سوريا والسارين والعالم


ياسين الحاج صالح
2019 / 8 / 20 - 21:07     

ثمة لحظات بالغة الكثافة، تنفتح وكأنها نوافذ على التاريخ، نرى منها بوضوح عالمنا في مسارات هي في العادة خفية مبهمة. ومن بين هذه اللحظات المنيرة للإدراك تلك الأسابيع الثلاثة التي انقضت بين المجزرة الكيماوية في الغوطة الشرقية في الحادي والعشرين من شهر آب/أغسطس 2013 وبين الصفقة الكيماوية التي عقدتها أمريكا وروسيا في الثالث عشر من شهر أيلول/سبتمبر 2013 بشأن نزع الأسلحة الكيماوية من يد نظام بشار الأسد. وثمة أيضاُ أمكنة يتفق لها أن تكون بمثابة مقاطع عرضية تكشف بنية العالم في تلك اللحظات، والغوطة الشرقية إبان تلك الأسابيع هي إحدى هذه الأمكنة. وما حدث فيها كان أولاً وأخيراً مجزرة نفذت باستخدام أسلحة كيماوية محظورة دولياً، وكان ثانياً مكافأة الجزار الكيماوي من خلال القبول به كطرف سياسي رغم أنه كان للتو ارتكب مجزرة إبادية، بغرض إبقاء محكوميه خارج السياسة، سبقتها مجازر أخرى أوقعت إلى حينه نحو 200 ألف منهم. تسعى هذه الورقة إلى إظهار أن المجزرة هي دولة في سوريا ونظام دولي في العالم.

في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليل الحادي والعشرين من شهر آب/أغسطس 2013 استيقظ من لم يمت فوراً من سكان زملكا وعين ترما في الغوطة الشرقية والمعضمية في الغوطة الغربية على وقع هجوم صاروخي بصواريخ مزودة برؤوس حربية كيماوية تحتوي على مادة السارين. وقد تم الكشف لاحقاً من خلال تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش أن الصواريخ التي استخدمت في هذا الهجوم الكيماوي الأكبر من بين كل الهجمات التي سبقته أو تلته قد تم إطلاقها من القواعد التابعة لقوات النظام في مطار المزة العسكري وفي مقرات الفرقة المدرعة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق بشار وابن حافظ الأسد. ووفقاً لما أورده إليوت هيجنز في الموقع الالكترونيBellingcat، ولما أوردته تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش فقد تم إطلاق الصواريخ باستخدام منصات إيرانية. وقد تزامن هذا القصف الصاروخي للمناطق المستهدفة مع قصف مدفعي كان الناس قد اعتادوا عليه خلال ما يقارب سنة سبقت تلك الليلة (وسيستمر على مدى أربعة أعوام ونصف أعقبت تلك الليلة حتى عاد النظام إلى احتلال المنطقة في شهر نيسان/أبريل 2018). كان المقصوفون يلجؤون أثناء القصف المدفعي إلى الأقبية أو الطوابق السفلية للاحتماء والحد من الأضرار، غير أن ذلك الخيار كان لسوء الحظ هو الأسوأ في حالة الهجوم الكيماوي. وبدا الأمر كما لو أن المهاجمين أرادوا زيادة عدد الضحايا إلى أكبر قدر ممكن، وذلك بأن يقتلوا بالسارين من لجأوا إلى الأقبية وأن يقتلوا بقذائف المدفعية من تسنى لهم أن يدركوا أن الهجوم هو هجوم كيماوي.
ولقد حكت رزان زيتونة في نثر حزين لا ينسى عن ذلك المزيج من الانكسار والعجز الذي ورد في كلمات أم تخاطب ابنها قائلة: "ابني اغسل أسنانك واذهب إلى سريرك فقد تأخر الوقت. ولا تشرب الكثير من الماء قبل النوم! وإذا سمعت هدير الطائرة انزل إلى القبو، وإذا شممت رائحة غير طبيعية اصعد إلى السطح، وإذا لم تجد الوقت كيف تفعل أي شيء، فاعلم أني أحبك كثيرا، لكن ليس باليد حيلة. العالم قذر ومتوحش. ستفهم يوما حين تكبر، إذا أتيح لك أن تكبر!"
وفي صباح اليوم التالي أعلن مركز توثيق الانتهاكات أن عدد الضحايا بلغ 1,302 شخصاً. وكانت رزان، وهي مؤسسة المركز ومن كبار العاملين فيه، تتابع شخصياً الموقف على الأرض بمساعدة عدد من الناشطين المحليين ومن شركاء مركز توثيق الانتهاكات. كان ثلثا الضحايا من النساء والأطفال، كما أبيدت عائلات بأكملها: الأب والأم والأطفال. وقد دفنت أشلاؤهم في مقابر جماعية، وكان دفنهم سريعاً نظراً لاستحالة الاحتفاظ بالأجساد في قيظ شهر آب/أغسطس، ولا سيما في ظل الانقطاع المستمر للطاقة الكهربائية وقد ابتدأ منذ شهر تشرين الثاني/نوفمبر2012، أي قبل نحو تسعة أشهر من وقوع المجزرة. وكان القادرون من السكان المحليين يعتمدون على مولدات كهربائية أصبح الوقود اللازم لها باهظ الثمن بفعل الحصار المفروض على المنطقة. لم يتم توثيق جميع أسماء الضحايا بسبب الإسراع في أعمال الدفن ولأن بعض حالات الدفن قامت بها عائلات الضحايا بنفسها. ولم تتمكن بعض العائلات من معرفة مصير بعض أفرادها المفقودين، ومنهم من قتلوا ودفنوا قبل أن يتمكن بقية أفراد عائلاتهم من معرفة ما حدث لهم أو المكان الذي نقلتهم إليه سيارات الإسعاف. فقد كان المصابون ينقلون إلى أمكنة مختلفة نظراً لإسهام أطراف عديدة في أعمال الإسعاف من سكان وفرق دفاع مدني وجيران في سباق مع الوقت. وهكذا تشتت أفراد العائلة الواحدة بين أكثر من نقطة طبية في أكثر من بلدة، وفقد بعضهم آثار بعض.
كان الكادر الطبي محدوداً من حيث العدد والعدة، ولكنهم حاولوا فعل كل شيء ممكن على الرغم من عدم كفايته. وهكذا تم علاج المصابين باستخدام أتروبين منتهي الصلاحية أو أتروبين المخصص للحيوانات. وعلى الرغم من أن أرواحاُ كثيرة قد تم إنقاذها إلا أن أرواحاُ كثيرة أخرى فقدت بفعل نقص الموارد البشرية والدوائية. ووفقاً لتقارير مركز توثيق الانتهاكات فقد تجاوز عدد المصابين 9,000 شخص، فيما بلغ عدد الذين قتلوا زهاء 1,466 شخصاً وفقاً للأرقام التي نشرها المركز الطبي الموحد في الغوطة الشرقية بعد أيام من تاريخ وقوع المجزرة.
تحوز المجزرة الكيماوية التي حدثت في آب/أغسطس 2013 أهمية خاصة في تاريخ سوريا وفي تاريخ العالم، وذلك لعدة أسباب.
أولها هو أنها تمثل أوسع استخدام لأسلحة الدمار الشامل المحظورة دولياً ضد معارضي الدولة الأسدية التي سبق لها أن استخدمت الأسلحة الكيماوية 31 مرة من بينها 14 هجوماً أقر الأمريكيون بوقوعها، وذلك حسب ما ذكرته رزان زيتونة في اتصال شخصي معها عقب المجزرة مباشرة. قبل ذلك، كان النظام قد انتقل تدريجياً من استخدام الرصاص الحي إلى استخدام المدفعية الثقيلة، ومن استخدام الدبابات إلى استخدام الصواريخ بما فيها صواريخ سكود بعيدة المدى، كما استخدم الطائرات الحربية والبراميل المتفجرة إلى جانب القتل بالتعذيب وتحت التعذيب. وهذا الاستخدام لأسلحة الدمار الشامل ضد سكان محاصرين نائمين، وبالترافق مع القصف المدفعي ثم غارات الطيران الحربي في صبيحة اليوم التالي، يندرج ضمن نموذج يمكن أن يدعى الحكم بالقتل، سواء أكان القتل جماعياً أم فردياً، أو لعل الأصوب أن يدعى الحكم بالمجزرة. لقد كان القصد في كل مرة تستهدف فيها منطقة ما بقذائف المدفعية أو الصواريخ أو الطائرات الحربية أو الأسلحة الكيماوية هو قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين. وعلى وجه الخصوص فإن البراميل المتفجرة لا ترتكب المجازر بحق البشر وحسب وإنما بحق الأبنية أيضاً، وذلك بأدنى كلفة ممكنة وبأكبر قدرة تدميرية.
ولقد سبقت المجزرة الكيماوية مجازر كبيرة أخرى قتل فيها بعض الضحايا بالسلاح الأبيض أو بحرقهم أحياء، كما في المجازر التي حدثت في بانياس ورأس النبع أو قبلها في داريا وفي كرم الزيتون في حمص. وقد ترافق ذلك دائماً مع أعمال السطو ونهب محتويات البيوت فيما أطلق عليه اسم التعفيش للدلالة على هذا السلوك المتكرر. وقد مهد هذه الطريق أمام هذه المجزرة توصيف الثائرين على النظام بأنهم إرهابيون وحثالة وعملاء لقوى أجنبية مختلفة مما ساعد على تجريدهم من إنسانيتهم في وسائل الإعلام العامة. كذلك كان لهذه المجازر دافع آخر يتمثل في سوابق قريبة العهد لعمليات إبادة جماعية ناجحة نجا من دبروها من كل عقاب وملاحقة. وهنا تبرز مجزرة حماة الكبرى في عام 1982 كمثال جلي عن الإبادة المدينية urbicide، أي قتل أو إبادة مدينة. فقد كانت حماة مثالاً لإبادة جماعية ناجحة مهدت الطريق لنجاح حكم الدولة الأسدية لنحو ثلاثين عاماً بعدها. وخلال هذه السنوات تحول رعايا هذه الدولة إلى كائنات مذعورة تستجيب إلى كافة أنواع المؤثرات والحوافز بردود فعل مدجنة كالتجنب والانكفاء وإنكار الذات على المستوى السياسي. وينقل عن رفعت الأسد بطل مجزرة حماة قوله إنه بات بالإمكان الآن حكم المدينة بوساطة حارس ليلي واحد. هذه الفكرة عن إمكانية تحقيق السيطرة السياسية من خلال عمل حارس ليلي واحد يكفي لضمان أمن قرية بأكملها أو بلدة صغيرة ما هي إلا يوتوبيا الاستبداد السعيد.
وثاني أسباب أهمية المجرزة الكيماوية هو أن هذا الهجوم وقع على منطقة محاصرة عانى سكانها أصلاً من نقص الغذاء والدواء والماء والكهرباء. وكان الحصار الممنهج أسلوباً في السيطرة طوره النظام خلال الثورة السورية عندما لم يعد قطع الطرقات بين المدن والبلدات وفصلها عن بعضها بالحواجز ونقاط التفتيش يكفي للسيطرة على الحراك المدني، وسبق للنظام أن طور هذا التكنيك في سياق الحرب الأسدية الأولى 1979-1982. وجرى إطلاق شعار مسجوع لمناسبة الحصار وهو: الجوع أو الركوع. أي أنه يتوجب على السكان الاختيار بين المجاعة أو الخضوع السياسي. وقد حدثت بالفعل حالات موت من الجوع في المعضمية ومضايا وفي دوما والغوطة الشرقية، وهو ما شهدت عليه سميرة الخليل في كتابها: يوميات الحصار في دوما 2013. وقد تكرر حدوث ذلك بين وقت وآخر في هذا الجيب الخارج على سيطرة النظام، وقد وصفه أسامة نصار الذي عاش الحصار طوال حو خمس سنوات بأنه معسكر اعتقال. وهو بالفعل ثاني أكبر معسكر اعتقال في الهواء الطلق في العالم بعد قطاع غزة.
ويشبه شعار الجوع أو الركوع في بنيته شعارات عدمية أخرى مثل :الأسد أو لا أحد! و: الأسد أو نحرق البلد! و: الأسد أو بلاها هالبلد! ويجب ألا ننسى أن هذه الشعارات هي تعبيرات أكثر صراحة عن شعارقيد، أقل مباشرة في التعبير: الأسد إلى الأبد! بإكراه السوريين على الاختيار بين الموت وبين نظام الذل الأبدي، ما الذي يستبعد؟ تسبعد السياسة، أي الاجتماع والحديث والاحتجاج ورفع الصوت عالياً بشأن المسائل العامة، ناهيك عن مفاهيم التغير والمستقبل. وترتكز بنية النظام الأسدي على الحرب ضد المستقبل من خلال حرمان السوريين في بلدهم من السياسة ومن التغيير. وهو حرمان يتطلب ارتكاب المجازر بين فترة وأخرى من أجل تأبيد النظام. وبهذا المعنى تكون المجازر والحصار والمجاعة هي استمرار لنظام العدمية السياسية، أي الدولة الأسدية، بوسائل شديدة العنف. أتكلم على عدمية سياسية لأنه لا وجود للسياسة في الدولة الأسدية التي وضعت كلمتي إلى الأبد، وما تقتضيانه من إعدام المستقبل، في شعار تفرض على رعاياها تكراره كل صباح، وهو ما يعني أن نهاية هذه الدولة وحدها هي شرط ظهور السياسة. وهذا الأمر بالذات هو ما يرفض الإقرار به الكثيرون من المتواطئين مع النظام بما فيهم القوى الدولية ذات النفوذ كالأمم المتحدة التي تقدم التمويل لمنظمات "المجتمع المدني" من قبيل "جمعية البستان" التي يملكها أغنى رجل عربي، رامي مخلوف.
ونضيف هنا أن نظام العدمية السياسية يوفر الشروط المثلى لظهور نمط آخر من العدمية السياسية أي عدمية السلفية الجهادية. فإذا أبقينا ذلك في البال ظهر لنا أن استراتيجية النظام الدولي الحالي، والمتمثلة في القضاء على عدمية واحدة (الجهاديين) من دون التخلص من الأخرى (الأسدية) هي بمثابة طريق مفتوح لعنف عدمي لا تعرف له نهاية.
والمجزرة مهمة لسبب ثالث: أن الاتفاقية الروسية ـــ الأمريكية التي تمت بعد ثلاثة أسابيع من المجزرة الكيماوية هي بحد ذاتها مجزرة ضد العدالة والسياسة والحقيقة. فالمجرم لم ينج من العقاب وحسب، بل تم القبول به على المستوى السياسي من دون فرض أي حدود على قدرته على مواصلة الحرب ضد رعاياه، ونكرر هنا مرة أخرى أنها حرب تهدف أساساً إلى استبعادهم من حقل السياسة. بهذا المعنى أضحى إبعاد السوريين عن السياسة ومنعهم من ممارسة السلطة السياسية مكفولاً دولياً .
فما الذي جرى في تلك الصفقة؟ لقد تم الاتفاق على نزع سلاح النظام عقاباً على انتهاكه للقانون الدولي، وليس عقاباً غعلى قتله رعاياه بهذا السلاح المحرم وغيره. وقد تم الإيحاء بفكرة هذه من قبل إسرائيل، الدولة التي يتنافس الروس وألأيمريكون على إرضائها: HYPERLINK "https://www.nytimes.com/2015/06/16/world/middleeast/israeli-helped-inspire-us-russia-weapons-deal-with-assad-memoir-says.html?_r=0"https://www.nytimes.com/2015/06/16/world/middleeast/israeli-helped-inspire-us-russia-weapons-deal-with-assad-memoir-says.html
ما جناه الروس من الصفقة الكمياوية هو نقاذ نظام يدعمونه، وأراد الأمريكان منع سقوط لا يتحكمون به هم للنظام. أما النظام ذاته فيريد أن يحكم إلى الأبد. وأرادت إسرائيل أن تحرمه من سلاح يحتمل أن يصبح خطراً عليها. ووفقاً لما قاله الوزير الإسرائيلي يوفال شتاينتس الذي صرح بأن الصفقة كانت فكرته هو ونتانياهو فإن السوريين سيربحون أيضاً: "فهم لن يعانوا من هجمات كيماوية أخرى". ونعلم اليوم أنه حتى هذا الأمر لم يكن صحيحاً. فالسوريون الذين كانوا يتعرضون من قبل للقتل بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها السلاح الكيماوي ظلوا يتعرضون للقتل بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها السلاح الكيماوي.
ولم تنص الاتفاقية أبداً على وجوب توقف النظام عن قتل رعاياه، ولم يتم حتى تسجيل ملاحظة بهذا الشأن. وقد أدرك النظام بسهولة أن قتل رعاياه باستخدام أسلحة غير كيماوية كان أمراً مسموحاً به. وهكذا كانت الصفقة الكيماوية منعطفاً كبيراً في الصراع السوري، وذلك بالتحديد لأنها عنت أن النظام لن يحاسب عن جرائمه وأنه صار مشمولاً في التفاعلات السياسية الدولية كتلك القائمة بين أمريكا وروسيا وإسرائيل. بهذا المعنى كانت الصفقة الكيماوية استمراراً للمجزرة الكيماوية عن طريق القانون الدولي، وكانت بمثابة خديعة دولية كبرى تصور التضحية بالشعب السوري على أنها انتصار للعدالة والسياسة. وخلافاً لكل وهم فقد كان أوباما وبوتين امتدادين لبشار الكيماوي بقدر ما كان رمز الإبادة المكثفة الذيم مثلته المجزرة الكيماوية امتداداً للإبادة السياسية المستمرة التي جرت طوال سنوات الحكم الأسدي.
وأكثر من ذلك فقد شكلت الصفقة الكيماوية سابقة على صعيد استخدام أسلحة الدمار الشامل. فلن يكون بمقدور النظام الدولي الحالي فعل أي شيء في الحالات التي قد تحدث مستقبلاً طالما أنه شرعن سابقة وكافأ عملياً مرتكبيها. فإذا استخدم أي نظام إبادة جماعية آخر الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية أو حتى النووية ضد رعاياه، فمن سيكون في موقع قانوني أو أخلاقي سليم حتى يحاسبه؟ وهل يحتمل أن ينجح النظام الدولي في التوحد في وجه مرتكب جريمة إبادة جماعية بعد أن فشل في التوحد في وجه مرتكب آخر؟ لا ريب أن ذلك سيكون غاية في الصعوبة مع وجود حجة جاهزة تصب في صالح أي مرتكب لجريمة جديدة. والواقع أن هذه السابقة التي ارتكبتها الدولة الأسدية شكلت الأساس لقيام النظام ذاته باستخدام السلاح الكيماوي لاحقاّ. لقد انتفع النظام الذي يفترض أنه قد جرد من سلاحه الكيماوي من شهادات حسن السلوك التي سارع إلى إغداقها عليه الأمريكيون والروس والأمم المتحدة. ونالت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية جائزة نوبل للسلام تقديراً لدورها في التجريد المزعوم للنظام السوري من أسلحته وذلك بعد مضي شهرين فقط على الصفقة الكيماوية، وكانت شهادة الزور هذه بمثابة تربيتة على الظهر وشهادة حسن سلوك للقاتل الإبادي بشار. ولم تسحب الجائزة من المنظمة بعد الاستخدام المتكرر من قبل النظام لغاز الكلورين ضد رعاياه ولا حتى بعد استخدامه مجدداً لغاز السارين في شهر نيسان/أبريل 2017 في خان شيخون. فلم يعتذر أحد، ولم يراجع أحد موقفه، ولم يطالب أحد بمحاسبة المجرم الذي ما كان ليستخدم أسلحة الدمار الشامل مجدداً لو لم يشعر بأنه قد منح الحصانة في المرة السابقة. وقد استنتج بشار محقاً من الصفقة الكيماوية ومن الشهادة السريعة بتعاونه مع "المجتمع الدولي" بأن هذا الأخير ليس جاداً حتى بخصوص تجريده من غاز السارين طالما هو يستخدامه حصراً ضد رعاياه. النظام بعلم جيداً بالمقابل أنه لو كان قد استخدم ذلك السلاح القاتل ضد إسرائيل لتم سحقه على الفور.
وتستمد لمجزرة أهميتها من سبب رابع يتعلق بتطور حالة الحصار الداخلي، وهي حالة تعرضت لها بشكل خاص الغوطة الشرقية ودوما بعد أن استبعدت جميع فرص التغيير في سوريا وبضمانات دولية. فبعد أسبوعين من الصفقة الكيماوية قام فصيل سلفي مسلح بترقية نفسه من لواء إلى جيش مصراً على التعريف بنفسه ببساطة بوصفه جيش الإسلام، تماماً كما أطلقت داعش على نفسها اسم الدولة الإسلامية. وتستفيد المجموعات السلفية عموماً من ظروف اليأس والتشاؤم العام ومن غياب الجمهور أو من إقصائه تماماً عن السياسة. وسياسة السلفيين نخبوية بشكل حصري تميز بين المسلمين المؤمنين وغير المؤمنين على قاعدة المعرفة الدينية، وتجعل من ذلك أساساً للحصول على السلطة والامتيازات. وكانت الصفقة الكيماوية هدية عظيمة لهذه المنظمات الإسلامية العدمية، حيث عززت من رؤيتها للعالم بوصفه مكاناً هو في جوهره آثم وفاسد وعدائي. وهذا ما يسهل عليهم مهمة السيطرة على الرعايا وعزلهم فيتهمون كل من لا يخضع لهم بـ"الكفر"، تماماً مثلما كان المحكومون أنفسهم مهددون بتهمة الخيانة من قبل العقيدة البعثية التي صورت العالم بدورها كخطر محدق ومؤامرة لا تنتهي. والسلفيون كالبعثيين ينثرون بذور العنف في الحياة اليومية بغرض تخويف الناس وضمان أمن أصحاب السلطة. وكان من بين ضحايا هذا النموذج الديني من العدمية المرأة التي وثقت المجزرة الكيماوية، رزان زيتونة. وكما تقدم ذكره كانت رزان هي المحرر الرئيس لتقرير صدر عن المجزرة بعد يوم من وقوعها. كما كانت وراء تقرير ثان صدر بعد ذلك بأسبوع، وإلى جانب رزان اختطفت أيضاً سميرة الخليل، وهي شاهدة أخرى على المجزرة، وفي كتابها المذكور آنفاً قامت سميرة بعقد مقارنات مؤلمة بين الاعتقال السياسي الذي تعرضت لها شخصياً ما بين عامي 1987 و1991، وكان تحديداً في سجن دوما للنساء، وبين حالة الحصار التي عاشتها مع أهالي دومابين أيار وكاون الأول 2013، وخلصت إلى أن اعتقالها هو مزحة بالمقارنة مع الحصار الذي طال الأطفال والنساء والرجال على حد سواء، فوق كونه مصحوباً بالقصف. وكانت هاتان المرأتان علمانيتين ديمقراطيتين غير محجبتين، وشهادتهما لا تقدر بثمن لأي تحقيق دولي أو جهد دولي يسعى لتحقيق العدالة بشأن هذه المجزرة. ولعل اختفاؤهما القسري قد تم تدبيره لهذا السبب بالتحديد. وقد اختطف مع رزان وسميرة كل من وائل وناظم اللذين لم يكونا في الغوطة لحظة المجزرة ولكن الرجلين اختفيا مع المرأتين.
وبعد عدة أسابيع من الصفقة الكيماوية قام النظام بتشديد سيطرته على حركة الدخول إلى منطقة المجزرة والخروج منها، حتى فرض عليها حصاراً كلياُ مطبقاً في تشرين الأول 2013. وبالتزامن مع ذلك كان جيش الإسلام يفرض حصاره الداخلي على ما كان ثاني أكبر معسكر اعتقال في الهواء الطلق في العالم بعد غزة.
المجزرة الكيماوية والصفقة الكيماوية تظهران امّحاء للحدود بين الحرب والسياسة سواء في الداخل السوري أم على المستوى الدولي. فسياسة النظام هي الحرب على رعاياه المتمردين، وقدرة النظام على الاستمرار في الحرب ضد رعاياه تضمنها سياسات القوى الدولية صاحبة النفوذ. وبعبارة أخرى فإن حرب بشار هي سياسة أقوياء العالم. وبالتالي، ليست المجزرة حدثاً محلياً عارضاً، بل هي نهج في الحكم يحظى بحماية دولية. قبل المجزرة كان النظام يقتل رعاياه طيلة نحو عامين ونصف، واستمر بعدها في قتلهم طيلة أربعة أعوام ونصف حتى يومنا هذا.
وحتى لحظة تلك الحادثة كان قد قتل نحو 100,000 شخص في صراع كان إلى حد بعيد صراعاً داخلياً سورياً. ومنذ أن قتل بشار الأسد السوريين بغاز السارين ومكافأته لاحقاً بالقبول به كطرف سياسي مساو لغيره من النافذين الدوليين في شأن مستقبل سورية (وهو الامتياز الذي استخدم غاز السارين لمنع السوريين من الحصول عليه) سقط ما لا يقل عن أربعة أضعاف ذلك العدد من الضحايا، وحدث نصف كل التهجير القسري الذي فرض على السوريين طوال فترة الصراع. فهل ثمة مبالغة إذن في القول إن الإبادة الجماعية والتهجير القسري يحدثان في سوريا ضمن إطار دولي صنعته الصفقة الكيماوية التي، ونكرر القول هنا، لم تتطلب من النظام وقف قتل رعاياه بوسائل أخرى؟ أو في القول إن الإبادة والتهجير يحدثان ويستمران إلى يومنا هذا بموافقة دولية ورقابة دولية؟ أو في القول إن تدويل الصراع السوري منذ المجزرة الكيماوية الأولى كان امتداداً للسياسات الأسدية في الإبادة والتهجير؟ ويجري الكلام اليوم على إعادة تأهيل بشار الأسد ونظامه، وهو كلام دشنته الصفقة الخسيسة التي أعقبت المجزرة. وهكذا قصف الأسد السوريين بالسارين وقصف العالم نفسه بسوريا يحكمها بشار الساريني. وفي هذا ما يكفي لتسويغ الكلام على “سورنة” العالم.