محاولة في نقد الديمقراطية


محمد المثلوثي
2019 / 9 / 20 - 21:52     

الجوهر التاريخي للديمقراطية هة صناعة "المواطن الحر"، أي الفرد المتحرر من كل انتماء جماعي باستثناء جماعية الديمقراطية نفسها، هذه الجماعية المبنية على أساس الفرد بصفته الممثل الحقوقي للملكية. فالعامل لا يظهر في الديمقراطية بصفته عضوا في جماعية طبقية (الطبقة العاملة) بل بصفته مالك بضاعة قوة العمل والمتصرف الحر فيها. والرأسمالي أيضا لا يظهر كعضو في طبقة البورجوازية، بل كمالك للرأسمال والمتصرف الحر فيه. وهكذا فالعامل والرأسمالي لا يتعارضان في الديمقراطية بصفتهما طبقتين اجتماعيتين متنازعتين، بل بصفتهما مواطنين متساويين حقوقيا يتنافسان وفق القوانين الاقتصادية لعالم البضاعة، وما الديمقراطية سوى الآلية السلمية لتنظيم تلك المنافسة. وبذلك فإن الذي يذهب لصندوق الاقتراع ليس العامل بصفته عضوا في الجماعية الطبقية للشغيلة (لأن هذه الجماعية ملغاة مسبقا بتحول الجميع الى مجرد مواطنين)، ولا تعبر إرادته عن إرادة طبقية، ولا يمثل وعيه وعيا طبقيا، ولا تعود أهدافه أهدافا طبقية، بل بصفته الفرد المنافس، أو المالك الحقوقي لبضاعة قوة العمل. وحتى الرأسمالي، فإنه لا يواجه الصندوق بصفته عضوا في الطبقة البورجوازية، بل بصفته المتصرف القانوني في بضاعة الرأسمال. غير أن البورجوازية وإن كانت تجاهد دائما لإخفاء نفسها كطبقة، فإنها تتصرف فعليا كطبقة اجتماعية موحدة حتى في أكثر نزاعاتها التنافسية حدة، ذلك أن الدولة تقف دائما بصفتها الضامن الاستراتيجي لتلك الوحدة الطبقية البورجوازية، بنفس القدر الذي يقف فيه كأداة لمجابهة كل محاولة تنظم طبقي مستقل للشغيلة وعموم المسحوقين.
لكل هذا فإن وجود مزاج انتخابي ضد الممثلين السياسيين الرسميين التقليديين) للنظام الاجتماعي السائد لا يعبر عن نشاط ثوري فعلي لجمهور الفقراء ولا يعبر حتى على وعي بوجودهم الطبقي، بل هو في أحسن الأحوال يعبر عن تمثل خاطئ للنظام الاجتماعي، وبالتالي تمثل خاطئ لأسلوب مقارعته، لكنه عموما يعبر عن قدرة الديمقراطية على الإلغاء السلبي للطبقة الكادحة وتذريرها الى مجموع أفراد لا يملكون سوى ذلك الحس الأولي المباشر لوضعهم الاجتماعي البائس بصفتهم فقراء ومحرومين لا بصفتهم قوة طبقية ثورية هدامة.
وهذا الإلغاء الديمقراطي للجماعية الطبقية للشغيلة يترلفق مع خلق الأساطير الاجتماعية حول إمكانية الخلاص الفردي، ولنماذج "النجاح الاجتماعي" ("مريقل"، "سلكها"...)، كما التأثيم الذاتي للأفراد ("فاشل"، "مصطك"....). كما يترافق أحيانا، زمن الأزمات الاجتماعية الحادة، مع خلق أسطورة الفرد المخلص، والزعيم المنقذ، والسياسي الشريف المقاوم للفساد..... وبذلك إيهام المسحوقين أنخ يمكنهم أن يتحرروا بدون أن يباشروا هم بأنفسهم تحريرهم الذاتي، وبدون أن يشكلوا أدواتهم الطبقية لإدارة نزاعهم ضد النظام الذي يستعبدهم، والاكتفاء بوضع ورقة في الصندوق في كنف الديمقراطية وبطريقة "مدنية" وسلمية هي أقرب للرومنسية الشاعرية منه الى دنس الحياة الواقعية ومصالحها الطبقية المتناقضة.
ولو نظرنا للأمر من زاوية حقوقية بحتة فإن الديمقراطية ليست انتخابات حرة، تداول سلمي على السلطة، حرية التعبير، حرية التنظم الحزبي والجمعياتي... فهذا كله بهرج خارجي يتغير ويتبدل وفق الظروف الخاصة لهذه الدولة أو تلك، بل إن جوهرها هو "حرية التملك" أو كما تعبر عنه كل الدساتير الديمقراطية "حق الملكية مقدس"، وهذا بالضبط جوهر النظام البورجوازي. لذلك فالديمقراطية ليست مجرد شكل للإدارة السياسية، بل هي الشكل الخاص للإدارة الاجتماعية للنظام البورجوازي، أو لمجتمع المركنتيلية. وهكذا فإن التعارض الفعلي، في العصر البورجوازي الحديث، ليس بين الديمقراطية والديكتاتورية، أو بين الديمقراطية والثيوقراطية، أو بين الديمقراطية والفاشية (فهذا تعارض بين صور الديمقراطية نفسها)، بل بين الديمقراطية (النظام البورجوازي والمركنتيلية عموما) وبين القوة الثورية التي يصنعها الرأسمال نفسه بتجريده الدائم والموسع للمنتجين من وسائل الإنتاج، هذه القوة التي تسعى الديمقراطية لاستيعابها من خلال تفتيتها الى مجموع مواطنين أحرار متساوين في الحقوق والواجبات، واختصار حركتهم في العملية الانتخابية من جهة، ومن جهة أخرى قمعها كلما حاولت الدخول الى مسرح التاريخ بصفتها الطبقية، أي عندما تتجاوز حركتها في حركتها وجودها الفردي المتذرر. وليس غريبا أن كل الدساتير الديمقراطية تتضمن ما يسمى عادة "قانون الطوارئ"، أي تلك الحالة الاستثنائية التي تستوجب من الديمقراطية التخلي عن بهرجها الخارجي لتستل خناجرها المخفية في طيات مؤسساتها القمعية، بعد أن تكون مؤسسات القمع الأيديولوجي والماتراكاج الإعلامي كما مؤسسات الضبط النقابية والحزبية والجمعياتية قد استنفذت طاقتها.
أخيرا فإن الديمقراطية (والديمقراطية تمثيلية وليبرالية بالضرورة) ليس تغيير شكل الدولة (ديمقراطية مباشرة، ديمقراطية شعبية، ديمقراطية عمالية....الخ) بل تغيير أسلوب إنتاج وتةزيع الثروة الاجتماعية، وهذا التغيير (الثوري والعنيف بالضرورة) لأسلوب الإنتاج الرأسمالي السائد وحده، وفي سياقه فقط، تظهر البدائل لإدارة اجتماعية جديدة بعيدا عن النماذج الذهنية التي يبتدعها المثقفون والايديولوجيون في مخيلاتهم التأملية والتي يظنون أنه يمكن "تطبيقها" من خارج الحركة الثورية نفسها، والأسوأ أنهم يتوهمون ويوهمون بتحقيقها من داخل الديمقراطية لا ضدها، أي ضمن النظام البورجوازي لا ضده. فالمجالس، أو السوفياتات (وهي الترجمة الروسية للمجالس) أو الكومونات أو اللجان...الخ لم تظهر في تاريخ الطبقة الثورية بصفتها شكلا للحكم السياسي ضمن النظام الديمقراطي، بل كشكل للتنظيم الذاتي لتلك الطبقة، وطريقة لتعبر من خلالها عن أهدافها التاريخية. وما هو الهدف الرئيسي للحركة الثورية إن لم يكن الإطاحة ب"حق الملكية مقدس"؟ أي ضرب المركنتيلية في شكلها التاريخي المكتمل: الرأسمال. وهو ما لا يعني سوى النضال ضد وخارج النظام الديمقراطي نفسه. وبهذا المعنى فقط فإن كل حركة ثورية هي حركة مجالسية، حركة الانتظام الطبقي لعموم المسحوقين لا من أجل تنظيم وتطوير نضالاتهم فحسب، بل أيضا من أجل المباشرة في الاستعاضة عن الدولة وجهازها القمعي والبيروقراطي بإدارة اجتماعية تنهي الوظائف السياسية الطفيلية وتحويلها الى وظائف اجتماعية لإدارة الشؤون اليومية، وبالتالي إنهاء كل امتياز في هذه الوظائف، وإنهاء طابعها التمثيلي نحو المشاركة المباشرة لكل فرد في الإدارة الاجتماعية. ولعل ظهور لجان حماية الأحياء بذلك الشكل التلقائي والموسع أثناء المد الانتفاضي بعد 17 ديسمبر 2010، ورغم محدوديتها التاريخية، ورغم ضعفها الهيكلي من عدم بروز استقطاب طبقي واضح داخلها، وهو ما سمح للأحزاب باختراقها ومن ثمة استيعابها، بل وتحويلها في أحيان كثيرة الى أذرع حزبية، ليتم الانقلاب عليها تحت مسمى "المجلس الوطني لحماية الثورة" تحت جناح البيروقراطية الفاسدة لإتحاد الشغل، هذا المجلس الذي سيتم تثبيته لاحقا بشكل قانوني ورسمي تحت مسمى "هيئة بن عاشور" والتي ستكون أداة الانتقال الديمقراطي، أي أداة الالتفاف الأخير على المسار الثوري، رغم كل ذلك فإن تلك اللجان، والطريقة التي ظهرت بها كما سياقها الانتفاضي، يعطينا فكرة أولية، وتجربة مهمة لفهم المغزى الحقيقي للمجالسية، أي لحركة الانتظام الذاتي للطبقة الثورية حيث تتحول (تلك المجالس، اللجان....) من وسيلة لمجابهة النظام الى نواة أولية للتنظيم الاجتماعي الجديد، وما نجاح الثورة الاجتماعي سوى اكتساح ذلك التنظيم المجالسي لكل السطح الاجتماعي وفرضه كأمر واقع من الأسفل، من قاع المجتمع، ضد وخارج كل أجهزة الدولة وديمقراطيتها.
وما من شك فإن كل محاولة لعزل موضوعة المجالس أو اللجان... عن سياقها الثوري، بل وتحويلها في شكل كاريكاتوري الى برنامج انتخابي، هو في الواقع تحويلها الى موضوعة حقوقية شكلية وبالتالي افراغها من كل مضمون تثويري، ويمكن القول أن ذلك قد يكون طريقة(حتى بدون وعي فاعليها) لاستيعاب الاستياء الجماهيري المعمم، ومن ثمة استباق تحول ذلك الاستياء الاحتجاجي الى حركة ثورية فعلية تضع النظام الديمقراطي البورجوازي موضع النقد العملي.