ثمن المعروف القومي الوهمي

تمار غوجانسكي
2006 / 5 / 14 - 10:06     

أمور كثيرة في الدولة تغيّرت خلال القرن الأخير، لكن التعامل الاستعلائي ونهج العجرفة لم يتغيرا، إنما تحول الى سياسة رسمية لحكومات اسرائيل المتعاقبة، خاصة الحكومة الحالية برئاسة اولمرت

"نولي الاهتمام لكل شؤون بلادنا، ونبحث كل شيء ونتناقش على كل الامور، ونمجد كل شيء ونفتديه، ولكننا نسينا شيئا واحدا، وهو انه يوجد في البلاد، شعب كامل يتمسك فيها منذ مئات السنين ولم يفكر بتركها ابدا".
تلك الكلمات كتبها المربي يتسحاق افشطاين، في 9/1907 في مجلة "هشيلوح" لقد تذكرت هذا المقال الهام وحتى ممهد السبيل، للكاتب افشطاين عندما حاولت تعريف، ما هي المشكلة الاساسية التي تقضم في جسد ونفس المجتمع الاسرائيلي، وهي، كاقوال افشطاين، "مسألة واحدة، وهي كلها ضد الجميع: وهي مسألة تعاملنا ونظرتنا مع والى العرب"، و "بالحل الصحيح لمسألة علاقتنا مع العرب، كتب افشطاين، يتعلق انبعاث املنا القومي".
لقد انزعج افشطاين جدا قبل مئة سنة من تجاهل حقوق وحتى وجود المواطنين العرب ومن مصادرة الاراضي من الفلاحين العرب ومن محاولة وصف اسرائيل بانها "بلاد خالية من السكان" وحتى في ذلك الوقت قبل المئة سنة حذر افشطاين متنبئا: "كل مرة يمس فيها المعروف القومي الوهمي بالعدل الانساني، سيكون ذلك المعروف بمثابة خطيئة قومية فظة، ومعاذ الله لنا ان نتسبب باي سوء لاي شعب، خاصة لشعب كبير، كرهنا له خطير لنا جدا".
لقد تصرمت مئة سنة منذ كتابة مقال افشطاين، واحتفلت اسرائيل هذه الايام بعيد استقلالها الثامن والخمسين، وحتى الآن باسم: "المعروف القومي الوهمي"، تمارس المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة بوزرائها وموظفيها واحزابها سياسة تدوس العدل الانساني للعرب، وتلك السياسة تصادر الاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بشتى الاساليب واحيانا بالخداع ودائما بالعنف والقمع، وهي تبني على الاراضي الفلسطينية الجدار الفاصل وتقيم مئات الحواجز على الشوارع وتشق الشوارع لليهود فقط.
كذلك داخل اسرائيل، تمارس المؤسسة الحاكمة بكل فروعها وهيئاتها سياسة بارزة من التمييز العنصري القومي. وفي الاسبوع الفائت حرثت الجرارات الزراعية التابعة لدائرة اراضي اسرائيل الاراضي الزراعية المزروعة بالقمح والشعير للمواطنين العرب في النقب، والنتيجة من ذلك تجويع قطعان الماشية خاصة في الوقت الذي يعاني فيه النقب هذه السنة من قحط، ويضطر العرب من مواطني اسرائيل للتوجه الى المحكمة العليا لكي يضمنوا بناء روضة اطفال لاولادهم ولتزويد مدرسة بالتيار الكهربائي وما شابه.
لقد تنافس في الانتخابات الاخيرة للكنيست، حزب اقترح على الشعب الاسرائيلي برنامجا عنصريا لسلب المواطنة من الجماهير العربية في الدولة، وهذا الحزب هو حزب "يسرائيل بيتينو" الذي زاد قوته في الانتخابات الاخيرة للكنيست ولولا التحقيقات الجارية مع رئيسه الفاشي افيغدور ليبرمان، لكان انضم الى الائتلاف الحكومي برئاسة اولمرت.
ان تجاهل ما وصفه افشطاين بالم شديد: "شيئا واحدا من المشكلة وهو وجود وحقوق ابناء الشعب العربي، الحقوق الانسانية والقومية"، وذلك هو ايضا ملخص السياسة "القومية الوهمية"، التي يمليها اولمرت في اطار ما يسميه ويصفه بانه "بلورة حدود الدولة الدائمة"، ومما كتب في الخطوط الاساسية لحكومة اولمرت - بيرتس: "ان الفلسطينيين اذا لم يقبلوا في "الزمن القريب" الاملاءات الاسرائيلية لضم الكتل الاستيطانية الى اسرائيل ولتحويل الجدار الفاصل الى الحدود السياسية، عندها ستعمل الحكومة حتى بغياب مفاوضات واتفاق معهم، على اساس الموافقة القومية الواسعة في اسرائيل ومن خلال التفاهم الكامل مع اصدقاء اسرائيل في العالم".
لقد تغير الكثير من الامور في الدولة، خلال المئة سنة الاخيرة وقد قتل خلال تلك الفترة وجرح عشرات الآلاف من الاسرائيليين والفلسطينيين، في النزاع الدموي الذي وصف افشطاين نشوءه بالم وبقلق، لكن شيئا واحدا لم يتغير، انما تحول الى سياسة رسمية لحكومات اسرائيل المتعاقبة، خاصة الحكومة الحالية برئاسة اولمرت، وكذلك التعامل الاستعلائي والعجرفة ونهج السيد الذي يفرض املاءاته على العرب الفلسطينيين في اسرائيل وعلى سكان المناطق المحتلة ويا ويحهم ان عارضوا ذلك النهج.
وفيما يدعو افيغدور ليبرمان الى سحب المواطنة من المواطنين العرب، وهو لم يفكر اطلاقا ان مواطنتهم الاسرائيلية تساوي على الاقل مواطنته الاسرائيلية، وهكذا يعلن اولمرت وبيرتس، انه اذا لم يسارع الفلسطينيون الى قبول المقترحات الاسرائيلية، فعندها سنتجاهلهم كليا وسنقرر بدونهم وخلافا لآرائهم، ما هي الحدود الدائمة لاسرائيل والتي هي ايضا حدود فلسطين.
ان المرض المزمن والصعب للمجتمع الاسرائيلي، المتجسد في الاحتلال، وبالقمع القومي وفي السيادة الكولونيالية وفي العلاقة الاستعلائية والتعامل العنصري مع العرب، كل ذلك يدوس حقوق وكرامة الرازحين تحت الاحتلال، والذين يعانون من التمييز. وفي الوقت ذاته فان هذا المرض القاسي يشوه شخصية واسلوب حياة المحتل، وحياة شعب الاكثرية، ان تشويه صورة العربي يغذي "الوحدة القومية" التي وصفها افشطاين بالوهمية، وذلك التشويه يعمي ابصار الكثيرين ويدفعهم الى مواصلة دعم هؤلاء الذين دهوروهم ويصرون على دهورتهم الى سوق البطالة والفقر، ويسلبون منهم حقوقهم الاجتماعية ويلقون بهم في اذرع شركات القوى البشرية.
ان سلب الحقوق المدنية والقومية من المواطنين العرب، يعرض للخطر مجرد وجود الحريات الدمقراطية في اسرائيل وكذلك لليهود. وفي كتابه: "شخصية الرازح تحت الاحتلال وقبل ذلك شخصية المحتل"، اصدار كرمل (2005) كتب الكاتب اليهودي الفرنسي، البر ممي، ان حالة متواصلة من الاحتلال الكولونيالي والذي يسلب شعبا كاملا من كل حقوقه هو اسلوب حياة كامل، باسم الوطنية يحول هذا الوضع الدمقراطي الى محافظ ورجعي وحتى الى فاشي كولونيالي، ولخص البر ممي اقواله بالتأكيد: "كل امة كولونيالية، تحمل في حضنها بذور الاغراء الفاشي".
ان الحاجة الضرورية والموضوعية للكف عن استمرارية ان نكون محتلين وللكف عن التصرف بعجرفة كولونيالية وللكف عن رؤية المواطنين العرب، كمواطنين مؤقتين، هو مطلوب بالحاح واكثر من أي وقت مضى حاليا، وعندما يحتفلون بيوم الاستقلال الثامن والخمسين للدولة، بدون مساواة قومية ومدنية داخل اسرائيل، وبدون التحرر من الاحتلال ومفاهيمه، وافساح المجال امام الفلسطينيين، لاقامة دولتهم المستقلة، على كل الاراضي التي جرى احتلالها في 15-6-1967 فقد تتحقق تحذيرات افشطاين والبر ممي.