أما لا تقلقي فالراحم الله...الطب الخاص في تونس يتاجر بالبشر من أحل الحصول على المال


فوزي بن يونس بن حديد
2019 / 9 / 23 - 15:08     

لم أدرك أن الدمعة التي ذرفتها عينُها وسقطت على خدّها ستبلغني بلحظة الوداع الأبدي، ولم أدر أن وداع الأمّ قاس جدا وأليم، كان وجهها مضيئا وهي تدخل غرفة العمليات لإجراء عملية جراحية فورية على القلب المفتوح، بعد معاناة استمرت أشهرا كثيرة، سببها خطأ طبي قام به الدكتور نبيل الحمروني المتخصص في أمراض القلب حيث لاحظ تسربا بسيطا للدم من الصمّام المركب لها منذ 2015م، ولم يخبرها الطبيب ولم يخبرنا حتى نتصرف في ذلك الوقت، ولم يحدد لها موعدا قريبا ليتابع الحالة المرضية علما وأنه كان طبيبها الخاص وتثق في كل ما يقوله لها.
فكّرتْ نفسها أنها بخير عندما لم يقل لها شيئا في ذلك الحين فمارست حياتها بكل نشاط وهمّة عالية، وهي الأم التي لا تعرف الكسل والخمول، وتنهض باكرا لتقوم بشؤونها الخاصة والعامة، تبتسم في وجه كل من تلقاه، وتلقي عليه التحية الكبرى بقلب نقي صاف كصفاء وجهها حين توفيت، وكانت تخفي عني تعبها والصعوبات التي تعترضها، تتعب هي من أجل راحتنا، وتتحمل المشاق من أجل أن لا تعكر صفونا، وتخاف أن يمسنا سوء أو مكروه قليله وكثيره، بعد أن فقدت اثنين من أبنائها بسبب مرض السرطان، تحنّ علينا كثيرا وتشفق علينا إذا رأتنا متعبين، تمسح على رؤوسنا وتدعو لنا بالخير والتوفيق في كل أعمالنا، ولا أظن أن أي أم في العالم لا تقوم بهذه الأعمال من أجل أبنائها.
موعدها الثاني مع الحمروني كان بعد أشهر من التعب والدهشة والإرهاق، بعد أن ازداد التسرب توسّعا، وبدأ يرهقها ويحدّ من حركتها، وهي تقاوم وتقاوم، والطبيب في مكتبه المريح لا يدري ما يجري لها، ذهبت إليه متعبة هذه المرة، ولولا لطف الله تعالى لسقطت في مكتبه مغشيّا عليها، نظر لحالتها وأدرك خطأه وسارع إلى الحديث معها عن حالتها وأمرها أن تقطع مسافة 500 كلم لتجري الأشعة التي لم تسطع أن تقوم بها في مكان إقامتها لعدم توفر الأجهزة والكوادر البشرية اللازمة، كان عليها أن توافق من أجل سلامتها، وبعد أن أجرتها أمر الطبيب الجراح المعروف في تونس رؤوف دنقير بإجراء عملية جراحية فورية على القلب وتغيير الصمام، هنا أدركنا الموقف وبدأت خيوط مسلسل المعاناة الحقيقية.
الطبيب الجراح كلفنا بإجراء التحاليل وإحضار الأوراق اللازمة لإجراء العملية، وقمنا بذلك على أحسن وجه، وهي تتحمل الآلام والأوجاع، لا تنام الليل مثل ما ننام، ولا تأكل إلا اليسير من الطعام، ولا تستطيع التنفس بسلام، ولا تستمتع بالحياة، ولا تقدر على المشي إلا لخطوات، ولا تظهر لنا من الضعف إلا ما أجبرها على الإظهار، قوة وعزيمة ومقاومة بلا حدود، ولا ترضى أن تكون طريحة الفراش، تتعب وتتألم وتتوجع وتحاول أن تقاوم وتقاوم، حتى أنهينا كل الإجراءات وكنا مستعدين تماما لإجراء العملية في مصحّة خاصة بعد أن منحنا المستشفى موعدا خياليا بعد ستة أشهر من الآن والحالة خطيرة كما صنفها الطبيب الجراح، وعندما أخذت كل ذلك إلى الطبيب الجراح ليعلن موعد العملية بعد يوم أو يومين، أجّلها أسبوعا كاملا ولا أدري ما السبب، حينئذ أدركت أنك تكلم رئيس دولة وليس طبيبا له من الإنسانية ما يشفق على مرضاه.
كتمنا غضبنا وكظمنا غيضنا، ونحن نصارع الوقت، أسبوع كامل آخر ننتظر، طاعةً للطبيب الجراح، حتى منّ علينا بموافقة في الأسبوع الذي يليه، وقلوبنا مشفقة على الوالدة الغالية التي تتألم بيننا ولا نستطيع التخفيف من آلامها، بل كانت هي من تحاول أن ترعانا بحنانها وسؤالها وعطفها، وعندما ذهبنا للمصحة المذكورة المشهورة في تونس العاصمة في حي الخضراء، مصحة القلب والشرايين، أخذناها تمشي على رجليها وتدخل باب المصحة بكل ثقة طلبا للعلاج، تلقت كل الفحوص اللازمة قبل العملية، تركوها صائمة من منتصف الليل إلى ظهر اليوم الثاني، وعوض إجراء العملية في الصباح الباكر، أجراها الطبيب الجراح في المساء الساخن، حيث الأعصاب متوترة، والموقف حرج.
بعدها خرج الطبيب متشائما من الحالة، شق صدرها وأجرى العملية، لكنه فوجئ بضيق مكان الصمام الجديد، فوسّعه، وفي تلك اللحظة فارقت أمي الحياة، انزعج الطبيب وترك صدرها مفتوحا وأخذها إلى بيت الإنعاش واستخدم الأجهزة المساعدة لعمل القلب، لكنها محاولة يائسة وبائسة، كان الهدف منها تأخير التسليم والربح المادي الوفير، فهل هي سياسة المصحات في تونس اليوم بعد الثورة والتغيير، أم ماذا يجري في الكواليس؟، لا يهمهم المريض بقدر ما يهمهم ما يجنون من أرباح، وإلا فإنهم يأخذون منك كل شيء قبل أن يمسها طبيب أو ممرض أو مبنّج، باتت ليلة واحدة في غرفتها التي خصصتها لها المصحة، الغرفة 215، و3 ليال في الإنعاش كلفتنا العملية العشرات من الملايين، حاولتُ أن أراها وهي في الإنعاش رفضوا بشدة، توسلت إليهم لكنهم يصدونني في كل مرة، إلى أن جاء يوم الخميس الأسود الخامس من سبتمير 2019م، على الساعة التاسعة والنصف صباحا، ليعلن المبنّج وفاة الوالدة الغالية.
رحلت أمي الغالية الشريفة العفيفة الطاهرة النظيفة الرقيقة، النقية، البهية، لا ديْن عليها ولا إرث لها، رحلت ولكن لم أصدق أنها رحلت، رغم يقيني بقضاء الله تعالى وقدره، وإيماني بالأجل المحدّد، لكن الوجع والفقد والألم مفردات تصاحبني إلى اليوم بقوة وتغتال نفسي وتحوّطها، إنها الأم يا سادة، التي أوصى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بها خيرا، وإنها الصدمة الأولى، لا أخفيكم أني بكيت كثيرا وطويلا، لم أتحمل وقع الصدمة الأولى، بكى الجميع لفقدانها، من كان قريبا منها لم يصدق، رافقني الكمد والحزن طوال الفترة الماضية، لم أصدق ما حدث لأني لم أكمل مشروعي مع أمي لكنه قدر الله تعالى.
لكن الذي يحز في النفس أن الطب الخاص في تونس ينحو منحى الاتجار بالبشر، فهم يستغلون الحالة المرضية لفرض رسوم قاسية على الشعب وعلى من يأتي إليهم للعلاج، وقد ذكر لي غير واحد ممن صادفتهم في المصحة أن المصحات كلها تبحث عن الربح على حساب الصحة، تفكر في جني الأرباح قبل كسب قلوب الناس، فالناس متضايقون جدا من الوضع المزري في المصحات الخاصة والعامة من حيث المواعيد والخدمات والتكاليف القاسية التي تثقل كاهل المريض، وهذا نداء استغاثة للرئيس الجديد المنتخب في تونس بإجراء عملية تقييم واسعة للقطاع الصحي في تونس، العام والخاص وإنشاء مجلس صحي يعنى بإعادة هيكلة القطاع الصحي حتى يلجم الطمع والجشع المتواصل والمتفاقم ويكسر الفساد المستشري في القطاع الصحي، ويدرك الطبيب والموظف قيمة القسم الذي أداه وهو يؤدي هذه المهنة الشريفة.
رحمك الله أيتها الوالدة الغالية والأم الحنون، رحمك الله تعالى ورزقك الفردوس في جنات الخلد، مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وألهمني وجميع أفراد أسرتنا الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون.