(صياد القصص) للأورغوائي إدواردو غاليانو: كتابة الدم والتجوال


باسم المرعبي
2019 / 9 / 1 - 01:40     

تواصل كلمات إدواردو غاليانو وأفكاره، في "صياد القصص"، ترحالها عبر العالم، مخترقةً الأزمنة والحضارات، مستكتشفةً الحكايات البكر والحوادث الفريدة والتواريخ المصنوعة من شغف الرجال والنساء، بالحياة حرّةً، رفيعة. مستكشفةً، روح التضحية، بتجلّيات تقارب الأسطورة، إن لم تتفوق عليها. حكايات لا تخلو من الدم، بل هي تحوز الكثير منه، مثلما هي لا تخلو من المفارقة، حزناً أو فرحاً. ومؤكد، ليس أنها مشبعة بالحب، فقط، بل هي قائمة عليه. لهذا تمتلك كتابة غاليانو طاقة هائلة من التأثير على قارئها، إنها تمارس نوعاً من السحر، لا فكاك منه، سواء في خصوصية موضوعاتها، أو في طريقة عرضها أو صوغها، ولِما تقترحه من بوابات تؤدي إلى خزائن تحتشد بالحكمة والمعرفة، مشرعة على ما هو موسوعي. إنّ غاليانو، في كتابه هذا الذي أُلصق به، لصقاً، تعريف "قصص قصيرة"، إذ هو لا يمتّ لمحتواه بصلة، وفق المفهوم المكرّس لفن القصة القصيرة، كان، كما هو دائماً، باحثاً ومنقباً فذاً عن الحكايات والنوادر، وكما هو قنّاص وقاطف ماهر، فإنه صائغ أمهر لها، يفتّش عن ما توارى من شعرية العالم وقد أُزيحت، هذه، جانباً، في زحمة الصخب التكنولوجي والاستهلاكي، ليعيد إليها بريقها ونضارتها في ذاكرة القارئ ومخيلته، وليعيد للأشياء طعمها، أي أصالتها، في زمن أضحى فيه "لكل شيء مذاق كل شيء، أو مذاق لا شيء"، حسب توصيفه. تحت عنوان تشخيص للحضارة يكتب أو يروي: "في مكان ما من إحدى الغابات، علّق أحدهم: كم هم غريبو الأطوار هؤلاء المتحضرون. جميعهم لديهم ساعات ولا وقت لدى أيّ منهم". يمكن قراءة هذه "القطعة" أو إدراجها تحت أكثر من عنوان أو صنف كتابي: فيمكن التعاطي معها، شأن جلّ اتجاه الكاتب الذي عُرف به، على أنها: نادرة، خبر، شذرة، تدوينة، مأثورة، مروية ـ إذا صدقنا زعم غاليانو ونسبناها معه إلى أحد سكان الغابات ـ، دون أن يفوتنا قراءتها في الوقت ذاته، على أنها تشخيص ساخر لمرض إنسان العصر الذي نسي، في غمرة لهاثه، كيف يتنفس. في موضع أو موضوع آخر، نعثر على ما بدا أنه الرد على ما يؤرّق هؤلاء المتحضرين ذوي الساعات، يقول أحد أبطاله ومُلهميه، "لا عمر لي. أنا لا أعدّ سنوات ولا أستخدم ساعة". هنا نلتقي مع إنسان غاليانو، بانحيازه إليه، لأنه صنو العالَم في عذريته وصفائه وفراسته، وهو ما يظهر عليه، دائماً، السكان الأصليون لأمريكا اللاتينية، في رؤية وأدب غاليانو. والقول الآنف، المتجرد من الساعة وكل ما له صلة بالأرقام، يعود لـ "رولينديو مارتينيث" الذي يسميه غاليانو، معلمه، رغم أنه لم يكن يجيد القراءة والكتابة، وقد قارب عمره المئة عام. من مارتينيث وسواه من الحكّائين المجهولين الذين كان يلتقيهم في مقاهي مونتيفيديو القديمة، تعلم غاليانو فن القص، فجامعاته هي تلك المقاهي، التي كانت تلتمّ على أولئك "الكذابين المعتبرين"، وهم يبحثون عن الزمن الضائع، كما يصف. لكن مزّية كاتب، مثل غاليانو، أنه يُصغي لنبض الحكايات، مانحاً إياها حياةً أُخرى، جاعلاً من الأمس راهناً، وهو ما يُفسّر، بدوره، راهنية كتاباته وسريانها. لكن ما يقف وراء ذلك ليس مضمون الحكايات فقط، بطبيعة الحال، فثمة عمل دؤوب وتنقية شديدة للحكايات وصبر على الصقل، دون أن يُخفي كاتبها مسألة استجابته لإجراء تعديلات قاسية، بناءً على مشورة الأصدقاء والخبراء. واحد من هؤلاء هو فرناندو رودريغيث، الذي يقول عنه أنه "كان يتمتع بحاسة شم حادة في تحديد الكلمات الزائدة"، ويذكر غاليانو أنه واجه تحدياً في رواية واقعة حب مُدان، في الجزء الثاني من كتابه المعروف، "ذاكرة النار"، كانت قد هزّت مدينة بوينس آيرس في منتصف القرن التاسع عشر، بطلا الواقعة هما، كاهن وامرأة، إنتهيا إلى الإعدام رمياً بالرصاص. لم يكن فرناندو ليرضى بما آل إليه نص غاليانو عنهما، تحديداً القسم الثاني. كان يكرّر "هناك الكثير من الحصى في العدس" ولكثرما محا الكاتب من كلمات فلم يخلص إلّا إلى سطر وحيد، يلخّص "فاجعة" الحب، هذه، وهو: "إنهما اثنان بالخطأ وقد صحّحهما الليل". علاوة على العبرة التي يقدّمها غاليانو في حكايته هذه عن الاختزال، فإنه قبل كلّ شيء، يقدّم رؤية شعرية فذّة تتجاوز أفق الحدث ذاته، بمديات، ليكون سطره هذا "سِفراً" كاملاً بما يمثله من رمزية عن الجسد والروح والحب، وإن كان عبق الإيروسية يضمخ الكلمات بأكملها. نعثر على تفاصيل حكاية العاشقين الشابين، هذه في الجزء الثاني من "ذاكرة النار"، المسمّى "وجوه وأقنعة"، بترجمة أسامة إسبر. صفة أو مزية أُخرى تتحلى بها كتابة غاليانو، تلك هي، البساطة، وقد يكون للرصيد الشفاهي، الذي يتوفر عليه الكاتب ويستمد منه عمله، كما سعيه لمجاراته، دوره في إضفاء هذه المسحة على أدبه. هنا تحضر تلك الحكاية ذات المغزى النافذ، ففي واحدة من جولات الكاتب التي اعتاد أن يقرأ فيها حكاياته، وبعد انتهاء الأمسية، يتقدّم منه أحد الحضور وقد كان له وجه فلاح مدبوغ بالعمل وبالأيام، كما يصفه، ليقول له: ـ كم هي صعبة دون ريب الكتابة بهذه السهولة. وهي العبارة "الأكثر حكمة في النقد الأدبي"، التي تلقاها الكاتب في حياته كلها، وفقاً لقوله. أيضاً لابدّ من الإقرار بالهوية الكونية لكتابة غاليانو، بفعل انتمائها إلى جغرافيات شاسعة ومترامية، تلمّ بالعالم بأسره، سيراً، أو تحليقاً، جائسةً أراضي الكلمات وفضاءاتها، يقول: "الكلمات تمشي نابضةً، وبمحض الصدفة وجدتُ أن كلمتَي مشي وقلب باللغة التركية لهما الجذر نفسه". لكن ما هو ليس مصادفةً، أن تكون لكلماته طبيعة الجوالين، المشّائين، في جَوْبها العالم، وهو ما يُعرف به الكاتب، نفسه، كأحد المشائين الكبار، حتى أنّ أحد أصدقائه قال له، "إذا كان صحيحاً ذلك القول الشائع بأنّ الطريق يصنعه المشي، فأنت يجب أن تكون وزيراً للأشغال العامة". ويبدو أن هذه الحركة لصيقة بآلية التأليف لديه وربما الستراتيجية الأهم، في عملية الكتابة، وما "كلمات متجولة"، وهو أحد عناوين كتبه، سوى وجه من وجوه تجسيد هذه الستراتيجية، فهو "يمشي وفي أعماقه تمشي الكلمات"، كما يقول. وهو هنا على النقيض من المعطى الذهني التجريدي، كما هي سمة بورخس، مثلاً.
ومن منطلق فلسفة غاليانو، نفسه، في إحياء الذاكرة ونقلها من المجال الذي يُراد له أن يكون مجرد محنّطات مدرسية، كما عانى هو عند دراسته التاريخ، إلى جعلها، أي الذاكرة، حيةً وذات صلة بالراهن المعاش، مثال ذلك، يمكن استحضار ما يورده عن الجنرال فرانكو، في معرض مقابلة أجراها معه الصحفي الأمريكي "جاي آلان"، في شهر آب (أغسطس) 1936 في ذروة الحرب على الجمهورية الإسبانية، قال فرانكو، إن انتصاره وشيك، انتصار الصليب والسيف: سنحققه مهما كان الثمن. فيعلّق الصحفي: سيكون عليك أن تقتل نصف إسبانيا، يردّ فرانكو، لقد قلت: مهما كان الثمن". وهو ما يجد صداه في أقوال وأفعال "فرانكوات" كثر، هؤلاء الذين، لا نعدم لديهم التصميم على إبادة شعوبهم، فعروشهم من نوع ذلك العرش الذي عيبه "أنه يتضمّن سلاسل تقيّد إلى الأبد، من يجلس عليه".
وعلى الرغم من أن غاليانو يقول بشيء من التواضع أنه لم يتعلّم فن القص من شهرزاد في قصور بغداد، غير أنّ ما يرويه في "صياد القصص"، وكدأبه في مجمل مروياته، يوطّد لتأسيس نوع من أساطير شخصية، بغضّ النظر عن ابتداعها أو مجرد تبنّي روايتها، دون نكران ما يضفيه من نفَس مميز على ما يروي، وأنّه بإيوائه الحكايات الشاردة يكون قد أنقذها من الضياع والنسيان، وأدخلها الحيز الكوني للأدب. وفي هذا الصدد يتوجّب استعراض شيء من مروياته الخالدة، وإن كان المجال يضيق بتنوعها وشموليتها: ثمّة تلك الحكاية النبيلة عن الفتى ـ الملاك، الذي كان يقاتل الأعداء وعلى جبينه شريطة بيضاء مكتوب عليها، "لأجل الوطن ولأجلها"، وقد اخترقت الرصاصة كلمة لأجلها، حكاية كهذه تلتقي مع حكاية ذلك الثائر القتيل الذي وجد وفي جعبته شيء وحيد هو كتاب "شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة"، وهو أحد كتب المؤلف، الأكثر شهرة، وقد أخترقته رصاصة. يعلق غاليانو: هذا الكتاب الذي أُعدم هو جسد ذلك الشاب الذي بلا اسم. لا يمكن أيضاً تناسي حكاية روخيليا كروث التي تجيء تحت عنوان "هذه الرقبة" وهي واحدة من أكثر الحكايات درامية وفجائعية، وإن لم تكن خارج سياق هدير الدم، كما عرفته معظم بلدان القارة اللاتينية. ثمّة أيضاً، حكاية الخياطة البوليفية، "سيمونا مانثانيدا"، مرهفة اليدين، فبراعتها لم تكن تقتصر على الخياطة المتميّزة بل كانت تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد اضطلعت، لأنها كانت تعمل ضد السلطة الاستعمارية، بتهريب خرائط ورسائل وتعليمات، في ثنايا تنانيرها وأقمشتها، ساعدت في تحرير الأراضي، التي تُسمى اليوم بوليفيا. وقد واصلت الخِياطة والتآمر حتى تمت الوشاية بها. "قصّوا جدائلها وحلقوا شعرها، ثم أركبوها على حمار وجالوا بها، عارية، وأطلقوا الرصاص على ظهرها، بعد أن جلدوها خمسين جلدة". إلى أن يقول الكاتب: "لم تُسمع لها أنة واحدة، لقد كانت تعلم أنها لا تموت بسبب ارتكابها خطيئة".

إنّ نتاج غاليانو، والذي تُوّج بكتابه الأخير، "صياد القصص"، لا يني يقدّم الصورة المثلى لمدافع شرس عن كلّ القيم الرفيعة، ضمن نظرة كليّة، إلى الوجود، لا تتجزّأ، في ما يُشبه معجماً رحباً، ينفتح على كلّ مفردات المصير الإنساني، بدءاً من الحرية وصولاً إلى البيئة، في تقصّيات مدهشة وروح منفتحة على العالم بتنوعه وتعدده وغناه، لم تغب عنها مسحة الظرف والدعابة، مع إلمام بتفاصيل ودقائق ثقافية شاردة. لما تقدّم ولأسباب أُخرى، صلب إبداعية، يمكن مضاهاة أثر كتابة غاليانو، بحكاية، أحد أبطاله، هو خورخي بيريث، كما يستعيدها من كتابه "أفواه الزمن"، حين عثر هذا، على رسالة في قارورة، عند الميناء الذي كان يتردد عليه، بعد أن فقد وظيفته ورغبته في العيش، مفادها أن مرسلها يبحث عن صديق. "قرأ خورخي الرسالة فأعادت إليه الحياة". إنه شيء شبيه بالشغف الذي يعلّل به الكاتب، لماذا الكتابة.
وتساوقاً مع أهمية الكتاب وجمالية النص العربي بنسخة صالح علماني، كان من الضروي خلوّه من الأخطاء الطباعية الكثيرة، فلم تكد تسلم منها صفحة واحدة من صفحاته.


إدواردو غاليانو: "صيّاد القصص"
ترجمة: صالح علماني
دار ورق للنشر والتوزيع، الإمارات ـ 2017
205 صفحة.