتح وحماس وبين الضفة الغربية وغزة.
كل هذه الاعتبارات وغيرها دفعت حزب التجمع الى معارضة موقف ايمن عودة واحمد طيبي ورفض اقتراحهما لتقديم التوصية على غانتس امام رئيس الدولة. الا ان هذه المعارضة هي شكلية وحتى غير مفهومة. فاذا كان التجمع يعتبر دعم القائمة المشتركة لغانتس امرا غير مرغوب فيه، فوجود التجمع داخل القائمة المشتركة هو امر غير مرغوب فيه ايضا من قبل شركاءه الثلاثة. ومنذ البداية كان واضحا ان الجبهة وطيبي يعملان المستحيل لدفع التجمع خارج القائمة المشتركة وهذا من خلال التلاعب في موضوع ترتيب الكراسي. وقد انضم التجمع الى القائمة المشتركة صاغرا، وبعد ان جوبت كل مطالبه بالرفض. ولا يبقى له الا ان يشكر نتانياهو وحملته الشرسة ضد الجمهور العربي الذي استفز الناخب العربي وتسبب بارتفاع نسبة التصويت الى ما فوق 60% الامر الذي عاد بالفائدة على مرشح التجمع سامي ابو شحادة الذي اصبح عضو كنيست بالصدفة. وجدير بالذكر ان مازن غنايم كان قد رفض المكان الثالث عشر كون هذا المقعد غير مضمون.
وقد افتخر التجمع بأكثر من مناسبة بانه كان المبادر الى اقامة القائمة المشتركة بدافع من موقف "وطني" يعني ان الوحدة بين ابناء نفس القومية لمواجهة الصهيونية هو موقف مبدئي. وان "العروبة" او الهوية الفلسطينية تكفي كحد ادنى وقاسم مشترك لتجمع مصير الجماهير الفلسطينية في مناطق 48. الا ان هذا الفكرة الوطنية تبينت مع الوقت بانها حتى وان كانت تمكّن القوائم العربية من اجتياز نسبة الحسم والدخول للكنيست الا انه شطبت النقاش وتبادل الآراء بين التيارات والاحزاب المختلفة مما اثر سلبيا على الجمهور العربي الذي ابتعد عن السياسة وفقد كل الثقة بأعضاء الكنيست العرب. وقد تحولت القائمة المشتركة الى نادي للكراسي والميزانيات الحكومية دون ان يكون لها تأثير فعلي على الساحة السياسية او في حياة الشعب اليومية. فما قامت القائمة المشتركة هو تصفية النقاش والمواقف السياسية. ان السؤال المطروح ليس فقط ما هو موقف "المشتركة" وخاصة الجبهة والطيبي من غانتس بصفته مجرم حرب بل ما هو موقفها من مجرم اخر يفوقه اجراما مثل بشار الاسد، او ما هو موقفها من اتفاق أوسلو ومن سلطة ابو مازن؟
والحقيقة هي ان للقائمة المشتركة لا يوجد موقف سياسي يواجه الاحزاب الصهيونية. انها ترفض "قانون القومية" و "قانون كمينيتس" وتريد ميزانيات ولكن في القضايا الجوهرية وخاصة بكل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية لا موقف لها. ان دعوتها لحل الدولتين لا تختلف عن موقف حزب براك "المعسكر الديمقراطي" او حزب العمل وهو استمرارية لاتفاق اوسلو الذي كرس الاحتلال والاستيطان. كما وليس واضح ما موقف المشتركة من الصراع على الحرية والديمقراطية في العالم العربي وغير واضح ما هو برنامجها من قضايا مصيرية مثل الاقتصاد الرأسمالي، ازمة الاحتباس الحراري، حقوق المرأة والمثليين. لا نسمع صوت القائمة المشتركة عندما تمنع امسية غنائية او مسرحية بحجة العادات والتقاليد، هي تشتكي من العنف المستشري لكن تلوم الشرطة بدل ان تلوم العائلية التي هي أساس قوتها وليست مستعدة لمواجهة السلطات المحلية العربية التي تتفرج على العنف كأنه ظاهرة طبيعية لا يمكن علاجها. ففي حين يريد ايمن عودة واحمد طيبي وبحق ان يلعبا دورا فعالا على الساحة السياسية الإسرائيلية فهما يعتمدان بذلك على اساس ابقاء العرب قاعدة انتخابية لهما وقوة منفصلة عن المجتمع الاسرائيلي مما يضمن لهما 13 مقعدا في الكنيست ولكن دون تأثير كونهم غير مرغوب بهم من قبل أي حزب صهيوني وحتى غانتس نفسه قد تبنى شعار "اسرائيل اولا".
ولذلك طالما انضم التجمع الى القائمة المشتركة ودخل على اكتافها الى الكنيست فمن الواضح لماذا تبدو معارضته لتقديم التوصية لغانتس فارغة. ان التجمع بانغلاقه في الموقف القومي القديم لا يقدم بديلا للنهج الخاطئ الذي يقوده عودة والطيبي. ففي وقت العولمة وزوال الحدود بين الشعوب اصبح الفكر القومي عقبة كبيرة جدا امام كل حزب عصري يريد ان يطرح برنامجا سياسيا يعتمد على مبادئ عصرية صالحة لكل انسان دون علاقة بانتمائه القومي. لقد أصبحت أفكار مثل الشيوعية والصهيونية والقومية جميعها من الماضي. هي أفكار تقادم عليها الزمان وبقي منها فقط ايديولوجيات لتبرير ارتكاب ابشع الجرائم ضد الشعوب. ان النظرة القومية قادت التجمع الى الانعزال داخل القائمة المشتركة، داخل المجتمع العربي، وداخل المجتمع الاسرائيلي بشكل عام دون ان يطرح بديلا واقعيا وجديا للخط الذي يقوده عودة والطيبي.
حان الوقت لاتخاذ موقف جريء يوضح الخط الفاصل بين الاعتماد على القبلية والانغلاق القومي وبين الفكر الحر العصري الذي اصبح علم الثورات الشبابية في العالم العربي. علينا ان نحدد بشكل واضح - هل نحن مع حل الدولتين او مع حل الدولة الواحدة الديمقراطية؟ هل نحن مع الاقتصاد الرأسمالي او اقتصاد اخضر يراعي البيئة ويبني اساس تكنولوجي يضمن مستقبل المجتمع العربي واليهودي على حد سواء؟ هل نحن مع ثورات الربيع العربي في سورية، السودان، مصر والجزائر او ندعم الانظمة الحاكمة من طهران، عبر الرياض، الدوحة او القاهرة؟ هل نحن مع استمرار العائلية، العادات والتقاليد القاتلة التي على اساسها يتم قتل النساء وتصفية الحسابات بين افراد المجتمع او نحن مع القانون ومبادئ النظام الديمقراطي العصري؟ المكسب الانتخابي الذي حصلت عليه القائمة المشتركة لا يشكل نقلة تاريخية في حياة الجماهير العربية وهو يبشر بمزيد من العنف والفساد الداخلي مثل ما شهدنا في الأيام القليلة التي مرت منذ الانتخابات. حان الوقت لاتخاذ مواقف سياسية واضحة بدل التستر وراء "الوحدة الوطنية" التي تدفع المجتمع نحو الهاوية.