فلسطين : كمبتدأ للحركة وخبر للصراع


أحمد محمد منتصر
2019 / 8 / 25 - 10:11     

دومًا يبحث المُحارب عن نقطة إرتكاز آمنة ، تكون بدايته ونهايته ، منها ينطلق وإليها يعود ، هكذا يجب ان يكون الأمر بالنسبة للسياسي الراديكالي ، ونقطة الإرتكاز الآمنة لأي طرح سياسي عربي يتحلي بقدر من الراديكالية هي مسألة فلسطين ؛

مسألة فلسطين لا يجب ان تُفهم عمومًا -وبالنسبة لنا كمصريين خصوصا- علي انها شأن خارجي او رؤية للسياسة الخارجية فهذا قصور في التحديد ولاسيّما والحكومة المصرية لا تتحدث عن التطبيع وفقط ، بل علي التحالف العسكري واللوجيستي والإتصال العضوي الإقتصادي والسياسي.

مسألة فلسطين لا تقتصر علي معاداة الكيان الصهيوني ونبذ الصهيونية ، بل تفتح مسألة فلسطين أعيننا علي شكل الصهاينة الجدد وقادتها وداعميها علي مستوي الطبقات الحاكمة بالخليج ومصر ، وقادتها وداعميها علي المستوي الحقوقي والإنساني من الليبراليين والديمقراطيين البرجوازيين الذين يتبنون السياسة والتغيير بمعزل عن سيناريوهات التبعية الإقتصادية لصندوق النقد ولتحالفات الصهاينة الجدد.

مسألة فلسطين لا تطرح التطبيع بإعتباره تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني ، بل التطبيع بإعتباره فلسفة ومنطق لفهم الأشياء والتاريخ : تطبيع الإحتلال والحروب والفوارق الطبقية والعمل المأجور واللامُبالاة ، وإعتبار كل ما سبق هي موجودات طبيعية بوجود الإنسان ، والحقيقة أن كل ما سبق هو نتاج المنطق الصهيوني وتزاوجه مع الطبقات الحاكمة العربية لتبنّي منطق للتطبيع العام ، يكبح كل رؤية مقاوِمة وكل مشروع تحرر وكل بناء سياسي يستمد طرحه وواقعيته من واقعية الظرف الموضوعي المتمثّل في وجود الكيان الصهيوني ليس ككلب حراسة للإمبريالية القديمة فقط ، بل شكل جديد يضمن ويحمي وجود الإنقسامات العرقية والدينية والتخلف الإقتصادي والتأخر الثقافي وتفتيت بنية الوعي العربي والقومي والتاريخي لشعوب المنطقة.

هنا تغدو مسألة فلسطين أكثر من قضية خاصة لشعبها ، بل قضية بمثابة مبتدأ للحركة وخبر للصراع ، انها تشرح لنا تطوّر النفوذ الصهيوني من "الهاغاناه" إلي "ذا ڤويس إسرائيل" ، من الإستيطان والإحتلال للتطبيع ومنطق التطبيع وفلسفة التطبيع.
انهم لا يحاربونا فقط بالسلاح ، بل باللامُبالاة والإستلاب ، فحين يخرج أحدهم ويشارك فيديو لفلسطينية تغني بالعبري والعربي ، بإعتباره فنّ ، وفنّ فقط ، فهذا ليس تبرير ، بل تطبيع وتزوير وتدليس ، هذا الفيديو ليس مجرد أغنية وصوت عذب وانفعال موسيقي ، هذا الفيديو يمثّل كل دعايا الصهاينة الجدد ، من طبقاتنا الحاكمة التي اتصلت عضويًا بالكيان الصهيوني ، لنخبتنا وليبراليينا وديمقراطيينا وعوام اللامُبالين ، بأن هذا هو الأمر الواقع ، ستتحوّل فلسطين لإسرائيلي ، وسيغدو الفلسطيني إسرائيلي ، وستركب اللغة اللغة ، وهذا هو الأمر الواقع!
هكذا هي لغة الصهاينة الجدد ، إقرار واقع بإعتباره منطق تأبيدي للحياة ، هكذا يخبرونا دومًا من يريد ان يصبح مشهورًا وعالميًا عليه مغادرة فلسطين ، مغادرة الحرب والدمار والقتل والإستيطان والوجود الصهيوني وتدنيس مقدسات وتراث وهوية الفلسطينيين ، كالفيلم التوثيقي لرحلة محبوب العرب -المغني الفلسطيني محمد عساف- فلا يخبر الفيلم شيء عن كل ما سبق ، كل ما يخبرنا إياه هو :
انه يريد ان يصبح مطرب مشهور ، لذا فعليه مغادرة فلسطين !
نعم هذا هو الواقع ، الإحتلال واقع ، والصهيونية واقع ، والتطبيع واقع ، وكل دعايا المقاومة الهادئة ستغدو يومًا ما مشروعًا واقعيًا ، ولنعلم ان اقترابنا من هذا الواقع هو من واقع رفضه ، وهذا الرفض ينفي هذا الواقع في مخيلتنا اليوم ، وفي واقعه غدًا.

ولأن الإحتلال واقع ، والنفوذ الصهيوني واقع ، فعلينا أن نعرف لأي مدي تقودنا التبعية والتحالفات المتصهينة ، ففي خضم أزمتنا الإقتصادية بمصر وإرتباطها بوجود حكومة السيسي التي تبنّت من اول يوم وفي وقت قياسي روشتة الإصلاح المقدمة من صندوق النقد وإنتاج مواطن تحت خط الفقر بين كل ثلاثة مواطنين وخصخصة العلاج والأكل والشرب وإرتفاع البطالة ، نُشرف الآن علي الدخول في أزمة إقليمية ، وهي أزمة المياه المرتبطة ببناء سد النهضة ، وتلك الأزمة هي تصريح مباشر علي محورية مسألة فلسطين في أزمتنا المصرية ، علي مستوي السلطة وعلي مستوي الثورة.

في أوائل يوليو 2019 خرج علينا موقع ديبكا الصهيوني بمناشدة مكتب السيسي بالقاهرة ورفض تل أبيب للنداءات المباشرة والغير مباشرة من مكتب القاهرة ، التي تطالب فيها الحكومة الصهيونية بالتوقف عن إمداد أثيوبيا بمنظومة الصواريخ الجديدة.
وللعلم فقد بدأ الكيان الصهيوني ببناء النظام الدفاعي حول سد النهضة في أوائل شهر مايو ، وذلك عبر قرار اثيوبيا بشراء نظام الدفاع الصهيوني المضاد للطائرات Spyder-Mr الوحيد في العالم القادر علي اطلاق نوعين مختلفين من الصواريخ من قاذفة واحدة والتي يتراوح مداها بين 50-300 كم ، مع العلم ان تم تجريب هذا النظام في الحرب الهندية الباكستانية في كشمير منذ عدة شهور.

أزمة المياه تلك والتي تقف فيها الحكومة المصرية في موقف ضعف بدءًا من اتفاقية عنتيبي مرورًا بمباحثات الخرطوم حول حصة مصر ومدي تأثرها من المياه ، تلك الأزمة تدور علي مستويين :
الأول مستوي العطش والجفاف وفقد المياه ، وهذا ما نتتبعه في قطاعات ديمغرافية معينة بمصر منذ 2017 وحتي الآن خصوصا بمحافظة الإسماعيلية ، التي توجّه العديد من مراكزها وقراها - مركز فايد وسرابيون وأبوصوير - للشركة القابضة للمياه يشتكون قطع المياه وعدم وصولها بالأيام ووصول العطش لهم ولبهائمهم.
الثاني وهو مستوي تعطيل الزراعة وتدمير بنية التربة المصرية نظرا لإعتماد الزراعة المصرية علي الغمر كتقنية أولية للزراعة ، وهذا ربما يفتح الباب أمام الحكومة المصرية لعقد المزيد من إتفاقيات التعاون مع الحكومة الصهيونية لتوفير الأسمدة الزراعية -التي هي بالأساس تأتي من إسرائيل- والتحكم في بنية الري والإتجاه للإعتماد علي الري بالتنقيط - تقنية صهيونية بإمتياز ظهرت للعالم أجمع - ونظرا لتفوق الكيان الصهيوني في البنية التكنولوجية الزراعية من خلال مؤسسة "ماشاف".

الصهيونية بدأت بالميليشيات المسلحة والهاغاناه بإحتلال الأراضي الفلسطينية ، والصهاينة الجدد يتوسّعوا بإفريقيا وآسيا تحت بند المساعدات الإنسانية والمشاريع التنموية والعلاقات الإقتصادية ، ولعل تواجد الكيان الصهيوني بإثيوبيا هو التواجد الأعظم والأكثر في محيط وأراضي خارج الأراضي المحتلة ، كتقنيين عسكريين وزراعيين وصناعيين ورجال أعمال ، وهذا ما جعل الجيش الإثيوبي ثالث جيش إفريقيا بعد مصر والجزائر ، وال42 عالميا ، ويتواجد الآن الصهاينة بأوغندا وغانا وكينيا وفي الهند والعديد من الدول العربية.

هذا هو مآل المشروع الصهيوني ، تبعيتنا لصندوق النقد ولتسهيلات القروض الأمريكية ورضا الكفيل الخليجي السعودي/الإماراتي وربطنا بالمعونة العسكرية وتمسّكنا بالكتاب المقدّس الذي أنزل بكامب دايفيد ، كل هذا يجعلنا حكومتنا المصرية أقرب وأقرب للصهاينة ، ويجعل كل الدعايا الموجّهة لشعبنا متصهينة ، ويجعل كل السياسات المطبقة علي شعبنا أكثر تصهينًا ، إفقارنا وتشريدنا وخصخصة قوتنا وعلاجنا وتخوين الشعب وقمعه وتهجيره والإستيلاء علي أرضه بسيناء والورّاق وطول كورنيش النيل وطول كورنيش الإسكندرية ومن قبل النوبة ، كل هذا يجعل الشعب ينسي فلسطين ، ويسبح في بئر اللامبالاة المفروض ، ولكنّ بمدّ إستقامة الخط من فلسطين ، نجد أننا نمثّل فلسطين ، اننا نواجه الصهاينة الجدد ، صهاينة الغزو المالي ومشاريع التبعية وفلسفة التطبيع ، تطبيع كل شيء ، تلك هي ضمانة وصمام أمان الوجود الصهيوني ، لا الميليشيات الإستيطانية ولا حكومات الليكود ولا اللوبي الصهيوني ، بل الحكومات العربية ورجال الأعمال العرب والشعوب المنسحقة تحت سياسات الإفقار والجوع والعبودية لصالح حفنة الأموال الخليجية ، اللوبي الجديد ، رعاة الصهاينة الجدد.

إننا في زمان يفتقر للإيمان ، الإيمان بأزماتنا الكونية وبطريقة حلّها ، أن نؤمن بالثورة ليس كافٍ ، وأن ننخرط فيها ليس أيضًا كافٍ ، بل أن نعيش الثورة كل يوم ، بعيش ووعي المشكلات اليومية ، بربط أتفه أزماتنا الوجودية بأعقد أزماتنا الإجتماعية ، بوعي أن الإكتئاب ومرض نفسياتنا هو التمثّل الذاتي للمرض الإجتماعي الأصيل : اللامبالاة العامة والإستلاب ، هذا ما لا يفهمه الجميع ، وهذا ما يفهمه الصهاينة جيدًا ، تصفية كل إرث وكل هوية وكل تاريخ وكل تجربة وكل مقاومة وكل حركة تحررية ، لتفريغ البنية العربية تماما من عناصرها الهويّاتية ، لتصدق مقولتهم الدعائية الأولي : أرض بلا شعب ، لشعب بلا أرض.