حول دور البروليتاريا المنحدرة من الريف في ثقافة المدن. -1- العمارة


فلاح علوان
2019 / 8 / 20 - 16:38     

-1-
تبدو العمارة كثقافة وتقليد أكثر منها مدينة أوإقليم أو منطقة، وخاصة في المرحلة التي تشكلت فيها صبغتها الثقافية العامة التي نحن بصددها. وعلى الرغم من تاريخية العمارة ووجود مملكة غابرة على أرضها تحمل اسم مملكة ميسان كما تكشف الدراسات، فلا تكاد تجد فيها معالم مميزة أو آثار، أو مرافق عمرانية بارزة عدا عن مراقد أو مواقع لنبي هنا أو ضريح أو مقام مقدس لسبب أو لآخر متناثرة هنا وهناك، وهذه ترتبط بالمعتقدات والتقاليد أكثر من كونها عمراناً. والعمارة تظهر كمستودع لتقاليد ذات صبغة غالبة، بحيث تطغى أو تبرز بقوة أينما حلت. وحيث إن المدن التي قصدها النازحون من ريف العمارة خلال العقود السبعة أو الثمانية المنصرمة هي بغداد والبصرة بصورة رئيسية، وأصبحوا يشكلون نسبة عالية من سكانها، فقد أصبحت هي المدن التي شهدت التأثر الاكبر بالتقاليد القادمة من الريف. ان كون المدينتين المشار اليهما هما أكبر مدن العراق، وهما من الولايات الثلاث المكونة له في العهد العثماني، والتي تشكل منها فيما بعد ما أصبح يعرف بالدولة العراقية الحديثة، فان التأثير الثقافي كان بالغاً وكان ذا صبغة عامة، أي على مستوى العاصمة وأجزاء رئيسية من البلاد. ويرى الكثير من ذوي النزعة المحافظة ومن المتشبعين بالثقافة الارستقراطية والثقافة التقليدية، ان هذا النزوح كان وما يزال سبباً في تراجع المدنية في المدينتين وبالتالي في العراق. في نفس الوقت يعتبر البعض وبينهم مفكرون وباحثون، ان تأصل البداوة في المدن، هي سبب ما أصبح يعرف بتراجع المدنية أو ترييف المدن، وهذه الافكار، هي محاولات لتفسير التحول الذي حصل في طابع المدن خلال نصف القرن المنصرم. ان هذا الطرح لا يخلو من تعميم قسري، فحتى في البادية وفي التنظيم القبلي، هناك مصالح متعارضة بين الناس، فهناك من يجد مكانته في السيادة على الاخرين، وهناك من يجد نفسه تابعاً خاضعاً أو مكرهاً، على الرغم من ان هذه تظهر بصورة محدودة وجنينية، وان ما ينتقل الى المدينة من بداوة أو قبلية، هو مقدار ما يجعل منها عصبوية تدور حول مصالح مادية بالذات.
إن البداوة متعارضة مع المدينة، ومن الصعب جداً التعايش بينهما ما لم يخضع أحد القطبين للآخر. أما فيما يخص العمارة فالأمر يختلف، فالعمارة ليست البادية، إنها الريف الرئيسي الذي انحدر منه الفلاحون المنزوعو الملكية الذين هاجروا واستوطنوأ المدن. إن ريف العمارة الذي كان ولا يزال، تسوده بطريركية لا تقل شراسة ومحافظة عن البادية، طبعت ثقافة المجتمع بطابعها الى حد بعيد. ولكن العمارة لم تنقل تقاليد الريف الغابرة فقط الى المدينة، ولم تنقل ما هو عشائري محافظ أو متشدد، بل نقلت معها الجمهور المستعد لتبني الحداثة والمستعد للتضحية ومقارعة السلطة، وقد بلغت تضحيات أهل هذه المدينة مديات غاية في الجرأة والاقدام، وكل هذا جرى عبر البروليتاريا الريفية التي انتقلت الى المدن الرئيسة. أما بروز وسيادة الاتجاهات والقيادات التي طبعت هذه الحركات بطابعها، سواء الحركات السياسية أم الشخصيات والتيارات السياسية والدينية فهو موضوع آخر، ويرتبط بتأثيرات سياسية مرتبطة بأوضاع تاريخية عالمية واقليمية، ولكن المهم في الامر هو ان البروليتاريا المنحدرة من الريف، تمتلك زخم المشاركة في النضال الاجتماعي وتشكل مرتكزا لتقدم هذا النضال. وما لم ننظر الى هذا الجانب من ظاهرة النزوح الى المدن، فان طرحنا سيقتصر على تصورات وانطباعات مغرضة يطرحها البعض.
تشكل في العمارة نمط زراعي اعتمد على عمل الفلاحين المنزوعي الملكية تماماً، وهي العملية التي جرت بتأثير القوى الامبريالية والامبراطورية العثمانية المتهالكة، وقيامها بفرض نوع من الاستملاك، أو الاحرى المصادرة لمشاعات العشيرة والتي أصبحت ملكية خاصة للشيوخ المدعومين من الأمبريالية. إن هذا الامر ادى الى تشكل نمط من شخصية الفلاح، الذي عاش تناقضاً حاداً ووضعاً يفرض عليه التعبير عن نفسه بصورة معقدة ومغتربة، تجلت في العديد من التقاليد والافكار.
ولا تنفرد العمارة في هذا التاريخ ولكن خصوصيتها كمنتج للمحاصيل الستراتيجية، وشكل الاقطاع المتبلور والمتركز أكثر من أي منطقة أخرى، هي الخصائص التي تستدعي التقصي والفهم.
ان الانتاج الزراعي الرئيسي في ما كان يعرف بـ لواء العمارة، هو زراعة الشلب أي الرز، وبدرجة أقل الحنطة والشعير، وهذه هي المحاصيل الستراتيجية التي اعتمدت عليها الصادرات عند انفتاح العراق على الاسواق العالمية في الثلث الاخير من القرن التاسع عشر. ان علاقة الفلاح بالارض تنتهي بعد الحصاد مباشرة، ولا يحق له ان يكون مغارساً، أو حتى ان يزرع شجرة لمنفعته الشخصية، كون الأرض التي يعمل عليها لا تعود ملكيتها له، بالرغم من انه ينتمي برابطة الدم للعشيرة التي تسمى الارض باسمها، والتي يتزعمها الشيخ المالك.
وهؤلاء الفلاحون المنزوعو الملكية، هم أسلاف البروليتاريا المهاجرة الى المدن الرئيسية، وعبر عملية الهجرة الواسعة، جرى انتقال مجموعة الأفكار والتقاليد الى المدن الرئيسية بغداد والبصرة، وقد فرضت طابعاً ثقافياً ملحوظاً، وان تأثيرها امتد على مستوى عموم العراق، وهذا ما يدعو الكثيرين الى ربط تراجع المدنية بنزوح الفلاحين اليها من الريف①،والمظاهر توافق وجهة النظر هذه، رغم ان الامر هو أبعد من هذا بكثير.
كانت الثقافة السائدة في المدن هي ثقافة اريستوقراطية قديمة اي غير شعبية، وبالتالي معزولة عن المجتمع، بل تجد استمرارها وخصوصيتها في الابتعاد عن الاوساط الشعبية والتعالي والترفع عنها وعن ثقافتها. أما الفئات الوسطى المدينية فان سيادة نمط الانتاج الحرفي في المدن، وسيادة تقاليد هذه الفئات وأخلاقها المحافظة والمغلقة، قد أثر كثيراً في رسم أو قولبة اتجاه ثقافة الفئات الوسطى وثقافة مجتمع المدينة السائدة. ان ثقافة الفئات الاجتماعية الافقر خاضعة لمعايير التقاليد السائدة.
كان سكان المدن منذ أواخر العهد العثماني وحتى فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، يتشكلون بصورة رئيسية من حرفيين ومتدربين واسطوات، بيروقراطية حكومية محدودة، عمال وكسبة، وعسكريين وشرطة، تجار واعمال حرة. مع غياب واضح للطبقة العاملة الصناعية الواسعة، ولطبقة الرأسماليين②.
وكانت ثقافة المدينة على العموم انتقالية مفككة، بين اريستقراطية استعلائية، تقاليد فئات وسطى، خليط من ثقافات متباينة. اما الفئات الكادحة والفقيرة، فلم تطور ثقافة او تقليد سائد داخل المدينة، ويكاد يقتصر دورها الثقافي على الافكار المعارضة وأصناف من الفن والادب. لم يكن بامكان هذا الشكل من التقاليد لا الصمود أمام ما يفرضه التطور الرأسمالي على المدن والطبقات الاجتماعية ولا أمام ثقافة العشيرة الكاسحة، والتي وصلت المدينة عبر أشباه البروليتاريا الريفية النازحة.
ان عزل سكان الارياف النازحين في مجمعات كبيرة خاصة بهم، ساهمت على المدى البعيد في عدم انسجامهم وذوبانهم في مجتمع المدينة المحدود اصلاً.
وكان الازدراء والاحتقار سلاح القسم المحافظ والمتسلط من أهل المدينة الذين رأوا في الجمهور القادم من الريف نزيلاً غريباً ومخالفاً لما هو سائد من قيم. وحيث أن ثقافة البروليتاريا النازحة شكلت تهديداً للروح المحافظة للطبقات والفئات التي مازالت تعتبر نفسها مراتب وليست طبقات، أي ان مواقعها غير قابلة للتبدل مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، فان التقاليد والثقافة الاريستقراطية الاستعلائية تجاه البروليتاريا النازحة من الريف، قد اتخذت مضموناً سياسياً غير معلن، هو عدم اعتبار البروليتاريا الجديدة سكان مدينة كاملي الحقوق والمكانة، وبالتالي الحيلولة دون اشتراكهم في الحياة السياسية، وقد جرى استخدام اسم خاص لهم هو " الشروكً" بالكاف المعطشة المنقلبة عن القاف، والتي تعني المنحدرين من الشرق، كجزء من التمييز والعزل.
وأصبحت مسألة البحث في اصولهم التاريخية ونسبتهم الى أقاليم ودول أخرى ثقافة لدى العديد من الاوساط، ليس من قبل القوميين فقط، بل من قبل كل من ينظر باستعلاء الى باقي الاعراق وخاصة سكان جنوب آسيا. وجرى نبش الماضي البعيد والاقوام المقيمة المستوطنة المهاجرة الى بلاد الرافدين القديمة منذ الاف السنين، والذين ربما هاجر بعضهم الى العراق قبل تواجد السكان الحاليين، في حين راح قسم من سكان الجنوب يواجهون تلك الثقافة بالبحث في الاصول الغابرة للاقوام الرافدينية القديمة الاصلية. وقد اتخذت النظرة تجاه البروليتاريا النازحة الى بغداد، في أحيان عديدة، منحى اعتبارهم عرق آخر لا يشترك مع الفئات المهيمنة في المدينة برابطة تاريخية. وهذا ما جرى تداوله علناً وبصورة رسمية في اعلام النظام السابق يعد انتفاضة 1991.
وعلى الرغم من ان بلاد الرافدين القديمة هي مقصد العديد من الهجرات، وان تنوع وتداخل الاعراق هو احدى المزايا التاريخية في العراق، الا ان النظرة البرجوازية الرثة تجاه البروليتاريا النازحة، قد اتخذت شكلا شوفينياً مشرب بنعرة مذهبية واستعلاء غاية في العدائية، وخاصة في العاصمة بغداد. وقد شكلت هذه الثقافة سمة غالبة على مدى عقود. وحتى البروليتاريا المدينية، لم تتعاطف مع البروليتاريا النازحة، فقد رأت فيها منافساً على فرص العمل، وتهديداً لمستوى الاجور③.
وأمام هذه السياسة، تطورت ثقافة ريف المدينة، أو المدينة المتحدرة من الريف، بفعل العزل الذي مارسته المدينة القديمة بوجه البروليتاريا النازحة، وبفعل غربة قيم المدينة التقليدية وغير المتطورة أصلاً، والمستمدة من الفئات شبه المغلقة المحافظة، والتي لم يقوض أسس وجودها التطور الصناعي الرأسمالي، عن جمهور واسع يتطلع للحياة بعد تغيير هويته من فلاح ريفي الى عامل في المدينة④.
تشكل كل هذه العناصر الاطار الذي جرى خلاله التعبير عن النزعات والقيم الاخلاقية والثقافية، التي وسمت مسار الحياة اليومية، ويبدو جلياً الشكل العنيف والحاد الذي استقبلت به الاريستقراطية والروح المحافظة في المدينة القديمة، البروليتارية النازحة.
ليست هناك أحزاب صريحة أو تيارات سياسية تمثل النزعات المناوئة للنازحين، كما يجري في بعض بلدان أوربا الغربية اليوم على يد اليمين المتطرف، أو الاحرى لم تتبلور هذه الميول في اتجاهات سياسية صريحة يمكن فهم مسارها أو تطورها، بحكم مستوى التطور السياسي والاجتماعي في العراق انذاك. وانما يمكن أن يجري فهم هذه النزعة في ملامح أو حوادث أو وسائل تعبير متقطعة هنا وهناك.
ولما لم يكن ثمة تيار معلن، أو تمييز تشريعي، أو ان تياراً سياسياً صريحاً لم يكن بالامكان وجوده، ولم يكن بالامكان التعبير الصريح الفكري عن المواجهة بين ما هو محافظ في العاصمة، وبين تقاليد النازحين الباحثين عن فرصة عمل بمستوى الكفاف أو دون. فان هذه النزعات تعلن عن نفسها من خلال السلوك والثقافة العامة، وغالباً ما تتخذ أشكالاً غامضة وغير واضحة أو صريحة. وهي التعبير الملغز والفج عن التمايز في الاخلاق والقيم والذي يضمن حدوداً أو فواصل بين الفئات الاجتماعية، ويخفي مصالح مادية وراء اختلاق خصوصيات وحواجز بين الفئات الاجتماعية ذات طبيعة أخلاقية . ويمكن عن طريق فهم الدينامية العامة التي تمارس فيها هذه الثقافة، تكوين صورة عن هذه النزعات والميول عبر فهم هذه النتف في اطارها العام وتكاملها كثقافة.
ان السلوك والتقاليد لا يمكن قياسها وتكوين وجهة نظر عنها على أساس معطيات رقمية أو كمية، بل يمكن الاستدلال عليها وتحليلها، ونحن هنا أمام مواجهة بين اتجاهات محافظة ذات نزعة استعلائية، مقابل ثقافة جموع تتطلع لتأمين عيشها في حواشي المدن، يعني ان عناصر التقابل والتضاد قائمة. هذه القطبية شكلت اطاراً عاماً لتباين ثقافة "المدني" مقابل المعيدي النازح. والتي لعبت فيما بعد دوراً في تشكل التيارات السياسية والحزبية والانتماءات.
ورغم ان هذه النظرة قد خفتت أثر تحولات سياسية واجتماعية عديدة وعنيفة، الا ان جانباً منها ظل بصورة كامنة أو مستترة في الاوساط المحافظة واليمينية المتشددة، والتي لم تكن تجاهر بنزعاتها الصريحة في ظل القانون والسياسة.
التقاليد والافكار الموصوفة هنا، تتغير مع تغير الانظمة السياسية والاحوال الاجتماعية، ولا داعي للحديث عنها كصفات، ومن ثم المساهمة في تكوين صورة صنمية عنها، بل الاكتفاء بشرحها والتعرف عليها في أطار كونها نتاج للحياة الاجتماعية للبشر. ان الاشكال التي يجري التعبير بها عن ثقافة وتقاليد مجتمع ما تتغير تبعاً للعديد من العوامل.
وقد وجدت البروليتاريا الريفية النازحة في الجمهورية سندها الاجتماعي والقانوني، واندفعت بكل قوة وراء الجمهورية، وللانخراط بأعداد كبيرة في صفوف الحزب الشيوعي الذي وقف مع حكومة عبد الكريم قاسم.
ومع صعود تيارات سياسية الى الساحة، ظهرت السهولة التي تحول لها المزاج العام، وفي مرحلة التعلق بالتيارات الجديدة الحاكمة ظهر التوجه نحو التسلط وتبني أنماط من السلوك والتعامل، تنطلق من نفس روحية التماهي مع المسيطر، وانكار "الأصالة" التي كانت تعد يوما مصدر التعبير عن الذات الفعلية التي تستوجب الانصياع لها. وهذا ما حصل مع وجود نظام البعث القوي والشديد والقمعي، حيث تجلى الخضوع والوصولية بجلافتها القديمة في أوساط واسعة، وبدت كأنها ولاء واسع ونهائي للسلطة.
ان زخماً جاهزاَ من الاستعداد للتقولب مع النظم والقوى الصاعدة، يكمن في عمق التقاليد والاخلاق التي رسخت غياب الذات الفعلية ④والتماهي مع ذات العشيرة، وهو ما يمنع الاحتكام لمنطق غير المنطق المستبطن، ويمنع أكثر ما يمنع مواجهة الداخل أو الذات الفعلية بالحقيقة. وهذا الطمس الباطني للحقيقة يستمد من ضرورات أو متطلبات حجب الحقيقة التي يقتضيها التنظيم السائد، ويقتضيها طمس الحقيقة الباطنية للانسان المستلب كونه بلا ارادة وبلا ذات فعلية. ان هذا النمط من المسايرة والمعايشة، يفرض لا شعورياً انتهازية اجتماعية عفوية.
وما لم يساير الانسان الفرد ما هو سائد في اطار المؤسسة المهيمنة، أي القبيلة، ويخالفه علناً أو ضمناً، يصبح بدرجة ما منبوذاَ ومغرباَ، وخاصة حين يكون مستضعفاً وغير ذي وجاهة أو مكانة. وحيث ان الحياة في الريف لم تتح مجالاَ لوجود طبقة المنبوذين كما في الهند، فان هذا الباب مسدود ايضاَ، ومحل المنبوذ يحل الانسان المجلل بالازدراء والعزل، اي في موقع اجتماعي غاية في الدونية وقلة الاعتبار. في حين يتبوأ الكثير من الانتهازيين والوصوليين، مواقع مرموقة داخل القبائل والعشائر، حتى بدون مواهب أو قدرات فعلية. وأبطال كل هذه الصراعات والمواجهات هم الرجال، والنساء لسن طرفاً في ما يدور من صراع محوري في القبيلة، بل ان هذا الدور محرم عليهن. وهذه القسوة الشديدة لبنية العشيرة والريف هي دينامية صيانة النظام الاستبدادي العشائري وهي الحكم غير المعلن على معارضة روح القيم المسيطرة. ومن الممكن أن يكون هذا الخزين أو المستودع من التقاليد، سلاحاَ بيد أهل المصالح المادية، لضرب أو لمواجهة القيم والافكار المساواتية والتحررية في أي وقت.
وهنا السؤال، هل ان الولاءات وتشكيل الرأي العام هي من نتاج القناعات أم القسر والاجبار على المسايرة؟
واذا أيدنا الشق الثاني من السؤال وهو الارجح، فسيترتب على هذا ان الاراء والولاءات تحصل في الواقع بصورة معكوسة، أي انها ترجمة لقبول نوع من الاستعباد وعرضه على انه ولاء. وفي هذه الحالة لا يمكن تحري نفسية الجموع وتوجهاتهم من خلال المشاهدة العامة للحوادث وأعداد المناصرين لهذا التوجه أو ذاك، لان ذلك سيقودنا بالضرورة الى نتائج مغلوطة أو عكسية، بل يتوجب تحري السلوك السياسي للقوة المهمينة وفي كل مرحلة، للتعرف على ميكانزمات القمع الفكري ووسائله ومؤسساته وبناه. وهنا يبدو استلاب الأنسان المقهور واغترابه وقد انعكس وتبلور في قوة مناهضة له.
ان كل هذه الاشكال من التعبير عن الذات قد واجهها الانسان المهاجر من الريف، والذي أصبح غريباً في مدينة مخاصمة من جانب، ومطالباً بدوام خضوعه للمؤسسة القبلية التي تبحث عن تبريرها الاجتماعي خارج قاعدتها المادية الغابرة من جانب آخر. وهذه تناقضات جدية، ومصدر للضياع، وهي تفرض على الانسان المقهور ان يبحث عن انتمائه في الكشف عن ذاته الفعلية، والتي لن يجدها بدون ان يجد الوسائل السياسية والفكرية للتعبير عن مصيره.

______
1- " فقد كانت هناك عملية يمكن أن نطلق عليها اصطلاح " عمرنة" بغداد، والى مستوى أقل البصرة. وقد أثرت هذه العملية على جميع جوانب الحياة في العاصمة. ففي البداية نقلت العمارة جزءاً من مظاهر ريفها الى بغداد. ص ص 179. حنا بطاطو. الشيخ والفلاح في العراق 1917- 1958. ترجمة د. صادق عبد علي طريخم. ط1 بغداد 2018.
2- " وكذلك فقد كان أعضاء كل من الحرف المختلفة التي تورع عليها أصحاب المهن اليدوية، الذين كانوا منظمين بشكل ضعيف نسبياً ضمن تجمعات مهنية، أو "أصناف" يميلون ايضاً الى السكن معاً في شوارع مفردة لكل حرفة. وفي بعض المدن يبدو وكأن هذا كان في الأصل امتداداً لسكن عائلة واحدة أو تجمعات لقلة من العائلات. ص ص 37. حنا بطاطو. العراق. الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية. الكتاب الاول. ترجمة عفيف الرزاز. القاهرة 2011.
3- "والفقر المشترك لم يخلق أي شكل من أشكال المشاعر المشتركة بين سكان الصرائف وعمال المدينة". صص 184. حنا بطاطو. الشيخ والفلاح في العراق 1917- 1958. ترجمة د. صادق عبد علي طريخم. ط1 بغداد 2018. وفي موضع آخر من نفس الكتاب. ص 186 "ويتضح من ذلك ان العامل غير الماهر قد عانى في الحقيقة منذ 1939 من خسارة في دخله الحقيقي، بالرغم من الازدهار الذي حل على بغداد. ولا شك ان أحد الأسباب الرئيسة التي ساهمت بهذه الخسارة هو تدفق العمالة من الفلاحين الى المدينة".
4- " فقط سيادة البرجوازية الصناعية تستأصل جذور المجتمع الاقطاعي المادية وتمهد التربة التي يمكن عليها وحدها قيام الثورة البروليتارية". ص ص 44 كارل ماركس. النضال الطبقي في فرنسا. موسكو.
5- " لانه اذا كانت الذات ينبغي أن تكون حقاً مؤهلة لاختيار مهنتها وعملها، فانه في الشرق، على العكس من ذلك، لا يعترف بَعْدُ بالذاتية الداخلية على انها أمر مستقل. ص ص 108 ج.ف. هيجل. محاضرات في فلسفة التاريخ ( العالم الشرقي). ترجمة د. امام عبد الفتاح امام. ط1 بيروت. 1984.