رباعيات مظفّر النوّاب : وصف و ترجمة 1-2


حسين علوان حسين
2019 / 9 / 9 - 10:40     

موجز تعريفي بالرباعيات في الشعر العربي

الرباعيات هي شكل شعريٌٌّ عراقي جديد شاع في الشعر العربي منذ منتصف القرن الثاني للهجرة بفضل وزنه الغنائي الخاص الخارج عن بحور الخليل بتفعيلاته الأربع : [فَعْلُنْ – مُتَفَاْعِلُنْ – فَعُوْلُنْ – فَعِلُنْ] المكرِّرة أربع مرّات لكل مصراع ، مع وحدة القافية . و سبب إطلاق مصطلح "الرباعية" على هذا الشكل الشعري المستحدث هو الازدواج لوحدة القافية في مصاريعه الأربعة مع تفعيلاته الأربع ضمن إطار قالبه الشعري ، مثل قول أبو العباس الباخرزي:
قد صيَّرني الهوى أسيرَ الذلّة- واستأصلَ هجرهُ بصبري كلّه
واستنهكَني وما بجسمي عِلّة- لا حَولَ ولا قوةَ إلا بالله
و قد تختفي وحدة القافية في المصراع الثالث مثلما فعل النواب في رباعياته هذه ، و مثل قول بشار بن برد في بائعة للطيور :
ربابة ربة البيت – تصب الخَلَ بالزيت
لها سبع دجاجات – و ديك حسن الصوت
كما يمكن نظم الرباعية مجزوءة الوزن :[فَعْلُنْ – مُتَفَاْعِلُنْ – فَعُوْلُنْ] .
و من أقدم ما ورد إلينا من الرباعيات العربية هذه الأغصان الركبانية (و كانت تسمى "المُثنّاة") للشاعر الجاهلي عدي بن زيد :
أيها الركب المخبّون - على الأرض المجدّون
فكما أنتم كنّا - وكما نحن تكونون

ولقد ذاع صيت هذا الشكل الشعري الجديد في العراق (بلد الشعر الأول في العالم) ابتداءً من القرن الثاني الهجري و ما تلاه ، مقولاً على ألسنة الشعراء من أمثال حمّاد عجرد (توفي سنة 161هـ) وبشّار بن بُرد (توفى سنة 165هـ ) و غيرهم . و من العراق انتشر هذا اللون الشعري شرقاً و غرباً ، فدخل (أسوة ببحور الخليل) في الشعر الفارسي و التركي و غيره .
و لعل أحد أسباب شيوع هذا الشكل الشعري هو قابليته للترنّم و الغناء ، خصوصاً في جلسات الذكر عند المتصوفة . فقد ذكره القاضي الأديب أبو علي التنّوخي (المتوفى سنة 384 هـ ) بالقول : "حضرني أبو أحمد عبد الله بن عمر الحارثي و عندي صوفي يترنم بشيء من الرباعيات ، فلم يستطبه أبو أحمد ، فقال له على البديهة : " يا أخي لا أقطع حديثك إلا بخير"" . كما ذكر غنائيته القاموسي : إسماعيل بن حمّاد الجوهري (المتوفى سنة 393 هـ ) في صحاحه بالقول : " و في الحديث : "من أشراط الساعة أن توضع الأخيار ، و ترفع الأشرار ، و أن تقرأ المثناة على رؤوس الناس فلا تُغيَّر ." قيل هي التي تسمى بالفارسية الدوبيتي ، و هي الغناء" .
و كلمة "دوبيت" الفارسية - و تعني : البيتين - هي تصحيف لأصلها العربي "ذو البيت" و الذي طرأ عليه القلب بعدئذٍ ليصبح اسمه فن "البوذيّه" الشعري في اللغة العراقية الدارجة ، مثلما يذكر الرصافي و يتبعه مصطفى جواد بكتابه (في التراث العربي : 1975) . و تتألف الأبوذية العراقيّة من أربعة أشطر ، ثلاثٌ قوافيها مجنّسة مع الروي الموحَّد ، والرابع مخالف مختوم بـقفل (يّه) دلالة على الأبوذيه ، و يسمى "الربّاط".
ثم ما لبثت الرباعيات و أن ارتبطت بشعر الغزل و الخمريات ، فقد نقل “الثعالبي” رباعية خمرية عن الصاحب بن عبّاد (ت 385هـ )، و هي :
رَقَّ الزُجاجُ و رَقَّتِ الخَمْرُ – وَ تـَشابها فَـتَشاكَلَ الأَمْرُ
فَـكَأنَما خَـمْرٌ وَ لا قَدَحٌ – وَ كَأَنَما قَدَحٌ وَ لا خَمْرُ
كما دخلت الرباعيات في الشعر العراقي العامي حيث ذكرها العلامة عبد الرحمن بن خلدون في "مقدمته" بالقول : " و كان لعامّة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه المواليات ، و تحته فنون يسمون منها القوما و كان كان ؛ و منه مفرد ، و منه في بيتين و يسمونه (دوبيت) على الاختلافات المعتبرة عندهم و كل واحد منها ، و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان ، و تبعهم في ذلك أهل مصر و القاهرة .."
و من أمثلة الرباعيات البغدادية ما نقله العماد الأصفهاني في كتابه (خريدة القصر وجريدة العصر) عن الشاعر البغدادي إبن الأنباري (المولود سنة 470 هـ) حيث قال :
"... وترددت إليه ببغداد ، وما كان يتعاطى الشعر تغنّياً عنه ، وكنت أهابه وأكبره من أن أستنشده ، لكنني أثبتُّ من شعره البيتين والثلاثة على حسب ما أنشدتها . فمن ذلك رباعياته الخالبة للخلب ، السالبة للب ، فمنها :

يا قلب إلامَ لا يفيد النُصحُ - دَع مزحك كم هوى جناه المزحُ
ما جارحة منك خلاها جرحُ - ما تشعر بالخمّار حتى تصحو
ومنها :
الدهرُ يعوقني عن الإلمامِ - مع ما أنّي إلى التصابي ضامِ
لا تأخذني بما جَنَت أيّامي - ما ذنبُ السهمِ حين يُخطي الرامي
ومنها :
يا ريح تحمّلي من المهجورِ - شكواه إلى المعسكر المنصورِ
قولي لمعذبي شبيه الحورِ - ما أنت عن الجواب بالمعذورِ

قصيدة مظفر النواب : رباعيات شعر
مقدمة الشاعر
"منذ سنين .. منذ سنوات ، كنت في دعوة الى الخرطوم / السودان / من اتحاد الكتاب السودانيين ؛ فعلى عادتي بالإلقاء : أحياناً أتمايل و أترنّح .. إلخ . ضابط من الضباط الذين كانوا مع النميري ، بعد هزيمة النميري تحول إلى اتجاه اسلامي كاذب غير حقيقي : إدعاء . و هو غني ، يعني مليونير ؛ لا يمكن هذا ، يعني . فكتب في إحدى الصحف في اليوم التالي : ذهبنا لنرى شاعرا ثائراً مناضلا ، فرأينا شاعراً يترنح طرباً و و إلخ . فكنت كتبت رباعيات ، أضفت رباعيتين حول هذا الموضوع ، ستتبين في سياق القصيدة ."

نص القصيدة

اسم الرباعيات : حيرة

طائفٌ قد طافَ بي في غيهبٍ بالسَحَرِ
ساكباً في عَدَمٍ يصخبُ كأسَ العُمُرِ
صحتُ: يا مولاي ما هذا الذي تفعله ؟
شَزَرَ المولى ، فذابَتْ مهجتي بالشزرِ

قُمْتُ مذهولاً إلى إبريق خمري ثملا
علّني أطفئ نيرانَ ارتباكي بالطِلا
سَكَبَ الإبريقُ في كأسي نضوباً صامتا
آه ، مولاي : فراغُ الكأسِ بالصمتِ إمتلى

أنقرِ الكأسَ إذا ما نضبت واسمع رنين الكأس و اثمل بالرنينْ
كل كأس خمرةٌ حتى إذا كان بها ماء حزينْ
فإذا ما لائمٌ لامك فيها ، قل صحيحٌ
إنّما من يُسكِتُ الأوجاعَ في ليلٍ بلا دنياً و دينْ .

ثَمَّ طيرٌ يرسل الشكوى ، كم الصوت مريرْ
باكياً في قفص الغرفةِ لا يَدري بماذا يستجيرْ
إنه مثلي كسيرَ القلبِ
فاشرب . ليس عدلٌ إن طيراً ذي جناحٍ لا يطيرْ .

غَمَزَ الصاحون أني ثملٌ ، ما كذبوا .
جئتني من لبة القلب ، أنا مضطربُ ،
لم أعد ابصر شيئاً غير تعدادك ،
يا واحد ، يا كل ؛ لهذا أشربُ .

تبتلي العاشقة بالحزن و بالخمر كثيرْ
زِدْ من الإثنين، فالصحوُ من العشق خطيرْ
جَثم الحِمْلٌ على ظَهريَ ولم أجثوَ
و ما زلتُ على الدربِ أسيرْ .

ما لبعضِ الناسِ يرميني بسُكري في هواكْ
وهو سكرانٌ عماراتٍ ، يسمّيها : رضاكْ !
يا ابن جيبين …حراماً ..
إنني أسكر كي أحتملَ الدنيا التي فيها أراكْ .

ضجّ ذئبٌ يرتدي التقوى رياءً و نفاقْ
و بخدّيه بما امتصَّ دمَ الناس من الإثم زِقاقْ
قال : يا سكّير !
فانهلَّ على خدَيَّ نهران من الدَّمع عراق .

مَرَّ ريقي بحروبِ الجَهْل من كلِّ الجِهاتْ
أفما تملا إبريقي بساتينُ الفراتْ ؟
قلقاً أدعو شتاتَ الطير : يا أحبابُ ، لمّوا الشملَ
ما الموتُ سوى هذا الشتاتْ .

الثلاثونَ من الغربةِ قد ضاعت سُدى
لم يَعُد للطائرِ الحرِّ سوى صمتِ جناحيه مدى
فسماوات الأغاني امتلكتها أنكر الغربان صوتاً
و لقد أي حمار يملك الجو غدا .

لِمْ تأخّرْتَ عَنِ المَوعدِ ساعاتٍ و قد كادَ النهارْ؟
اعذريني : كان توقيتي على القمة ، لم أدرِ إلى الخلف تُدارْ
كلّ ما قالوه معقولٌ ،
و لكن من يُصَدّق ذرّةً مِنه حِمارْ .

سيّدي : تمَّ بنائي ؛ إنما عبدٌ صغيرْ .
لِمَ لَمْ تجعل لبعض الناس أشكالَ الحميرْ ،
فَتُريحَ الناسَ مِنهُمْ ؟
أم تُرى أنَّ بعضَ المَطايا سوف تحتجُّ على هذا المَصيرْ ؟


يتبع ، لطفاً .