لماذا يتغاضى النظام العالمي عن المجازر في سوريا؟


عديد نصار
2019 / 8 / 26 - 23:39     

على الرغم من دحض نظرية مالتوس وفضح مراميها الحقيقية، يبدو أن نظام رأس المال العالمي، في طور تعفنه، قد استعادها وبدأ عمليا تطبيقها على أرض عالم الجنوب بشكل واسع وعميق منذ نهايات الحرب الباردة والانفلات التام لسيطرته على العالم.
فالمرتكزات التي استند اليها توماس مالتوس في بناء نظريته كانت خاطئة اساسا، إذ إن اعتباره أن السكان يتزايدون بمتواليات هندسية لا تؤكده أية إحصائيات منذ زمنه، كما أن تزايد المحاصيل بمتواليات حسابية كان دحضه التقدم الهائل في اعتماد التقنيات الحديثة في انتاج الغذاء خلال القرنين الأخيرين. والأكثر أهمية في ذلك هو أن القوى الطبقية المسيطرة منذ أيام مالتوس وحتى الآن ترصد ميزانيات هائلة لتصنيع وشراء أدوات القتل والدمار وتنفق على لوجيستيات الحروب ما لو سُخّر لإطعام البشر وإسعادهم لجعل من الكرة الأرضية ما يمكن أن نسميه "كوكب السعادة والفرح" لجميع البشر دون استثناء حتى لو بلغ تعدادهم مئة مليارا وليس ستة أو سبعة مليارات يستأثر واحد بالماية منهم بنصف مقدرات الكوكب ويسخرها في دماره.
وإذ نرى كيف تنهب ثروات الجنوب بكل جشع أو تبدد بدون أي اكتراث، فيما تترك بلدانه نهبا لأنظمة العصابات المافيوية ولحروب الإبادة الطائفية والمذهبية والإثنية العبثية المستدامة من جانب ثم تغلق أبواب اللجوء في وجه أبنائه الفارين من كل هذا الدمار والقتل من جانب آخر، فكأننا بهذا النظام المسيطر عالميا يقول لأهل الجنوب: موتوا حيث أنتم فقد ناء نظامنا المأزوم بوجودكم!
وهكذا باشرت إدارة الرئيس ترامب بناء جدار الجنوب على حدود الولايات المتحدة الأمريكية مع المكسيك لوقف زحف اللاجئين اللاتينيين على الرغم من تكاليفه الباهظة والاعتراضات الواسعة عليه، وهكذا أحيلت الى المحاكمة القبطانة الشجاعة بيا كلمب، السيدة التي غامرت بإنقاذ المهاجرين غير الشرعيين باتجاه الشواطئ الأوروبية بحرا في المتوسط من الغرق بتهمة تشجيع الهجرة غير الشرعية.
حدثني أحد الأصدقاء فقال: "كان أن جمعنا حفل افطار في سنة 2004 مع الدكتور محمد وطفة أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية حيث تبادلنا أطراف الحديث حول تطورات الواقع العربي بعد الحرب الباردة وحصار العراق لاثنتي عشرة سنة ثم اجتياحه وما ألحقه ذلك من خسائر هائلة بالأرواح والمقدرات والمكانة، وحول الحروب الأهلية التي عمّت مناطق عدة في يوغوسلافيا السابقة إضافة الى اجتياح أفغانستان..
أذكر عبارة قالها الدكتور وطفة تؤيدها الأحداث الجارية في سوريا واليمن وليبيا وسواها، ومفادها أن النظام العالمي بعد الحرب الباردة قد وصل الى قناعة تصل الى مستوى العقيدة تقول إن ستة الى سبعة مليارات بشري على كوكب الأرض حمل فائض بشكل كبير، وإنه لا بد من خفض هذا التعداد البشري بما نسبته الثلث الى النصف، ولا بأس أن يتم ذلك بالحروب الأهلية أو الأمراض الوبائية أو بأي طريقة أخرى كالكوارث الطبيعية وحوادث الطرق..."
ومن تابع ولا يزال يتابع ما جرى ويجري في سوريا على مدى تسع سنوات بدموية أسدية مرعبة، ويلاحظ أشكال تفاعل قوى النظام العالمي ومنظماته معها، مع بدائية أساليب القتل الجماعي المستخدمة التي تشي أنه من السهل والسهل جدا على "المجتمع الدولي" إيقافها منذ البدء وعدم السماح بها من اللحظة الأولى لو أراد، فإنه سيرى أن ما قاله الدكتور محمد وطفة قبل نحو من خمسة عشر عاما يتطابق مع هذه الأحداث وأن هذه الأحداث هي مصداق لذلك القول.
التوصيف الأكثر انطباقا لما جرى ولا يزال في سوريا هو "الإبادة الجماعية" للسكان. إذ ليست أنواع الأسلحة وحدها ما يقرر التوصيف، بل النتائج المترتبة على استخدام هذه الأسلحة. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية في عهدي أوباما وترامب قد حددت "أسلحة الدمار الشامل" في سوريا بالترسانة الكيماوية، فإن نتائج استخدام السلاح الكيماوي لم تكن أكثر فداحة من التعذيب في المعتقلات، وأن السلاح الكيماوي لم يكن أكثر فتكا من البراميل المتفجرة، وفي الحالين فإن استخدام هذه الأسلحة لم يكن لاستهداف قوة معينة أو أهداف محددة يصوّب اليها هذا السلاح أو ذاك.
خذ مثلا إلقاء برميل متفجر على قرية أو حي أو منطقة سكنية، هذا البرميل لا يمكن توجيهه، بل يلقى وفقط، لا يهم أين وبمن يتفجر المهم أن يحصد أكبر عدد من الأرواح أكانوا أطفالا أم نساء أم مرضى أم رجالا أم شيوخا.. المهم أن يحصد أكبر عدد من الأرواح وإحداث أكبر قدر من الدمار والرعب. فكم من برميل متفجر أسقط طيارو العصابة الأسدية على مدن سوريا ولا يزالون؟
واليوم، حيث يُحشر قرابة اربعة ملايين انسان في منطقة "خفض التصعيد" الأخيرة في إدلب وجوارها، خفض التصعيد الذي تضمنه كل من روسيا وتركيا، روسيا "ضامنة" النظام وتركيا "ضامنة" المعارضة المسلحة (ولا أحد يضمن حياة الناس!)، وحيث تغلق أمامهم الآفاق والحدود، ويمنع عنهم السلاح الذي قد يقيهم من هجمات الطيران الحربي السوري والروسي وكلاهما روسي، يشاهد النظام العالمي بِدوله ومنظماته الدولية، بما فيها المنظمات التي تعنون لنفسها "إغاثية" و"إنسانية" و"حقوقية" بكل لامبالاة وانعدام للمسؤولية، بل بغض الطرف عن المجازر المتنقلة التي ينفذها الطيران الحربي التابع للنظام التابع لروسيا والتابع لروسيا نفسها والتي تناقلتها وسائط التواصل الاجتماعي وغضت الطرف عنها الكثير من الفضائيات التي تحتل أجواء العالم كله، والتي ضربت مدن الشمال الغربي جميعها تقريبا من معرشوكين الى معرة النعمان الى كفرنبل الى سراقب إلى اريحا وسواها وما خلفته من مشاهد قتل جماعي مروعة تؤكد على طبيعة الحرب التي يشنها النظام العالمي على السوريين في سوريا منذ العام 2011 بأنها جريمة إبادة شاملة كاملة الأوصاف لا يشابهها سوى المجازر التي ضربت بوروندا وراوندي وقد تفوق بأضعاف ما تعرض له المسلمون في يوغسلافيا السابقة خصوصا لجهة هذا الصمت الدولي الغريب والتعتيم الاعلامي شبة التام عن المجازر والجرائم ضد الانسانية التي ترتكبها الطائرات الحربية لعصابتي الأسد وبوتين في ادلب ..
النظام العالمي المتعفن، القائم على احتكار أسباب الحياة وتوجيهها لخدمة تأبيد سيطرته على العالم رغم تعفنه، يرى أنه لا بد من تخفيض تعداد ساكنة العالم بمقدار الثلث الى النصف، ومن لهذا غير شعوب البلدان المثقلة بالاستبداد والتخلف، ومن لهذه المهمة سوى عصابات المافيات العائلية التي تحكمها وترفع شعارا وحيدا لها من مثل: الأسد أو نحرق البلد، بل أيضا وايضا "الأسد ونحرق البلد".