مقدمة كتاب أحزاب الله بقلم الشيخ علي حب الله


محمد علي مقلد
2019 / 9 / 19 - 22:04     

تقديم
بقلم الشيخ علي حب الله

بسم اللّه الرحمن الرحيم
«إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» - فالتغيُّر صراط التطور.
«دع مائة زهرة تتفتح» - شعار الثورة الثقافية زمن ماوتسي تونغ في الصين.
«التاريخ لا يطرح على جدول أعماله من القضايا والمهمات إلا ما تكون البشرية قادرة على تحقيقه» - ماركس.
الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.

ظننت بادئ ذي بدء، حينما شرعت في قراءة نسخة كتاب «أحزاب الله» المعدة للطباعة، أني أمام بحث مشبع بدراسات جيلز كيبل، وأوليفيه روا، وفرنسوا بورجا، وروجيه غارودي. حسناً لا بأس، إذ لا ضير في استذكار بعض من قراءاتي القديمة: «يوم الله» «النبي والفرعون» «تجربة الاسلام السياسي» «الاسلام السياسي في زمن القاعدة» «الأصوليات المعاصرة» وغيرها من الكتب التي اعتنت بتحليل ظاهرة الاسلام الراديكالي، أو بظاهرة الأصوليات الدينية.
ولكن، كلما كنت أغذّ السير في قراءة هذا الكتاب، كلما أدركت أنني أمام قراءة جديدة في تحليل هذه الظاهرة، دراسة تعتمد المنهج الوصفي في قسماتها العديدة، ناهدة إلى تفكيك العقل الحزبي دينياً كان أم يسارياً أم قومياً، وكلها تزرع في عقول أصحابها واتباعها وهم امتلاك الحقيقة المطلقة ونشوة اليقين المزيف.
لقد أجاد المؤلف في الإضاءة على الصيرورة التاريخية للعمل الحزبي في العالم العربي، من لدن أن تشكلت طبقة المثقفين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأكثر ما يدعو إلى الغبطة أن هذه الطبقة في مرحلتها المعاصرة تمارس النقد الذاتي واستخلاص العبر.
إن المفكر بعد أن يستوفي جميل الرؤية واتساعها بموضوعية، يسمح لذهنه أن يحلق فوق معلوماته وأفكاره ومفاهيمه، لينظر إلى ثقافته من الخارج، لا من الداخل، ضماناً لصوابية الحكم والرأي، بذلك يقيِّم ما إذا كانت الثقافة العربية بوضعها الراهن قمينة بحمل مشروع نهضوي قومي او لا، وما السبل إلى تطويرها، وأهمها طريق النقد، وهذا ما فعله الدكتور مقلد بجدارة في هذا الكتاب.
إن أعظم ما أنتجه العقل البشري فيما يخص إدارة الجماعات هي فكرة الدولة، ولقد أصاب الدكتور مقلد كبد الحقيقة بإضاءته على الاستبداد - متابعة للكواكبي - كأهم معوّق لتقدم الأمة، لذا، لم يكن بالإمكان لأي مشروع إصلاحي سوى إزالة هذا الحاجز الأهم قبل غيره، «وشطف الدرج يبدأ من فوق»، في ظل أنظمة مهترئة تمثل أهم المعوقات الداخلية في المجتمعات العربية، من دون أن ننسى دور القوى الغربية في الحكم على المنطقة العربية بالفقر، والتخلف، والتجزئة، فهي تبني ازدهارها على إفقارنا، وتقدمها على فرض التخلف علينا، وأمنها على تحطيم أمننا كما هو ماثل في عصر الربيع العربي وما بعده، وإنه ليهولك مقدار التبذير في المال والرجال فيما ترصده الأنظمة العربية ضد بعضها البعض، ثم نعيب زماننا والعيب فينا وليس لزماننا عيب سوانا. حتى غدت مقولات مثل التنمية، والسوق العربية المشتركة، وفلسطين، والوحدة العربية، وأزمة التراث والحداثة، ومشكلة الدين والدولة، والقائمة تطول، صور متخشبة، ومادة للتسلية. لقد نجحت القارة العجوز بإنشاء الاتحاد الأوروبي مع اختلاف تلك الدول في اللغة والتراث والعادات والتقاليد، وفشلنا نحن في إنشاء الولايات المتحدة العربية على غرار الولايات المتحدة الأميركية.
على اي حال، الكلام عن أحزاب اللّه يستدعي دراسة العقلية الحزبية بدقة، هذه العقلية التي تجعل من رموزها ومفاهيمها «طوطماً» يمتلك قداسة سرت إليه من تاريخ موغل في القدم، وهذا ظاهر في الأحزاب الدينية، ولا تخفى في غيرها، لكن الدكتور مقلد اقتصر في دراسة الظاهرة الحزبية على المنهج الوصفي.إن جعل تبديات هذه الظاهرة وحدها محط النظر، يترك القارئ في حيرة، وتساؤل عن الأسباب والعلل الكامنة فيها، والمنتجة لهذه التمظهرات، وهي فجوة - ربما تعمدها الدكتور مقلد - سأحاول أن أسدها ببيان المحركات الأساسية، والأيديولوجيات التأسيسية.
نعم، يستعرض الدكتور مقلد ببراعة مواقف وأفكار سياسيين، يمينيين ويساريين، وتعليقات مهدي عامل عليها، وهي معلومات غنية جداً بلا شك، لكنه لا يبين القبليات النظرية التي تكمن خلف هذه المواقف أو تلك الأفكار اعتماداً على ثقافة القارئ وسعة اطلاعه.
الكتاب غني بوقائع سياسية في تاريخ لبنان، وممارسات رجال السياسة والمنظرين الذين ينتمون إلى أيديولوجيات متعددة، لذا احتوى الكتاب على أفكار غزيرة في هذا الموضوع، وأعتقد أن المصطلحات التي تعرض لها في العناوين لم تترك زيادة لمستزيد.
والحق يقال، ساهمت كتابات مهدي عامل بتفصيلاتها الكثيرة في بيان أكثر وضوحاً مدى تطابق مبادئ الاشتراكية على المجتمع في العصور الحديثة، وهو ما يذكرنا بظاهرة الشرَّاح على المتون في الحضارة الاسلامية، وقد ساهم بقسط وافر في إبداء تفسير ماركسي لتاريخ المنطقة العربية إلى جانب طيب تيزيني وغيره، لا بل إنه استشرف تطورات الأوضاع والأحداث وفق نظرياته عن الصراع الطبقي، وقدرة البرجوازية على إدخال الأمم المتخلفة إلى حلبة الحضارة ونمط الإنتاج الكولونيالي ومهدي عامل كغيره من الماركسيين يريد أن يحيط بالآليات التي تحرك التاريخ والتي تقضي في بعض تفاصيلها أن كل طبقة في أتون الصراع الطبقي تحمل في أحشائها بذور فنائها، فمن أين للرأسمالية أن تجدد نفسها؟
وماركس في كتابه «رأس المال» وغيره، نبّه إلى مواطن الخلل في النظام الرأسمالي، وأبان العوامل التي تؤدي إلى بروز الاشتراكية، لكنه بذلك أخّر الأسباب المؤدية والمفضية إلى الاشتراكية، فقد كانت أفكاره موضع اهتمام الأنظمة الرأسمالية، والمنظرين لها والمنافحين عنها، فعالجوا ما نبه إليه ماركس، بإنشاء نظام الضمان، وتنظيم العمل، وتقديم الخدمات، وتحسين ظروف العيش، وحقوق الانسان، والعدالة والمساواة أمام القوانين.
الماركسية كما كثير من مدارس فلسفة التاريخ، أخضعت التاريخ والمجتمع لقوانين العلية، ومفكرو الرأسمالية تنبهوا لهذه القوانين، وعرفوا مفاصلها، إذا لم نكن نريد القول إنهم يتحكمون بها جيداً، البطالة، والفقر والتضخم، والثورة وأسبابها، الصراع الطبقي إلى غيرها من المقولات تم التحكم بها من قبل الرأسمالية وبامتياز، فلا ثورة ولا ما يحزنون، وإن كانت هذه القوى المحركة للتاريخ تطل بين الحين والآخر، لكن النظم الرأسمالية نجحت في ردم الهوة بين الطبقات أو فقل جسَّرتها. هل يجب أن نعترف مع فوكوياما بنهاية التاريخ، وأن الرأسمالية والليبرالية هي النموذج الأرقى، وأن العقل البشري لا يمكن - ولو تصوراً - أن يأتي بنظام أرقى؟
بنية الإسلام السياسي
يبدو أن الدكتور عادل ضاهر قد كفانا مؤنة تحديد البنيات الأساسية المشتركة للحركات الاسلامية على الشكل التالي:
1 - النقل ذو أسبقية على العقل.
2 - لا يمكن للإنسان أن يتدبر أمور دنياه إلا بتدبير إلهي.
3 - لا اجتهاد في موضع النص.
4 - لا تعارض بين قيام دولة اسلامية والديمقراطية في بعض جوانبها.
5 - الاسلام دين ودولة.(عادل ضاهر، أولية العقل: نقد طروحات الاسلام السياسي، دار أمواج، بيروت، طبعة أولى، 2011م)
لكن هل تعبر هذه الأساسيات عن أيديولوجيا؟ إن فرنسوا بورجا يعرف الاسلام السياسي بصورة مغايرة جداً، تعريفاً لا يتمركز حول نواته العقائدية، إنما حول إطاره الاجتماعي. يقول: إن اللجوء إلى مفردات الاسلام تقوم به في بادئ الأمر الطبقات الاجتماعية التي لم تستفد من مظاهر التحديث الايجابية، والتي تعبر عن مشروع سياسي بديل لسلبيات التطبيق الحرفي للتراث الغربي، وهي بذلك تسمح - عن طريق إيجاد مصالحة بين رموز الثقافة المحلية والثقافة الغربية - بتوظيف العناصر الأساسية فيما يطلق عليه التراث الغربي (فرنسوا بورجا، الاسلام السياسي في زمن القاعدة، ترجمة: لورين زكرى، دار العالم الثالث، القاهرة، ط 2، 2001م، ص 71-72).
هذا الاتجاه إلى التأكيد على الجذر الاجتماعي للاسلام السياسي لا نجده عند بورجا فحسب، بل نجده كذلك عند فالح عبد الجبار (العمامة والأفندي، سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني، ترجمة أمجد حسين، منشورات الجمل، بيروت بغداد 2010م) (وراجع أيضاً الاسلام والسياسة والحركات الاجتماعية، تحرير: بيرك، ولابيدوس). ومهما يكن، فإن ما ذكره عادل ضاهر، لا يشكل أصلاً نواةً عقائدية متفقاً عليها، فإن الالتباس يحيط بأكثرها، خذ مثلاً مفهوم الدولة، فإن هذا المفهوم ما زال ضبابياً في ذهن الاسلاميين. وهو يعكس خلطاً بين مفهوم السلطة وبين مفهوم الدولة التي هي شخصية معنوية في الاصطلاح القانوني السياسي، يشهد لذلك، أن الشريعة الاسلامية والفقه الاسلامي في ظل نظام الخلافة، لم يعرفا مفهوم الشخصية المعنوية، على أن التفكيك بين مفهومي السلطة والدولة، يشكل محوراً يسلط الضوء على الإشكالية التي طرحها في مطلع القرن الماضي علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم.
إذا تجاوزنا رأي حزب التحرير في الديمقراطية وانها كفر، قد يحلو للبعض أن يزاوج بين الاسلام بنظامه الذي يدعو إلى الأخذ بالشورى وبين النظام الديمقراطي، وهذا موضوع قد نتعرض له، لكن مهما كان معنى الديمقراطية، وهذا ما توسع فيه حسن قبيسي، هي الاعتراف بالآخر، احترام الحريات، أو إنها الحد من سلطة الدولة.. فإنها تحدد وصول الفرد إلى السلطة بآليات يمكن اللعب بها بسهولة، فالحاكم في الدولة التوتاليتارية وصل إلى السلطة بآلية الانتخاب التي تمثل إرادة الشعب، وقد تم صوغ هذه الإرادة عن طريق الميديا، ووسائل الإعلام العملاقة التي جعلت الإنسان والشعوب ذا بعد واحد، كما أشار إلى ذلك ماركيوز في كتاب يحمل نفس العنوان «الانسان ذو البعد الواحد». هذه الوسائل الاعلامية تستثير الشعب وتوجهه باتجاه واحد حين تُحرك فيه بصورة ذكية غريزة القطيع التي تحدث عنها فرويد في كتابه «علم نفس الجماهير»، وتوسع فيها غوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجيا الجماهير».
يضاف إليه، أن الناتج في الانتخابات الديمقراطية هو حكم الأقلية، وليس الأكثرية. لنفرض أن عشرين حزباً رشح كل واحد منهم شخصاً للتنافس وللوصول إلى السلطة، ففي النهاية سيكون الفائز واحداً منهم، وبالطبع هذا الواحد سوف يمثل الأقلية، لأن ناخبي مجموع الأحزاب الخاسرة أكثر عدداً، فالحاصل أن الذي يحكم هم الأقلية.
ثم عن أي شعب نتحدث؟ عن هذه القطعان!!! التي تتقاذفها الأهواء والمصالح الشخصية، وتلعب بعواطفها ومشاعرها، وتزدري عقولها دهاة السياسة؟ فاتساع القاعدة الجماهيرية التي تنادي بمبدأ معين، لايمكن أن يكون مقياساً لنجاح هذا المبدأ مع غياب النضج الجماهيري، وهبوط مستوى الوعي لديها. والتاريخ زاخر بتجارب واقعية كثيرة تفيد أن انعدام الوعي، أو تزييفه، يمكن أن يؤدي إلى التفاف الجماهير حول أمور لا يمكن أن تكون لها قيمة في ذاتها. وعليه فالديمقراطية معضلة بحد ذاتها، لكنها نظام الحكم الأقل سوءً (راجع: دوروثي بيكلس، الديمقراطية، ترجمة: زهدي جار الله، دار النهار، بيروت 1972).
وقد أشار العديد من الكتاب إلى أن الديمقراطية المعاصرة هي نسخة مغايرة للديمقراطية بمعناها القديم في أثينا (راجع أيضاً، نظام الإثينيين لطه حسين) كل النواة العقائدية قابلة للنقاش حتى بنظر دعاة الإسلام السياسي، وهذا ما يقوي نظرية فرنسوا بورجا في أثر الإطار الإجتماعي في بروز هذه الظاهرة، من دون أن نغمط من قيمة الجانب العقدي. لكن هذا شيء وما يصدر من نصوص وأقوال عن كثير من قادة الحركات الأصولية الشيعية والسنية شيء آخر، لأنه إذا أمكن أن يطلق عليها مصطلح فكر فهو على سبيل المجاز، لأنه وبالاستقراء لا يوجد ما يليق بهذا الاسم في نصوص هؤلاء، وإنما مجرد شعارات مبتسرة، وفتاوى غالباً ما تكون متسرعة، لكن لا يخدعنَّك كون هذه النصوص فقيرة بشكل مدقع، فإنها أقوى مما تظن بكثير، لا لأنها استطاعت تجييش الناس بالملايين بسبب شعاراتها البسيطة التي يسهل على العامة فهمها، بل لأن هذا الفكر وإن قرر الانسحاب لصالح هذا الشعار أو ذاك، إلا أنه قابع في روحه، لأنه يتكئ على تراث علمي غاية في المتانة، إنه كجبل الجليد، لا يظهر منه على سطح المحيط إلا مقدار بسيط قياساً لحجمه.
إنها خطابات تعتمد على اللاوعي الجمعي في قوتها، ومن هنا مقدرتها مع النصوص الدينية على تفجير الغرائز التحتية الضيقة، والعصبيات الطائفية. إنها معضلة محيرة، حتى أننا لا نملك تصوراً لكيفية الخروج منها، وكيف نخرج منها و الماكينة الإعلامية الغربية لا زالت تدعم هذا الخطاب عبر عشرات المحطات التلفزيونية ومواقع التواصل الإجتماعي، فالمصائب لا زالت أمامنا أكثر مما هي وراءنا، والمخزون الطائفي المحتقن والمليء بالعنف لم يفرغ - على ما يبدو - كل شحناته بعد، إنه مخزون تاريخي متراكم منذ زمن صدر الإسلام. هل من شك بعد ذلك كله في أهمية الاطلاع على آلية عمل المنطق الداخلي لخطابات الإسلام السياسي؟
هذا المنطق هو ما أشارت إليه أكثر من مرة، واحدةٌ من تلامذة هيدغر وهي حنة أرندت المشهورة بعملها على تحليل الظواهر الفاشية والتوتاليتارية، من أن الأمر لا يتعلق بالإكراه أو الإستحسان، وإنما بالفهم، فأول شيئ يجب أن نفعله أمام ظاهرة من هذا النوع هو أن نفهمها، أعني فهم مبرراتها ومنطقها الداخلي، والتخريجات النظرية ومنطلقاتها الأساسية الضاربة في التاريخ.
غير أن الدكتور مقلد اختط لنفسه منهجاً ينأى به عن الخوض في غمار فهم المنطق الداخلي لمجموع الظواهر مكتفياً بالبحث في التجليات، فهو بعد أن بين أن ثمة فئات ثقافية ثلاثاً تعمل في حقل الثقافة: فئة تهتم بإنتاج الأفكار والنظريات كالعالم، والفنان، والفيلسوف وفئة تهتم بتطبيقها كالطبيب، والمحامي، والمهندس، وكالحزب في المجال السياسي.وفئة تنشرها كنشطاء الأحزاب، والمنظرين، والعاملين في حقلي الإعلام والتعليم.
إلى أن قال: الفئة الرابعة: وهي التي ينتمي إليها أهل الممارسة النظرية، وهي التي تبحث في العلاقة بين الحقول الثقافية الثلاثة الآنفة الذكر، مسترشدة بالفكر النقدي منهجاً، جاعلاً من بحثه حصراً في اطار الممارسة النظرية هذه، وهو مصطلح يلتقي مع مصطلح «التفكير المزدوج» عند «جورج أورويل» في روايته 1984 في أنه مبتكر، فلا وجود له في المعاجم الإصطلاحية المعتمدة مثل موسوعة لالاند، لكن هذا لا يهمّ.
ثم قال:
كما لن يكون من بين هموم الكتاب تحليل المضمون الطبقي للصراعات القومية ولا البحث في تأسيس النظرية والعوامل التي تنهض عليها قضايا الأمة العربية الموجزة بالثالوث المقدس، الوحدة والحرية والاشتراكية، بل سيركز على الطرق والوسائل والأساليب التي استخدمتها الأحزاب لتوظيف هذه الأسس وتلك العوامل في عملية التعبئة الحزبية وفي رسم خطوط المواجهة بين جبهة الأعداء وجبهة الأصدقاء. وكذلك الأمر فيما يتعلق بمسائل الفقه والمعتقدات الدينية التي لن يتناول هذا الكتاب أسسها الفلسفية واللاهوتية، بل الفكر الديني، أي تجسيدات الوعي الديني في عقول شرائح ومعممين ومبشرين لا يبتغون من شرح العقيدة للمؤمنين وتوجيههم لممارسة طقوس الإيمان بطريقة «شرعية» بقدر سعيهم إلى إعداد جنود في جيش الاستيلاء على السلطة السياسية.
إذاً، ينصب الإهتمام على تجسيدات الوعي الديني، وتبديات هذا التجسد بما يذكرنا بظواهرية (فينومينولوجيا) هوسرل، وهذا ما قد نغفره في ايديولوجيات الأحزاب على اختلافها قومية، ناصرية، ماركسية... لكن فيما يتعلق بالأحزاب الدينية فإن الأمر مختلف جداً، ذلك أن النص الديني نص آسر لا يسمح لأتباعه إلا بتقمص دور المتلقي، وهو فوق ذلك يتميز عن باقي الايديولوجيات ببعد ميتافيزيقي.
بالطبع، يمكن الاختصار في الدراسة على ظواهر الوعي الديني ومديات تلونه في عقول اتباعه غير أن دراسة كهذه ستكون مبتسرة وغير وافية بنظر القارئ، لأنها ستجعله في حيرة من أمره، إذ كيف يمكن للنص الديني أن يعطيني الشيء ونقيضه، كيف يمكن لهذا النص أن ينتج اعتدالاً دينياً، كما في الاسلام الماليزي، والاندونيسي، وربما التركي في تصالحه مع الحداثة، وقيم الديمقراطية مع منظومة قيم في السياسة، والاقتصاد والمجتمع، والثقافة، وطريقة حياة ومنهج تفكير.
وفي الوقت عينه، ينتج هذا النص إسلام حزب التحرير اتباع تقي الدين النبهاني، حيث الديمقراطية في ايديولوجيا هذا الحزب كفر صريح، مع ما تحمله هذه العبارة من شحنات فكرية وعاطفية.وأيضاً، النص نفسه ينتج السلفية الدعوية والسلفية الجهادية المتمثلة في القاعدة وداعش وحركة التكفير والهجرة، وبوكو حرام....
هذا الأمر لا نجده فيما يتعلق بالايديولوجيات اليسارية وغيرها، نعم قد تجد بعض التمايزات مما يسمى في المنطق الأرسطي «فرق غير فارق»، ومثلما هو الحال بين الاشتراكية الماركسية، والاشتراكية الفابية.
وعلى نفس الشاكلة أفكار تروتسكي وغرامشي وفيما كتبه اسحاق دويتشر، أعود وأقول إن هذه الاختلافات فرق غير فارق، لفقدانها البعد الميتافيزيقي، الذي سيؤدي عدم العناية به إلى فقدان الرابط بين أفكار سروش، وملكيان، وشبستري، وآركون، والجابري ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، والصادق النيهوم، وفضل الرحمن وأحمد خان، والأفغاني، وعبدو، والقائمة تطول من جهة، وبين أفكار سيد قطب والبنا والظواهري، وإبن لادن، وقائمة طويلة من شخصيات في شرق البلاد وغربها من أخوان وسلفيين. إنه النص المقدس بأبعاده الميتافيزيقية وهذه ميزة لا نجدها في نصوص اليسار والأحزاب الأخرى.
ليس الأمر حكراً على الإسلام وحده بل كل الأديان تشترك في هذه الخاصية، لأنها كلها إلا ماندر (البوذية) تملك هذا البعد الميتافيزيقي في نصوصها، وكل يدعي فهم هذا النص، وتأويله وإذا لم ندرك البعد الميتافيزيقي والطاقة التأويلية الكامنة فيه، فسوف لن نرى الفرق بين الكاثوليكية، والأرثوذكسية، والبروتستانتية، وسوف لن نعرف ما الذي يجمع بين توما الأكويني وقبله القديس أوغسطين وبين لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية وهكذا...
تكمن أسباب كل هذه التمظهرات في النص الديني المتفجر، وهذا ما تفتقده الأحزاب غير الدينية، لذا يجب النظر إلى الإسلام السياسي على أنه ايديولوجيا بالأساس، لكن في حقل السياسة - وهي فن الممكن- لم نجد جهداً مبذولاً لجمع اليسار مع الاسلام السياسي، ذلك لأنه مع الاتحاد في الأهداف، لم تتحد الوسيلة، مع أن ذلك ممكن، لأن الواقع السياسي والاجتماعي سار في طريق حتّم تاريخياً بروز الاسلام السياسي على أنقاض ما سبقه، بعد إخفاق الحركات القومية وانحسار المد الماركسي، أما المد القومي الذي أرسيت مبادئه النظرية بين الحربين على يد ساطع الحصري، ثم المد الناصري، فالماركسي وغيرها فلم يقدّموا شيئاً يذكر على صعيد نهضة الأمة، بل أسهما في هدر طاقاتها وكبح تطلعاتها، إن على الصعيد الداخلي المتمثل في فساد الأنظمة السياسية الغارقة في العائلية، والمحسوبيات، إذ ضاعت الكفاءات على حساب الولاءات، وانتشرت البطالة والفقر وغيرها من الأمراض الاجتماعية، أم على الصعيد الخارجي حيث سادت التبعية السياسية والاقتصادية للغرب، فبان العجز فيما يخص القضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي، وكذلك فيما يخص الدخول في الحداثة، وبات يفصلنا عن الغرب مئات السنين الحضارية، ولا ندري كيف نجسرها أو نردمها، وهنا يطيب لي - قبل تجاوز هذا الموضوع - أن أذكر منقبة مهمة، سادت زمن سيطرة اليسار في المنطقة العربية، وهي أن له الفضل في إيجاد طبقة مثقفة، وهذا ما تفتقده جداً الحركات الإسلامية اليوم.
أزمة الاسلام السياسي
إن أخطر ما يعاني منه الاسلام السياسي، بل أخطر ما في الاسلام السياسي، هو اليقين على الصعيد السياسي والاجتماعي والاجرائي، مثل العلاقة مع الآخر، الحقوق، الحريات، إلى غير ذلك، إن اليقين الذي يجب أن يحمله المؤمن في قلبه هو اليقين بالميتافيزيقيا «وبالآخرة هم يوقنون» لماذا؟ لأنه ومن الناحية التاريخية كانت عصور اليقين في حياة البشر هي عصور الأنحطاط. لقد كان اليقين سمة البدائي، فسادت حينها الأساطير التي لم يتطرق إليها شك، وكذلك الحال في العصور الوسطى كان المعتقد اليقيني هو الحالة العقلية السائدة، سواء أكان على الضفة الشمالية للمتوسط أم على الضفة الجنوبية، أو في الشرق الأوسط وصولاً إلى أواسط آسيا، يقين الحقائق المقدسة تقديساً دينياً، أو اجتماعياً، أو يقين المعرفة التي تخشبت في الفلسفة القديمة، لولا الحركة السوفسطائية المظلومة دوماً في تاريخ الفلسفة اليونانية.
في مقابل ذلك، كانت عصور الشك والنقد والمساءلة، هي عصور التقدم والنهضة، كما كان الأمر في النهضة الاسلامية، ولا سيما القرون الثلاثة الأولى أو في أوروبا في مرحلة الرشدية اللاتينية (راجع: جينيفر مايكل هيكت، تاريخ الشك، المركز القومي للترجمة 2014)، بل أوجبت الماتريدية من الأحناف الشك على المكلف، لأنه إذا لم يشك كان مقلداً في العقائد، وهذا ممنوع، ولا يبدأ الشك إلا عندما ينتهي التقديس.
قليل من الشك يحي عقل الإنسان، الشك ليس سلباً ولا هدماً، إنه الرافعة التي يتكئ عليها العقل الإنساني للوثوب إلى مواقع فكرية وحضارية جديدة، نخضعها بدورنا لدورة الشك واليقين من جديد، وهكذا نتقدم، وهكذا ندخل في الحداثة، وتالياً ما بعد الحداثة. فبين الشك واليقين جدلية، على نحو ما بين الفكر والواقع من جدلية في الأدبيات الماركسية. هذه الجدلية تدل على ارتباط عضوي، إن مع اليقين شكاً، وإن مع الشك يقيناً، وليس بعده كما في قوله تعالى: إن مع العسر يسراً وليس بعده بل معه. ولولا هذا التلازم والتكامل بين اليقين والشك، لما عرفت البشرية في تاريخها أي منجز حضاري في قطاع معرفي أصلاً.
وسيأتي أن أهم أسباب العنف في الممارسة الدينية هو اليقين الديني تجاه الآخر، وهنا نذكر بمقولة نيتشه المشهورة: ليس الشك وإنما اليقين القطعي هو الذي يقتل. وهو ما يفسر هذا العنف في المجتمعات غير الدينية، والذي تمارسه الدول الغربية في العالم الثالث لكن الغرب - وبكل صلافة - يَسِم الإسلام دوماً بالإرهاب، وكأنه غريب عنه أو بريء منه. ومن أجل ذلك، يحرص الاسلام السياسي على نشر وسيادة العقلية الدوغمائية بين أتباعه. إجابات جاهزة عن كل سؤال يزيح عن عقله عبث التساؤل والنقد، الذي أمر اللّه تعالى به (بل نتبع ما ألفينا عليه اباءنا)، والآية مطلقة، وتعبر عن دعوة أبدية إلى المداومة على وضع التراث موضع المساءلة، والحال أنه لا مكان لهذه العقلية الدغمائية في عصر انهيار اليقينيات حتى في العلوم. وبكلام آخر، الأحزاب الدينية يحمل أصحابها العقلية الدغمائية ويشاركها في ذلك جلُّ الأحزاب العلمانية في المنطقة العربية إن لم يكن كلها.
الصراع المذهبي
ومن أزمات الاسلام السياسي أيضاً الصراع المذهبي، وهو من الأمراض التاريخية المزمنة التي تحكمت بالحياة العربية والاسلامية في العصر الحديث، ومنعت العرب من دخول حلبة الحضارة، فالتخلف لم يكن وليد فطرة اختصها اللّه تعالى للعرب، بل هو وليد تطور تاريخي وظروف فكرية، وعوامل اقتصادية واجتماعية، ومذهبية لها الدور الأكبر، كل ذلك والإرادة مشلولة، لأن وعي التخلف يعجز عن البناء، وإن كان يجيد الهدم لما بقي من بناءات فكرية تنويرية، والدكتور مقلد لم يسلط الضوء كثيراً على أثر الصراع الطائفي في تدهور الأمة في تعليقه النقدي على أفكار مهدي عامل.
قالها الجبرتي في تاريخه: لقد أيقظت مدافع نابليون الشرق من سباته العميق، لكن يقظتنا لم تكن حاسمة ها هي المذهبية والطائفية تتلقفنا من كل حدب وصوب، إننا ننتحر وهذا يذكرنا بمقولة أرنولد توينبي في دراسته عن الحضارة «مختصر دراسة للتاريخ» يقول: إن الأمم لا تُقتل بل تنتحر.ولا ينبغي الاسترسال فيما تجره هذه الصراعات من هدر للطاقات الاقتصادية والفكرية، فالكل ماثل أمام أعيننا، ونحن سادرون، والأمم تتكالب على ثرواتنا.
وحتى تدرك عبثية الصراع المذهبي الطائفي، وتدرك تفاهة الأسس التي يرتكز عليها، أشير إلى مسألة مهمة بل غاية في الأهمية، وهي موضوعة الإمامة كمفردة من مفردات الفقه السياسي الاسلامي، التي قال عنها الشهرستاني في الملل والنحل: إنها أعظم خلاف بين الأمة، إذ ما سلَّ سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان (راجع الملل والنحل 1/22).
البعض قد يناقش هل هي قاعدة دينية حقاً؟!!! يرى هذا البعض، أن نظرية الخلافة أو الإمامة في الاسلام، هي انقلاب سياسي وقع في تاريخ الاسلام على مبدأ الشورى القرآني بعد وفاة النبي، وقد تنبأ القرآن بهذا الانقلاب - والكلام لهذا البعض - بقوله تعالى (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئا (آل عمران/144).
سواء أكان صالحاً أو طالحاً، إن في القرآن الإعلان الحاسم لموت السلطان، أو الخليفة، أو الإمام، أو الرأس، فهو يرى أن القرآن العظيم قد نسخ كل الأساليب التاريخية لرئاسة الفرد على الكل، لتحل محلها رئاسة أو قوامة كل الناس، ويستدل على ذلك أن القرآن الكريم وضع تشريعاً إسلامياً للقاضي العادل، ولم يضع التشريعات الاسلامية للرئيس العادل، أو الملك العادل، وأن ذلك تمّ في لحظة التنوير القرآني، هذه اللحظة التي ضاعت منذ ما يقرب من أربعة عشر قرناً.
وقد بقيت بعض الأحافير لهذه النظرية المقتولة في الفكر السياسي عند الخوارج وعند أبي بكر الأصمّ من المعتزلة، الواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء الحكم بالشرع، فإذا تواطأت الأمة على العدل، وتنفيذ أحكام اللّه تعالى لم يحتج إلى الإمام ولا يجب نصبه (ابن خلدون، المقدمة 172 طبعة الشعب). وإذا أردنا أن نمثل لهشاشة هذا النزاع الذي مزَّق الأمة إلى ثلل متقاتلة، فهي تشبه حال رجلين، تنازعا على كنز في منزل مهجور، فدخله ثالث ليخرج عليهما بعدها، ويخبرهما أن لا كنز أصلاً يستدعي أن تتقاتلا عليه.
إذاً القدر المتيقن أن القرآن يدعو إلى نظام الشورى أي نظام المؤسسات، لكن الشورى في الفقه السياسي الاسلامي مقطوعة اليدين والرجلين، فهي غير ملزمة للحاكم (الخليفة) فصار وجودها كعدمها (راجع، كتب الآداب السلطانية، الماوردي، أبو يعلى الحنبلي). هذا الاقصاء لنظام الشورى والمؤسسات، ترك الفكر السياسي في صراط التخبط، خذ مثلاً العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الفقه السياسي الاسلامي، فقد ادعى البعض من دعاة تحديث التراث تماهي مفهوم الانتخابات الديمقراطية مع مفهوم البيعة في الاسلام، وغفل عن أن مفهوم البيعة يقوم على التكليف، بينما تقوم الانتخابات على الحق، فلا تعادل بينهما، فالبيعة ليست من حق المبايعين بل من تكاليفهم وواجباتهم، وأن من لا بيعة في عنقه مات ميتة جاهلية، كما في الأدبيات الاسلامية، خلافاً لظاهرة الانتخابات التي تعتبر في الفقه السياسي الحديث من حق الناخبين، وهكذا كثير من المفردات التي لا يسع المقام لذكرها وعرضها.
والاسلاميون يطوعون النص ليتلاءم مع ما استجد من مفاهيم في المجتمع الحديث، وهم المسكونون بعمق في الصراعات المذهبية، فإذا اعتقد أحدهم أن الاسلام لا يعادي الاشتراكية، اعتبر الاسلام نظاماً اشتراكياً، فكتب الدكتور مصطفى السباعي كتابه «اشتراكية الاسلام» وإذا اعتقد بديمقراطية الاسلام وأنه يقول بالحريات وحقوق الانسان والديمقراطية، وجدنا راشد الغنوشي يكتب «الحريات العامة في الدولة الاسلامية» وكتابه الآخر «الديمقراطية وحقوق الانسان في الاسلام». وإذا اعتقد بالإمامة على الطريقة الشيعية نادى بولاية الفقيه، وإذا بكى أو تباكى على سقوط الخلافة أواخر الدولة العثمانية، نادى بعودتها، وأسس هذا التشتت هو الصراع المذهبي والانقسام الطائفي، فهو الذي يفرز هذه الظواهر. وكل يروج لمذهبه حتى حاصرتنا الشعائر والشعارات من كل جانب، «ويغيب العمر في صحن الربيع».
لا ننكر أن بين الاسلام والحداثة تقاطعاً، لكن ما به الافتراق ضاغط وبقوة، وهو ما يشكل أزمة العلاقة بين التراث والحداثة إلى جانب أزمة التراث مع نفسه، كلنا «مصطفى سعيد» في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» وكلنا «محسن» في رواية توفيق الحكيم «عصفور من الشرق». يجانب العلمانيون، ودعاة تجاوز التراث الصواب، إن الماضي والموروث لا يموت، فإسماعيل باق فينا(اسماعيل رمز التراث في ديوان ادونيس «الحصار»،بيروت،1985) نعم قد يخمد، ويتوارى إلى حين، لكنه يبرز ويتفجر من جديد في أتون صراعات مذهبية، ولا مشاحة في الدعوة إلى تجاوز التراث، لكنه تجاوز إعمال، وليس تجاوز إهمال، أعني لا بد من استيعابه وهضمه ومن ثمَّ القفز إلى المعاصرة، والدخول في الحداثة، وهذا يحتاج إلى ورشة عمل تقوم على الإبداع وفق المقاصد الشرعية، وتجاوز المنظومة الاسلامية السائدة لا على مشاريع استخراج المفاهيم الحديثة من عمق التراث، لأن هذا عمل يجانب الصواب في مواطن كثيرة، وذلك لانتماء كل من الحداثة والتراث إلى حقول معرفية متغايرة، وهذه المغايرة لا تفقد التراث حيويته وحضوره.
على كل حال، ما نريد أن نقوله هنا هو أن الانقسام المذهبي هو أحد المصادر، إن لم يكن أهمها لتكوّن الاسلام السياسي، وأسواق الكتب العربية حبلى بالمؤلفات القديمة والحديثة لتوكيد النزعة التعصبية والمذهبية بين الناس.
أسلمة العلوم
من أزمات الاسلام السياسي شعوره الحاد بتفوق الغرب عليه، ومن ثم ممارسة الغرب واستغلاله لهذا التفوق في نهب ثروات العالم الاسلامي، ونجد تجلي هذا التفوق في العلوم والمعارف، وهذا ما يشعر به المسلم عادة. فبعد أن انهارت سلطة الكنيسة وتقوضت في الغرب، وذلك بصعود وتطور الفكر السياسي وتحرك عجلة العلوم والكشوف العلمية، خشي رجال الدين في العالم الاسلامي، أن يكون مصير الدين الاسلامي مماثلاً لمصير المسيحية في الغرب، فاعتراهم فوبيا التطور، والعلم الحديث واكتفوا بالتلويح برفض كل ما يرد من الغرب، فكانت المطبعة شيطاناً في نظرهم، كما نقل الجبرتي في تاريخه.
نلمس هذه الظاهرة أيضاً في كتاب الأفغاني «الرد على الدهريين» في نقض نظرية دارون حول النشوء والارتقاء، ومن الواضح أن الأفغاني عرف نظرية التطور بصورة مشوهة جداً، وقد بينت في كتابي «الاسلام وتطور الاحياء» أن النظرية لا تتعارض بحال مع النص القرآني، لا بل إن النص القرآني يساعد عليها. وخلاصة المسألة، أن الاسلاميين قسموا الموجودات إلى أربعة أقسام، لا خامس لها، وهي: الجماد والنبات، والحيوان، والانسان، وأن في النبات ما في الجماد وزيادة قوة النمو، وأن في الحيوان ما في النبات وزيادة قوة الحس، وأن في الانسان ما في الحيوان وزيادة قوة العقل والتفكير، وقد بيّن القرآن الكريم هذه المراتب، ففي المرحلة الأولى ثمة مجموعة من الآيات تتحدث عن أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الانسان من جماد (تراب - صلصال - طين) وعن المرحلة الثانية يقول تعالى: (والله الذي أنبتكم من الأرض نباتاً) وفي المرحلة الثالثة يقول تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ) وهذه السلالة مخلوقة من طين ولا يقال سلالة إلا لكائن يتناسل وهو الحيوان، وعن المرحلة الرابعة يقول تعالى: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). فإذا رأى دارون أن الانسان انفصل عن دوحة الحيوان، فقد أرجع اللّه تعالى أصل الانسان إلى ما هو أحط، أي إلى التراب. والله تعالى إزاء طريقتين في كيفية الخلق، إما أن يخلق الانسان خلقاً دفعياً، وإما أن يخلقه خلقاً تطورياً، على كل من أراد الاستزادة له أن يرجع إلى الكتاب الآنف الذكر.
هذا نموذج، أذكره لأدلك على ردود الفعل اللامعقولة إزاء العلم إلى أن ارتأى بعض القيمين على النص الديني وتفسيره، القيام بمشروع الأسلمة لهذه العلوم، وذلك بتتبع منجزات العلوم ومخترعاته، ثم تنسيبها مع النص الديني بصورة صبيانية في كثير من المحطات، وقد برع في ذلك صاحب تفسير الجوهري (طنطاوي جوهري) وتم انشاء مركزين: الأول في مصر، والثاني في اندونيسيا أو ماليزيا. الأمر نفسه فيما يتعلق بالمفاهيم السياسية والاجتماعية، والفلسفية الوافدة من الغرب مثل مفاهيم المواطنة، والثقافة والعلمانية، والحريات، ومنظومة القيم الغربية. وقد تعرض الدكتور مقلد لبعضها.
تنطوي الأسلمة على خطورة ربط النص الديني بالعلم الذي من سماته التغير، وكم من قضية علمية كانت صحيحة بالأمس تبيّن خطأها فيما بعد. لذا ندعو إلى تعميق المفاهيم الاسلامية كما المفاهيم الوافدة كمعادل موضوعي للأسلمة. وبهذه المناسبة، نقول فيما يخص العلمانية، على الأقل في المجتمع اللبناني، إننا مع العلمانية سواء أكانت بمعنى فصل الدين عن الدولة أم - كما قال الدكتور مقلد - بمعنى فصل سلطة رجال الدين عن سلطة الدولة، وذلك لحماية الدين من تلاعب السياسيين، وليس لحماية السياسة من الدين، كما قد يتبادر عند البعض، وهذا لا بد أن يصار إليه في بلد تتحكم الطائفية في مفاصله الاجتماعية مثل لبنان على ما فصَّله مهدي عامل في كتابيه عن الطائفية.
نعم، تصالح الديني والسياسي في التاريخ الاسلامي، وهو ما أدى إلى اختلاط الديني بالتاريخي فعسر على العلماء المتأخرين الفصل بينهما، لذا نقول: إن مصادر الاستنباط الفقهي ليس القرآن والسنة والاجماع والعقل فحسب، بل ثمة مصدران أهم منها، يتحكمان بالمنظومة الفقهية السائدة، هما التاريخ والسياسة، وهذا واضح لمن يقرأ تاريخ الفقه بصورة نقدية بدءاً من القرن الأول وصولاً إلى العصور الحديثة، وسيدرك أن السياسة هي من غيب الفقه السياسي كقطاع فاعل في الفقه، حتى بدت لنا كتب الآداب السلطانية هزيلة ومبتسرة، وإلى الآن لا يمكن معرفة ما هو شكل الحكم في الاسلام، ولا يوجد تصور خاص في الاسلام عن شكل الدولة، هل الحكم ملكي، جمهوري، نيابي، شورى، ولاية فقيه، خلافة، وكما ترى العالم الاسلامي تتقاسمه هذه الأنواع، إما على أساس وضعي أو مذهبي، ربما لأنها من الوسائل لا الغايات، والأحكام الدينية غائيّة غالباً.
ولا يمكن عزو غياب الفقه السياسي إلى عجز في العقل الاسلامي عن متابعتها، وبين أيدينا كتاب «السير الكبير» لمحمد بن الحسن الشيباني مؤسس فقه القانون الدولي، فالموانع خارجية بحتة. جيد، لكن الفقه السياسي في الاسلام لم يبين أيضاً آلية وصول الفرد إلى السلطة ولا آليات عزله، ومدى سلطته ومعروف أن الفصل بين السلطات لم يعرف إلا مع مونتسكيو في كتابه روح الشرائع، وكذلك لم يبين الفقه الاسلامي آلية تداول السلطة بين النخب الفاعلة في المجتمع، ولا نوع العلاقة مع الأقليات السياسية، فضلاً عن أنه لا يوجد نموذج يشجع على الاقتداء به في التاريخ السياسي الاسلامي.
كل ذلك مغيَّب، ومع وفود مصطلحات جديدة من الغرب مثل: الليبرالية الرأسمالية الاشتراكية، سيل عرم من المصطلحات الحديثة، أوقع الفقه الاسلامي في عجز مضاعف، ومن الطبيعي حينها أن تسود التوتاليتارية، والاستبداد، والقهر، من المحيط إلى الخليج «سجان يمسك سجان»، كما يقول مظفر النواب. واستطراداً، أشير إلى نقطة لم تخضع للبحث في الفقه السياسي الاسلامي، وهي أن تتبع مجمل النص القرآني يقودك إلى الاعتقاد أن النص يريد أن يستنسخ نظاماً اجتماعياً، وطريقة حكم سادت في مرحلة زمنية من تاريخ بني اسرائيل، وهو المسمى بعصر القضاة، حيث كان القضاة هم من ينظم المجتمع، وكانت السلطة بأيديهم. وذلك من خلال الآيات التي تعلي شأن القاضي الحاكم، والتأكيد البالغ على دور الشهود، والمعلوم أن مادة «شهد» في اللغة، تدل على الذي يدلي بالشهادة في مجلس القضاء، وهو كذلك في كل مواردها في القرآن الكريم. وليس المقصود بالشهيد من يقتل في سبيل اللّه تعالى الذي جاء التعبير عنه بمادة «قتل» «ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله» ومثله «يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون» والأمر يحتاج إلى تدبر.
أزمة المصطلح الاسلامي
لقد أعاد الفكر السلفي، والاسلام السياسي في طروحاته الأيديولوجية المفردات الأساسية إلى الواجهة، ما الاسلام؟ ما الايمان؟ ما التوحيد؟ هل يكون مسلماً من يحمل بطاقة هوية تشير إلى دينه فحسب؟ ماذا لو نطق بالشهادتين ولم يصل، أو لم يصم، أو لم يقم بما وجب عليه شرعاً، هل يكون والحالة هذه مسلماً أصلاً، أو هو مسلم فاسق، ماذا لو قام بكل ما يجب عليه في الاسلام وعبد غير الله؟ كيف؟ سأشرح ذلك بأوضح بيان كما لم يسطر في كتاب أصلاً، وإنما استقيتها واستنبطها من مصادر الفكر السلفي، من ابن حنبل، ومحمد بن عبد الوهاب، مروراً بابن تيمية، وابن مندة، وابن بطة، وغيرهم. وبالتأكيد ليس هذا الشرح، بله، هذه المقدمة بصورة عامة، ترويجاً لأي فكر، وأنا لا أغفر قراءة لها على هذا النحو، وإنما أبيّن كيف أن التخريج النظري شديد الإحكام، ولا يسهل هدمه، لذا نرى هذا الفكر يقفز إلى الواجهة كلما سنحت الظروف في الساحة الدولية والمجتمعية على شكل قبائل متناحرة، كما كانت عليه الحال في محطات تاريخية عديدة.
وهكذا تترك مصائر الشعوب العربية نهباً للتخلف السياسي والتعصب المذهبي، لقد قرأنا الغرب جيداً، فأدرك فينا مكامن الضعف، وأهمها النزعات التعصبية بين السنّة والشيعة ومع ذلك، وبالنظر إلى مبادئ كل منها، يمكن تصور صيغة تعايش بينهما مع اختلاف أيديولوجيتهما وابعادهما الفكرية في إطار دولة حديثة، لكن الخطر كل الخطر، يكمن في السلفية الوهابية.
إننا نقع في خطأ كبير حين نقوم بتسفيه الفكر السلفي، وهو لم يقرأ جيداً أصلاً، وقد تورط في ذلك شخصيات فكرية مرموقة في العالم الاسلامي، والمضحك المبكي معاً، أن أحداً لم يقم بتشريح هذا الفكر، وبيان مكامن قوة الجذب فيه، وأسباب هذا الانتشار. كما أنه من الخطأ عزو ذلك إلى المال الخليجي فحسب، وإن كان له الدور الأكبر في نشر هذه الأيديولوجيا. حتى القوى التي تقاتل وتحارب السلفية، داعش وغيرها، لم تكلف نفسها عناء إنشاء مراكز أو مؤسسات لتفكيك الفكر السلفي، وتحليل خطابه بغية فهمه واستيعابه. وإذا كان يمكن أن نصف حزباً من أحزاب اللّه بالشمولية، فهي بحق صفة تنطبق على السلفية بصورة جلية، وإن كان الاستقراء دلنا على أنه لا يمكن للحزبية إلا أن تكون شمولية، إنهما متصاحبان دوماً، والعلاقة بينهما علاقة تضايف كما في الاصطلاح المنطقي الأرسطي وإن كان هذا في الاسلام السياسي أوضح وأجلى.
لقد أصاب الدكتور مقلد كبد الحقيقة حينما قام بتشريح وتفكيك الظاهرة الحزبية وقد أجاد القول: «أن الأحزاب المعنية في النص لا تقوم شرعيتها على خيار مطابقة برنامجها السياسي للواقع، ولا تستمدها من أعضائها المنتسبين، بل من مقدس ما، يقع خارج بنيتها الداخلية التنظيمية، مقدس صريح في خطاب حزب الله، ومضمر لدى سواه من الأحزاب»، ونحن سنوجه اهتمامنا إلى هذا «المقدس» بغية إظهار ما يحتويه من شحنات تحريكية فاعلة، إنه أشبه شيء باللاوعي في مصطلحات فرويد، أو بتعبير أدق، يشبه اللاوعي الجمعي عند تلميذه «يونغ» فهذا اللاوعي، هو المحرك الأساس، ويستمد قوته من ارتباطه واتصاله مع التراث بوشائج القربى.
وتتجلى براعة المؤلف في تفكيك الظاهرة الحزبية، وفي تحليله العميق لهذه العقلية التي تصاحب النزعة الاقصائية في أوسع مدياتها، إنها - كما يقول الدكتور مقلد - تشيطن الآخر، والقاعدة الحاكمة عادة هي: أن من ليس معنا فهو ضدنا، وبذلك تكون محكومة بالتناحر والتحارب، وأول ما يتبدى في تشريح الظاهرة الحزبية، هو عقلية الاقصاء الذي يستدعي العنف أحياناً، وهو أمر عادي، فالحروب قاطرة التاريخ، كما قال ماركس. وهنا، لا يسعنا إلا أن نكبر ونحيّي معاً الروح النقدية التي يتمتع بها الدكتور مقلد، والتي ترى فيها تحرراً من العقلية الآنفة ا لذكر.
والملاحظة التي لا بد أن نذكرها على هذا الكتاب القيم، هي أن المؤلف أخذ على عاتقه أن لا يدخل في بحث الأسس الفلسفية واللاهوتية للمعتقدات الدينية، وأنه لن يكون البحث في الدين، بل في الفكر الديني، ربما لأنه يعتقد أن بين هذه الاسس وبين الممارسة النظرية التي أسهب في درسها علاقة محايثة ومجاورة، في حين نرى العلاقة بينهما علاقة ارتباط عضوي، لذا يكون إغفال البحث في هذه الأسس الفلسفية واللاهوتية، يفوِّت علينا فهم الاسلام السياسي فهماً عميقاً، ويجعلنا في عجز عن فهم الظواهر والممارسات التي يقوم بها أتباعه، كما قلنا سابقاً. وإذا كانت المذاهب والفرق الاسلامية بمثابة صورة تعكس تجليات النص في عقول أتباعها ومؤسسيها، والمنظرين لها، فإن الاسلام السياسي يشكل صورة الصورة، ويعكس بدوره تطور هذه التجليات.
وكما ألمحنا سابقاً، الصراع المذهبي شيمة كل دين وثقافة، فالانقسامات والاختلافات جزء من منطق كل فكرة التي غالباً ما تكون دينية، وهي تسري في أنساغ التطور التاريخي لهذه المذاهب، فتتشظى الأفكار الأساسية منها والفرعية، وتتلون متخذة مسارات وطرقاً، ما كان من الممكن توقعها ولو في الخيال، ولذلك، لا يمكن التنبؤ بها بحال لكل مراقب وراصد لمفاصل هذا التطور، لكنها ممكنات كامنة في بنية الفكرة الأساسية.
لكن هذا الكمون مخادع، إذ سرعان ما تظهر هذه التشظيات الكامنة ظهوراً طبيعياً، نتيجة الممارسات التاريخية والاجتماعية، ويلعب التحدي والاستجابة - وهنا نستعير المصطلح من أرنولد توينبي مؤرخ الحضارات المشهور - دوراً فاعلاً، فتتحول هذه الممارسة إلى ممارسة صراعية، تقودها قوى لها مصالح متضاربة فتندفع بكل قوة إلى صياغة مسار جديد، مستل من الفكرة الأصلية، بغية التميز بدافع من نزعة تقدير الذات، وبقوة ضغط «التيموس» - والمصطلح أستعيره أيضاً من كتاب فوكوياما «نهاية التاريخ والانسان الأخير - لتسويغ مصالحها، وتبرير وجودها الفاعل، وتالياً، شرعنة التقوقع الذي تلجأ إليه عادة عبر جدر اسمنتية معرفية، فتكتسب المسارات المحصنة داخل هذه الجدر قوة تفوق ما كان للفكرة الأصلية من قوة.
هذه الفكرة تقبع تحت ركام القراءات المغلوطة للنص، وكلٌّ يدعي أنه الحق، لكن من أين تأتي هذه القراءات؟ لا شك أن ظروفاً مجتمعية، وتاريخية، وخارجية، عادة لها الدور الأساس مثل التماس مع حضارات أخرى (عصر الترجمة) وتطور المجتمع داخلياً وخارجياً، فصار الاسلام نسخاً متعددة بتعدد هذه المجتمعات.
من أين يأتي العنف في أتون الصراع الديني؟ في رأيي الشخصي - كما سبق - العنف الديني وليد اليقين الديني في الإطار الاجتماعي، والعلاقة مع الآخر المغاير والمخالف، وكما ألمحنا إليه، ينبغي إقصاء اليقين الديني بالميتافيزيقيا. اليقين الديني تجاه الآخر هو الذي يجعلنا خاضعين لمتلازمة الاختلاف والعداوة على كل الصعد الديني والسياسي والاجتماعي، حيث كلما كان هناك اختلاف، كان لا بد من وجود عداوة وتالياً صراع مذهبي، يُدخل المجتمع في أتون التدمير وما يترتب عليه من إهدار للطاقات البشرية والاقتصادية، وبالتالي فإن مسألة الفشل والإحباط والهزيمة وسوء الإدارة وضياع الحقوق، ظواهر تتعلق بطريقة في التفكير، وطريقة في رؤية العالم، وهي إذا ما تغيرت قمينة بأن تنتج ظواهر مختلفة، وتقضي على ظواهر نرزح تحتها بكسل وإحباط.
في كتابه القيم «البنية البطريركية» يسلط هشام شرابي الضوء على تركيبة المجتمع العربي، ومن وحي هذه الدراسة، يمكن القول إن الاسلام السياسي يعود إلى بنية مجتمعية اولاً، كما هو رأي فرنسوا بورجا (Francois Bourgat)، وبيرك(Edmund Burke) ولابيدوس(Ira M Lapidus) في كتاب الاسلام والسياسة والحركات الاجتماعية، من دون أن نهمل عوامل عديدة سرعت بصورة جدية في ظهوره، هل يمكن إغفال ما كان لاعتقالات 1965 التي طالت تنظيم الاخوان في مصر من أثر في ظهور الراديكالية الاسلامية المتمثلة بحركة التكفير والهجرة، وتنظيم القاعدة، والقائمة تطول (راجع: النبي والفرعون، جيلز كيبل Gilles Kepel).
هذه الاعتقالات التي تعرض فيها أفراد التنظيم لأبشع صور التعذيب ما تقشعر له الأبدان والذي جاء نتيجة مراكمة، تبدأ من زمن إنشاء حسن البنا تنظيم الاخوان عام 1928، مروراً باغتيال النقراشي باشا على يد التنظيم السري للاخوان، إلى محاولة اغتيال عبد الناصر في حادثة المنشية بالاسكندرية، ولم تنته هذه المراكمة باغتيال السادات فيما بعد.
على كل حال، لنشرع في بيان أهم الأسس اللاهوتية التي ترتكز عليها إيديولوجيات أحزاب اللّه الدينية عامة، والسلفية خاصة.
نظرية التوحيد السلفية: «لا اله الا الله»
تنطلق النظرية السلفية في التوحيد من هذه النقطة، وهي تحليل الشهادة الأولى في الاسلام، فإنه بالإمكان تشريحها إلى سلب وإيجاب، السلب يعني نفي كل الآلهة مطلقاً، والإيجاب هو إثبات الألوهية لله وحده. وهذا التوحيد على أنحاء: توحيد الخالقية، وتعني أن لا خالق في الكون إلا هو سبحانه. توحيد الربوبية، وتعني أن لا فاعل في الوجود إلا اللّه تعالى فهو الرازق، المحيي، المميت. توحيد العبودية، وتعني أن العبودية لا تكون لغيره بحال.
ظهر الاسلام في مجتمع وثني، كما هو معروف، يؤمن أبناء هذا المجتمع الوثني بوجود اللّه تعالى، وبأنه هو وحده الخالق، لا يشاركه في ذلك أحد، قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) (لقمان/25 الزمر/38 العنكبوت/61 الزخرف/9). كذلك يؤمن أبناء هذا المجتمع بأن اللّه تعالى هو الرب لا غيره، فهو الذي ينبت النبات، ويرزق ويعطي، بل هو الفاعل الوحيد في هذا الكون، قال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمَّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون اللّه فقل أفلا تتقون (يونس/31 النمل/64 فاطر/3 سبأ/24 الملك/21). ولما كانت رسالة الاسلام ردة فعل تجاه معتقدات المجتمع الجاهلي وممارساته، فإن القرآن لم يصطدم معه في هذين النوعين من التوحيد (الخالقية/الربوبية) فهم (أعني الجاهليين)، على وئام تام معه من هذه الناحية.
وإنما وقع الكلام والنزاع في النحو الثالث من التوحيد، فإنهم كانوا يعبدون اللّه تعالى ويعظمونه، لكن كانوا يشركون مع عبادته عبادة أصنام لهم، لذا سموا بالمشركين، لأنهم أشركوا مع عبادة اللّه تعالى عبادة غيره من الأصنام التي كانت منتشرة في جزيرة العرب والتي يجمعها وصف واحد، وهو أنها «غير الله».
فإذاً، العرب كانوا يعبدون اللّه ويعبدون غيره، وفي ذلك وقع الاشتباك بين النبي محمد (ص) ورسالته، وبين مجتمعه الذي كان يؤمن بالتعددية الدينية، فقد كان في كعبتهم 360 صنماً، ولم يكن عندهم معضلة تذكر في أن يكونوا 361 لذا عرضوا على النبي المال، والُدور، والنساء، فقال قولته المشهورة: والله لو وضعوا الشمس في يميني... فكانت رسالته إقصائية، لا ترضى بشريك في العبودية مع اللّه مطلقاً، وتاريخ الاسلام الجهادي مع العرب هو تاريخ توحيد العبودية لله تعالى، قال تعالى: (ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون (الذاريات/56) ولو اطلعت على مادة عبد في أي معجم قرآني، لأدركت أهمية هذا النوع من التوحيد (توحيد العبودية) لكن ما هي العبادة.
لما كانت الإلفة تقتل المعاني، اعتبرنا هذا المصطلح واضحاً ومفهوماً، لكنه في الحقيقة معقد وشائك جداً، العبادة في الاسلام ليست هي الصلاة والصيام والحج (وهذا موضوع آخر) لكننا إذا وصفنا إنساناً بأنه يعبد الله، كان بمعنى أنه يقوم بهذه الأعمال التي صنفت فقهياً بأنها عبادة.
ترى، كيف كان المشركون يعبدون أصنامهم قبل وجود هذه المنظومات الفقهية؟ أعني، ما هي الأعمال، والحركات، والممارسات التي زاولوها تجاه أصنامهم، واعتبر اللّه تعالى هذه الأعمال والحركات عبادة لغيره، حيث لا صلاة، ولا صيام. إن قراءة هادئة وذكية للعصر الجاهلي، وللحياة الدينية فيه قمينة بأن تسلط الضوء للإجابة على هذا التساؤل، على أنه مشترك بين كل مجتمعات الأنبياء، ولا خصوصية فيه للمجتمع الجاهلي. هذه الأعمال العبادية في الجاهلية وفي القرآن، يمكن تعدادها على الشكل التالي:
التقديس، فقد كان العرب يعتقدون بقداسة هذه الأصنام، وقوام المقدس الغموض والرهبة.
التعظيم: فكانوا ينظرون إليها بكل أنواع التعظيم والتبجيل.
التوسل بها، لتنصرهم في الحروب والغزوات، ولتدفع عنهم الضرر، وغائلة الطبيعة.
الذبح وتقديم القرابين، وبالبشر في أزمنة تاريخية قديمة.
النذر، وكانت تقدم النذور لأصنامهم.
الاعتكاف عندها، قالوا نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين (الشعراء/71).
الخوف والخشية منها، فلا يدنسها أحد بسوء، أو يقول فيها مقالة سوء.
الاعتقاد بأن الأصنام شفعاء لهم إنما نعبدهم ليقربونا إلى اللّه زلفى. (الزمر/3).
الحلف بها، فقد كان الجاهلي يحلف باللات والعزى وهبل.
إتباع سدنتها والقيمين عليها، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. (التوبة/31)
روي عن الصادق (ع) عندما قيل له: إننا لم نجد أحداً من أهل الكتاب، يعبد حبراً أو راهباً: قال والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكنهم قالوا قولاً فاتبعوهم. راجع النص بألفاظه: تصحيح اعتقادات الصدوق للشيخ المفيد ص 73، الكافي باب التقليد، وسائل الشيعة، باب عدم جواز تقليد غير المعصوم.
اتباع الهوى، أرأيت من اتخذ الهه هواه. (الجاثية/ 32).
الدعاء، والاستعانة، والاستغاثة بها، إلى جانب الخوف، والرجاء، والتوكل عليها، والمحبة لها والخشية منها، والتذلل والتعظيم لها، وغير ذلك مما يمكن استنباطه من كتاب اللّه تعالى.
هذه أهم الممارسات التي قال اللّه فيها إنها عبادة، وهي ليست هنا على نحو الحصر، ومن أراد التوسع في معرفة ممارسات المشركين تجاه أوثانهم، فعليه بكتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام لجواد علي.
هذه هي العبادات في الاسلام، وأقسام التوحيد التي ذكرناها: توحيد الأسماء والصفات (الخالقية)، أو توحيد الأفعال (الربوبية) لا تصيّر من يعتقدها مسلماً، ولا تدخله في زمرة المسلمين، وإن صلى وصام، لأن التوحيد في العبادة (الألوهية) هي الضابطة في دخول الاسلام، فمتى وحَّد الانسان اللّه تعالى توحيد العبودية بحصر ما ذكرناه سابقاً فيه سبحانه كان هو المسلم، ومن أداها كلها أو بعضها لغيره - فقد أشرك.
لكن المنظومة الفقهية، منذ العصر الأموي زمن ابن شهاب الزهري، وعروة بن الزبير، وصولاً إلى عصرنا الحاضر، ماذا فعلت بهذه الأقسام؟ مزقتها شر ممزق، وارتكبت جريمة كبرى حين أقصي بعضها عن ساحة البحث في الدراسات الدينية، مثل: التقديس، التعظيم، التوسل، الخوف، التبعية، الشفاعة، والدعاء، أو أدرجته ضمن المعاملات دون العبادات، مثل اليمين، النذر، الذبح. وبذلك خبت لحظة التنوير القرآنية، وضاعت مفاهيم القرآن، وانحرفت عن جادتها، وساعد على ذلك أن هذه المنظومة الفقهية، أخذت من الأحاديث والروايات التي يسمونها السنة المحكية والتي تم تصنيفها على هذا النحو.
والسلفي المشبع بهذه الأفكار المحكمة الإغلاق في كتاب اللّه تعالى في رأيه، ولا يمكن معارضتها، ينظر إلى معتقدات أتباع المذاهب الاسلامية، فيجد هذه الممارسات واضحة مع غير الله، ولا يجد فرقاً بين أصنام الأمس وأوثان اليوم، إذ كلها تدخل تحت وصف (غير الله) وكون أصنام الجاهلية كانت تعبد بوصفها الهة بخلاف غيرها، فرق غير فارق - كما قلنا.
فالسنة يقدسون الأولياء والصالحين، ويحجون إلى قبورهم، ويعتقدون بشفاعتهم، ويحلفون بهم، ويتبركون بمقاماتهم بالمسح، وتعليق الخرق، وطلب الأمنيات، وغير ذلك، وهذا منتشر في شرق العالم الاسلامي وغربه، بل إنهم يعتقدون بقدرتهم على الشفاء، والرزق، لذا قال محمد بن عبد الوهاب: إن الشرك اليوم أعظم من الشرك في الجاهلية، وفق هذا، فنحن، واقعاً في «جاهلية القرن العشرين» كما قال محمد قطب. ولا يخلو مذهب من مذاهب المسلمين، أو فرقة من فرقهم، أو طرقهم الصوفية إلا ويعاني من هذه الظواهر، دعني من الفرقة الحقّة والطائفة المحقّة، فإن ما اقوم به مجرد عرض، وتشريح للأساس العقائدي في الفكر السلفي.
هذا السلفي ينظر يمنة إلى العصر الجاهلي، فيجد الشرك الذي جاء الاسلام لمحاربته بقوة السيف ثم ينظر يساراً إلى عصرنا الحاضر، فيجد الصورة هي هي، ومطابقة للنسخة القديمة في الاشتراك في الوصف، وهو أن هذه العبادات (الممارسات) يتوجه بها الانسان لغير اللّه تعالى، فاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وهبل، وذو الخلصة كلها غير الله، وكذلك سيدي أبو العباس ومقام السيدة نفيسة، ومصباح أم هاشم، هي توجه لغير الله، طابق النعل بالنعل. يا الله، شرك، وبدع، وخوض فيما شجر بين المسلمين في صدر الاسلام (والسلفية تنهى عنه) كيف يكون المجتمع مسلماً بهذا الحال، آلاف البدع في مجتمعات المسلمين، التعصب المذهبي الذي يشل قدرات المسلمين كما يشهد على ذلك التاريخ، فلا غرو أن يصاب السلفي بالعصاب، ويستحضر النصوص المتوحشة في تراثه، فإذا فجر مقاماً لولي أو إمام، أو لأحد الصالحين، فلأنه يعتقده وثناً يعبد من دون اللّه على الأرض.
ولا يظنن أحد أننا نتحدث عن شرذمة قليلين بين المسلمين، فمما لا شك فيه أن السلفية في العصر الحديث تجتاح الحياة الدينية، وهي آخذة في الانتشار لما تتصف به العقيدة التي يحملونها بالبساطة والعمق في آن، وقد أشارت إلى ذلك دراسة كتبها تمام حسان بعنوان: «تسلف الإخوان» وإذا أمكن أن تتعايش المذاهب الدينية مع بعضها البعض، أو هي مع القوى الوطنية والتقدمية والاشتراكية واليسارية عامة في وثيقة تفاهم أو بأي صيغة ما، فإنه من غير الممكن ذلك مع وجود الفكر السلفي ونظريته في التوحيد المعتمدة في زعمهم على حقائق تاريخية، ويلقون اللوم على غيرهم بأنهم لم يفرقوا في التاريخ بين الواقع من جهة وبين المتخيل.
ويتهم العقل الشيعي لدى نقاد الفكر، أنه إذا بحث في التاريخ فإنه يقوم بعملية النحت لا الاكتشاف، كما ينبغي أن يكون عليه البحث التاريخي، سواء تعلق الأمر بالأحداث التاريخية، أم بالشخصيات مع اختلاف درجتها في القداسة أي أن العقل الشيعي - كما كل المذاهب - يقرأ التاريخ قراءة عقائدية، ويصبها في قوالب متخيلة جاهزة، وهكذا يلج الماضي بعد صهره في هذه القوالب بكل أبعاده في الحاضر، ويصار - لعوامل سياسية واجتماعية - الانتقاء، والتضخيم، تمهيداً للدخول الاحتفالي إلى عرين المقدس، ومن ثم توظف لتحقيق الأهداف الآنفة الذكر - سياسية واجتماعية.
وهكذا، تستلب الأمة لعقول الموتى، وتقوم السلطات السياسية بتغذية هذا الاتجاه بشكل أو بآخر لتكريس التكاره المذهبي، وتستعين لذلك على شيوع الميديا الجديدة، الذي كشف عن الوجه المخيف، وعن حجم التباغض المذهبي، والديني، وإذا لم يتم ضخ حزمات من المفاهيم الجديدة، فلا جدوى عن عمل آخر، ولا يمكن الاطمئنان إلى قول من يعتقد أن السلفية جوقة جنائزية لأحلام محنطة، ستضيع في محفل الحداثة، لأن الاصولية تمتلك مناعة عجيبة، فهي تخفض بصورة فنية من نشاط العقلانية في الفرد كما في الجماعة، إلى مستوى الردود الانفعالية والعصبية، لذلك تتفاوت درجة محركية النص باختلاف إيديولوجيا هذه الحركات الاسلامية، واختلافها في مرجعية النصوص فبينما يحضر النص القرآني وبقوة، ويؤسس لمحركية عجيبة في العمل الجهادي عندهم، نرى هذا النص يكاد تغيب محركيته في الجهاد الشيعي، لتحل محله المعتقدات المذهبية حول أئمة أهل البيت (ع) إلى جانب كرامات الشهداء، ورؤية الأئمة (ع) معهم في ساحة الجهاد، تخيلات تنم عن قوة الإيمان في نظر البعض، وهذا ما أعرفه من كلام كثير من الأخوان المقاتلين على الجبهات.
العقل الايماني ومستقبل الاسلام السياسي
هنا يقف السلفي في ذهول، وهو الذي يرى في نفسه غيرة على دينه، ويرى مجتمع المسلمين في كل بلدان عالم المسلمين - في زعمه - بلاد كفر وشرك، فهو بين فكي كماشة، بين أن ينزوي عن المجتمع (حركة التكفير والهجرة) وبين أمر اللّه تعالى إليه بالدعوة لدينه، وأن لا يخاف في ذلك لومة لائم، وأن لا يخشى في اللّه أحداً، لذا تراه انغماسياً في المجتمع، كما في ساحة صراعه مع من يخالفه في العقيدة، وقد سيطرت على عقله وعواطفه عقيدة غير قابلة للتفكيك، وهو إذ يُرمى بسيل من هذه العناوين مع غياب الوعي السياسي، تراه لقمة سائغة بأيدي القوى الغربية التي تدفعه ليعيث فساداً في الأرض، فيهلك الحرث والنسل، ويمعن تخريباً في البلاد وتشريداً، وقد يفجر نفسه بين الناس، ولا ضير، فهؤلاء بنظره مشركون، وقد يفجر مقاماً للصالحين وفي اعتقاده إنما يفجر وثناً على الأرض يعبد من دون اللّه تعالى.
أما زمانه، فلعنة اللّه عليه، لأن نفسه المبتورة - والمصطلح أستعيره من داريوش شايغان - تعيش بين زمانين: ماضٍ، وهو زمن ظهور الاسلام، وهي لحظة التنوير القرآني وزمن التدشين وهو زمن يحن إليه السلفي كثيراً، فيستحضره ولو في مظهره ولباسه وممارساته اليومية، والزمن الثاني مستقبلي، زمن ينتصر فيه الحق على الباطل، ويكون الأمر كله لله، أما حاضره فهو قذر دائماً، ومذموم، ولا خير فيه، فهو أبداً في حنين إلى الاصول، والمصطلح من مرسيا الياد(Merci Eliad).
وعلى غرار الجابري ومقولته عن العقل المشرقي والعقل المغربي، أقول إن العقل الإيماني أصابه الانزياح في بنيته التي كان عليها في القرون الذهبية للإسلام إلى مطلع القرن الرابع للهجرة، أعني أن ثمة قطيعة معرفية، حدثت في هذه الفترة، لأن العقل الإيماني قبلها كان عقلاً مبدعاً ومنتجاً للمعرفة، لكنه صار مستهلكاً ومكرراً إلا ما شذ وندر.
ويمكن تصور الأمر على شكل موجات مر بها العقل الإسلامي، من دون أن ننفي سيطرة العقل الأرسطي عليها إلى الآن: ومصطلح الموجات مقتبس من «الفرد تايلر». الموجة الأولى: لحظة التنوير القرآني التي امتدت إلى مطلع القرن الرابع للهجرة، كما قلنا. الموجة الثانية: تبدأ من انتهاء الموجة الأولى إلى سقوط بغداد سنة 656 للهجرة ومن أهم سمات هذه المرحلة، إعادة إنتاج المعارف الاسلامية، والحفاظ على مكتسبات الموجة الأولى. الموجة الثالثة: تبدأ من سقوط بغداد إلى عصرنا الحالي، وتتميز إلى جانب ما مرَّ، بكسل عقلي آخذ بالانحدار، وكما قلنا، لم يفد عصر النهضة العربية، إلا في إعادة إنتاج التراث وإحيائه، مع أن الهاجس المسكون في الثقافة العربية إلى الآن هو الجديد لكن لم يظهر في عصر النهضة إلى الآن إلا دعوات متتالية إلى النهضة فحسب.
وإذا كان ثمة فائدة تذكر لهذا العصر، فهي تهيئة الأرضية لبروز طبقة جديدة في المجتمع العربي وهي طبقة المثقفين بعد أن كان العلم والثقافة حصراً بيد رجال الدين!!! بدأ بروز هذه الطبقة الجديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم أخذت في التنامي إلى أن أمسكت بالخطاب الاسلامي الفكري بعد نزعه من سلطة المؤسسات الدينية، التي لم يبق لها إلا الخطبة الدينية في المساجد والمناسبات وعمادها عبث الموتى في ذاكرة الأحياء. ولقد ساهمت حركة الاستشراق في بروز وتطور حركة المثقفين هذه، مع تجاوزنا لملاحظات ادوار سعيد وأنور عبد الملك.
هذا، ولم تكن معوقات النهضة خارجية فحسب، كما يحلو لمفكري المؤامرة أصحاب مقولة الغزو الثقافي، وهؤلاء لم يدركوا أن الغرب ضنين جداً بثقافته، وحريص دائماً على تفوقه الثقافي الإيجابي بأوسع ما للكلمة من معنى، وحبذا لو يغزونا الغرب، ونحن في محطات كثيرة من التقاطع الثقافي والحضاري معه، نحتاج إلى التلاقح مع الحفاظ على الخصوصيات الذاتية، (وقد ذكرت في دراستي على رواية دون كيخوته -طبع دار الهادي- أنه لا بد من حديبية جديدة بصيغة ما في العلاقة مع الغرب) وإذا لم يتم هذا التلاقح الإيجابي بين الحضارة الاسلامية والحضارة الغربية، سنبقى أسرى لطريقتين من أكثر الطرق سلبية في التفكير وهما طريقة «التوسل بالمرجعية»(1) وطريق «تأثير ووزل» وتعدّان من أهم المغالطات المنطقية انتشاراً، ومن أهم معوقات الفكر على النهوض.
لكن من جهة أخرى، ساهمت الحركات الاسلامية بشكل أو بآخر في تعاظم العداء للغرب، أو للإمبريالية في الأدبيات الماركسية، أو للمستكبرين في أدبيات الاسلام الشيعي، وما تعاون الاسلام السياسي مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية إلا اعتماداً على فتواهم بجواز الاستعانة بالكفار، فالقاعدة بتحليلها السياسي ترى أنها استغلت عداء الغرب للاتحاد السوفياتي آنذاك إبان غزوه لأفغانستان، لتصبح أقوى وأجدر على اللعب في الساحة الدولية. ويبدو أن تطور الأحداث حرفت الاستراتيجية التي كانت متبعة زمن إبن لادن وفق التفصيل التالي: كان العمل السياسي والصراع مع الغرب واسرائيل تتنازعه استراتيجيتان: الأولى: تقول يجب أولاً تحرير البلدان العربية من الاستعمار ومن الأنظمة الحاكمة المتحالفة معه قبل مواجهة العدو الصهيوني، وهي السياسة التي كان يتبعها جمال عبد الناصر، وعلى أثرها خاض حروب اليمن، ودعم حركات التحرر في العالم العربي وفي دول عدم الانحياز. الثانية: ترى أن الأولى ضرب رأس الأفعى، والخطر الأساس المتمثل بالغرب الذي يقوم في المنطقة بدور المحافظ على الأنظمة الاستبدادية التي تتعاون معه، وتقوم بتنفيذ خططه في المنطقة، فكانت الهجمات التي طالت أميركا وأوروبا، هدف الاسلام السياسي من خلالها إلى ربط أمن منطقة الشرق الأوسط بأمن الغرب وأوروبا، وأنه قد ولى الزمن الذي نضرب فيه ويعيشون هم بأمان.
لكن الحركات الاسلامية في زمن الربيع العربي، سلكت طريقاً آخر، نأى بها عن استراتيجية القاعدة زمن إبن لادن، كما هو معروف، ناهيك عن الصورة المشوهة عن الاسلام التي ارتسمت في عقول الذين يقتصرون في فهم الأمور على الظواهر. يصعب التكهن بما ستكونه الأمور في المستقبل على الصعيد الاجتماعي والسياسي، لكن ما أنا على يقين منه هو أن أيديولوجيا الفكر السلفي عامة، ستكون دوماً معيناً ثرّاً لإمكان ظهور الاسلام السياسي على الساحة الدولية والاقليمية، ولا سيما بعد انهيار اليسار والتجربة الاشتراكية الذي يقول فيه كريم مروة: إن السبب يعود إلى خلل بنيوي رافق التجربة منذ البدايات مكرراً ذلك في كتابه: «التجديد في الاسلام كالتجديد في الاشتراكية» ضرورة تاريخية في شروط العصر.
ولا يفوتنا القول، إن موقف الاسلام السياسي من الفكر المعاصر، وطريقة تعامله، ستؤدي - مع اتساع شعبيته - إلى تجهيل المجتمع، ويعزز هذا التجهيل حالة اسلامية عامة ستؤثر بصورة أو بأخرى على الفرد حسب دراسات «سولومون آش» وتجاربه على تأثير الجماعة على الفرد من خلال آثار النظام على تشكيل الانطباع، والنتيجة نمو مفرط للحركات الاسلامية في المستقبل، وتالياً، استمرار الحروب الدينية التي بشَّر بها كسينجر بين أحزاب اللّه الذين يتقاتلون على اللّه وبينهم وبين الأنظمة من جهة أخرى.
التجديد في الاسلام
هل هناك مجال للتجديد في الاسلام في ظل الحركات الاسلامية المعاصرة؟ إن البحث في موضوع التجديد طويل ومتشعب، لكن نقول فيه قولاً عاماً مقدار ما يتحمله هذا التقديم.
تطور، تجديد، حداثة اسلامية، عصرنة، وغيرها من المقولات، يراها البعض لا تعدو أن تكون ترفاً فكرياً. لماذا؟ لأن المجدد ليس هو من أضاف فكرة هنا أو مفهوماً هناك، أو عارض رأياً هنا أو مسألة هناك، إن بالفقه أو بالأصول، أو بتأويل النص القرآني، وكذلك لا يكون مجدداً من ألبس القديم حلة جديدة وكفى.
التجديد في الاسلام، كما في العلم، يقوم على إحداث منظومات فكرية للنهضة، ولكي تنزل هذه المنظومة المفاهيمية من عليائها في سماء الفكر إلى أرض الواقع، لا بد لها من سلطة تتبناها، وتعمل على تسويقها، ولا بد لهذه المنظومة أيضاً أن تكون جديدة إبداعية، وقلنا سابقاً، إن أفكار عصر النهضة العربية، لم تكن إلا مقولات قديمة، وتراثاً جرى تعويمه فحسب، إنه إعادة إنتاج لتراث القدماء، وخطوة ناقصة فرضتها صدمة الحداثة، وليست صفة المجدد مجرد لقب نمنحه لمن اتخذ موقفاً متسامحاً تجاه فئة، أو فكر ما مخالف. وفي الحقيقة، نحن أسخياء جداً بهذا الوصف (مجدد) - كما في كثير من الألقاب - نطلقه على من نرغب، وعلى من نحب.
على كل حال، فإن إحداث منظومة، أو ثورة مفاهيمية، لا يكون إلا بقراءة جديدة للنص القرآني، ولكن يشترط في هذه القراءة الجديدة أن لا تحمل في أحشائها بذور فنائها، فتقوّض نفسها بنفسها. وأمثل لذلك بما ذكره الأستاذ كريم مروة، وأنا أقدّر غيرته، وسعيه للتجديد في الاسلام كما في الاشتراكية، وأثمن دعوته تلك، فقد اقترح للتجديد في الاسلام الأخذ بالقرآن المكي إلى زمن صحيفة المدينة وكانت الدعوة حينها إلى القيم الانسانية والأخلاقية، وعدم إظهار القرآن المدني، لأنه ينادي بالحرب، والقتال، والإلغاء للآخر، والقسوة عليه.
وهذه الرؤية، حسب تتبعي، أول من قال بها محمود محمد طه من السودان وكانت مثار جدل كبير آنذاك، وقد بينت في كتابي: دراسات في فلسفة أصول الفقه والشريعة ونظرية المقاصد، ان التجديد لا يكون إلا من خلال قراءة النصوص قراءة مقاصدية وهي نظرية شرحتها، وبينت مكوّناتها، وما تنطوي عليه من إمكانات، وتعرضت فيه لنظرية محمود طه، ومن أراد فليراجع.
يقول كريم مروة أن من الممكن تأسيس علاقة جديدة بين الاسلاميين والعلمانيين، بعد وقف العمل بالقرآن المدني. يمكن أن يعترض البعض، لأن قول مروه يتضمن إلغاءً لبعض الآيات بل الكثير من السور القرآنية المدنية. والحال أن نظرية النسخ تقضي بأن اللاحق من الآيات ينسخ حكم السابق منها لا العكس، يضاف إليه، أن القرآن نفسه نهى عن التفريق بين الآيات، فقد ذم اللّه تعالى من اتخذ القرآن عضين (الحجر/91) كما ذم من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض (البقرة/85) ومن أراد التوسع فليراجع كتابنا الآنف الذكر، فصل نظرية الإنساء.أما نحن فلنا ملاحظتان على كتاب مروه:
الأولى: ملاحظته أن سبب انهيار التجربية الاشتراكية، يعود إلى خلل بنيوي رافق التجربة منذ البدايات، وخلت ملاحظته هذه من بيان هذا الخلل البنيوي، كما خلت من الإحالة إلى أي مرجع.
الثانية: تكرر في كتابه أن القول بولاية الفقيه بدعة إيرانية، وسبق منا القول: إن الاسلام بنصوصه المؤسسة لم يتعرض لشكل الحكم في الناس، وأن ذلك موكل إليهم، لأن النظام السياسي من الوسائل والشريعة تهتم بالمقاصد. وقد ذكرت في كتاب دراسات في فلسفة أصول الفقه، باب الأحكام الولائية، أننا لسنا في حاجة إلى مستند شرعي لولاية الفقيه، كما أننا لسنا في حاجة إلى ليّ عنق النص الديني ليتوافق معها، ما دام أن نظام ولاية الفقيه يحقق مقاصد الشريعة في إقامة العدل وحفظ الحقوق والحريات، إلى غيرها من المزايا الموجودة في الأنظمة الديمقراطية، فلتكن نظرية ولاية الفقيه بعد ذلك بدعة سريلانكية فهذا لا يضر.
ومن جهة أخرى ضَمِن نظام ولاية الفقيه أن تكون إيران دولة قوية، وهي الآن رأس الحربة في مواجهة قوى الاستعمار، والناهبين الكبار، ومعهم اسرائيل، وهذا منتهى أمل كل اشتراكي تقدمي ومناضل، وأنا أتفهم مخاوف كريم وغيره من هذه النظرية، لئلا يقال عن ولي الفقيه فيها: أردناه عوناً فصار فرعوناً.
ثم، أليس النظام الجمهوري بدعة، والنظام الديمقراطي بدعة، وما زلنا نعاني من النظم الديمقراطية في أوروبا وامريكا التي لم تجلب سوى الويلات على شعوب العالم الثالث؟ وعلى أبعد تقدير، إذا تبين فيما بعد أن نظام ولاية الفقيه قصّر عن أن يكون قوة تقدمية في العلوم والمعارف والفكر والتكنولوجيا وغيرها من التقنيات، أو أنه تحول إلى نظام استبدادي تركناه لأنه بذلك خلاف مصلحة المسلمين. والدعوة إلى اعتبار ولاية الفقيه وغيرها من أشكال الحكم بدعة تتضمن دعوة مبطنة إلى نظام الخلافة ولا أظن كريم مروة يقصد ذلك.
على كل حال، قلنا إن التجديد الديني لا يتم إلا من خلال منظومات مفاهيمية جديدة، وهاكم بعضها:
القول بعدم حجية الروايات، هذه التي يسمونها سنة، في التشريع.
الغاء منظومة المستحبات والمكروهات من الفقه، هذه المنظومة التي ترهق المسلم في سلوكه اليومي، ولا سيما أن القرآن لم يتعرض لها.
سد باب الاجتهاد في فروع العبادات.
التزاوج بين دراسة الفقه ودراسة القانون الوضعي.
الغاء منظومة الطهارات والنجاسات المادية من منظومة الفقه، إذ لا ذكر لها في القرآن.
ومن المؤكد أن زملائي وإخواني من رجال الدين لن يعرفوا مغزى ما أقول إلا إذا أخرجوا الحوزة من رؤوسهم، أو خرجوا هم من الحوزة، وكأني بهم وقد تجعدت وجوههم استغراباً. وطبعاً، كل ذلك لا يمكن إنتاجه إلا في مناخ ترتع فيه حرية النقد، ولا أقول ذلك في المتحرك دون الثابت في الفقه والعقائد وإلا بممارسة منهجية لا تغلق على نفسها روح الابداع بتقديس السلف، ولن تستكمل هذه الخطوات وغيرها إلا بدخول الثقافة العربية والاسلامية عامة في عصر ترجمة جديد على غرار ما جرى في العصر العباسي الأول زمن المأمون.
هذا، ويجب أن يساوق التجديد في الأفكار التجديد في اللغة، لمتانة العلاقة بين اللغة والفكر، أعني في الأساليب النثرية المتبعة، وقد بينت في كتاب»المقدمة في نقد النثر العربي» أن النثر العربي السائد بصورته الحالية، هو نثر مريض، يعاني من جملة من العاهات المزمنة، منها التكرار والحشو والأطناب، وقد رصدت في هذا الكتاب تطور النثر من العصر الجاهلي إلى زماننا الحاضر، ومع هذه العاهات، لا عجب أن أعرض العربي عن القراءة، وإنك لتجد من يؤلف كتاباً من (800) صفحة مثلاً، وعندما تنتهي من قراءته - طبعاً بتقنية القراءة السريعة (هذا إذا كان يستحق أن يقرأ) - تسأل نفسك السؤال التالي: كان بإمكان المصنّف أن يعطيني المعلومات المودعة في كتابه في بضع صفحات، فلماذا يرهق بصري، ويقتل وقتي؟ وقد تكون المعلومات معروفة، في حين أن الهاجس المسكون في الثقافة العربية اليوم هو الجديد والابداع لكن ماذا تفعل مع أناس لا يميزون بين البدعة والابداع والسلام.
إلى هنا، تنتهي رحلتنا المختصرة في الكلام عن أحزاب اللّه الدينية، وإنما خضت فيما أعرض الدكتور مقلد عن الخوض فيه، وهي الأسس الفلسفية واللاهوتية لإيديولوجيات الاحزاب الدينية، ففي حين خاض الدكتور مقلد في الممارسة النظرية - وقد أجاد وأبدع - اعتبرت، أن ما أعرض عنه، فجوة يحتاج القارئ العزيز إلى سدها، فكان هذا التقديم الذي يتكامل مع النص بغية إعطاء صورة أكثر وضوحاً.
أما أحزاب اللّه غير الدينية، فلم يترك الدكتور مقلد زيادة لمستزيد، فأصاب الهدف الذي رسمه لنفسه في خارطة الطريق، أما تاريخ هذه الأحزاب، فقد اعتمد فيه المؤلف العزيز على ثقافة القارئ النخبوي، ذلك أن الكتاب أكاديمي بامتياز، فقارئه سيكون بلا شك بالمستوى الثقافي للكتاب، وتالياً، هو مطلع على تاريخ هذه الأحزاب التي لا يتجاوز عمرها المائة سنة من عمر الأمة العربية والإسلامية، فنحن أبناء هذا الجيل المصاب بالخيبة، وخسارة الرهان وأحياناً اليأس والكآبة، وما نكتبه عويل جيل منهك،» . شاهدت أفضل عقول أبناء جيلي يدمرها جنون السياسة، والمصالح القبلية، والحزبية الضيقة، ما يجعلنا قرابين «لمولوخ» على مذبح التخلف السياسي والديني والفساد الاقتصادي»
صور 27/4/2019
الشيخ علي حب اللّه