صلابة الفكر و شفافية الروح : حسقيل قوجمان أيقونة الماركسية العراقية (1921- 2018)4-5


حسين علوان حسين
2019 / 8 / 13 - 23:30     

مُثُل خلقية شامخة تليق بالشيوعيين
من المعلوم أن التشبُّع بالفكر الماركسي يقتضي التشبّع بمُثل إنسانية سامية سمو رفع شعار تصدي الإنسان بكل شجاعة لتحرير كل البشر من جرائم وعقابيل الرأسمالية المتوحشة المدمّرة للأرض و ذلك من خلال اشتغال جدل تطابق الفكر مع الممارسة ، أو على الأقل تقاربهما الناجز . و من المعلوم أيضاً أن من ينخرط في النضال الحزبي الشيوعي في ظل أنظمة قمعية رهيبة حكمت العراق و ما جاوره من بلدان المنطقة طوال القرن العشرين و ما بعده إنما يضع روحه وحريته و مستقبله هو و أهليه على كف عفريت لا طمعاً بأدنى مكسب شخصي قط ، بل أيماناُ منه بشرف القضية التي من أجلها يناضل و بعدالتها مهما بلغت فداحة عقابيل هذا النضال على مصيره الشخصي و على مستقبل ذويه . و هذا يعني أن الشيوعي الحقيقي إنما ينذر نفسه أولاً و آخراً لإسعاد مجتمعه و الإنسان ، كل إنسان ، و بكل السبل المتاحة ـ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً . و الترجمة العملية لكل هذا هو الأخذ بمبدأ التمييز بين ما للمناضل و ما عليه ، مع الالتزام الجدي بكرم الأخلاق و الشجاعة الأدبية و الموقفية و ترقية روح التقدير و التفهم و الرعاية و المساعدة و التعاون و الإخلاص و التكاتف و الاحترام المتبادل إزاء كل الآخرين بلا أدنى تمييز ، و أولهم أقرب الناس إليه : أهله و رفاقه و أصدقائه ؛ لأن من لا يستطيع أن يكون مصدر سعادة و رضا أقرب الناس إليه لا يمكنه الاضطلاع بأهم واجب على كل شيوعي : إسعاد كل البشر بتجرد عن الأنانية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً . كما أن الشيوعي الحقيقي حريص على التفاني في تحقيق المصلحة الحقيقية لحزبه في كل حين ، و هو يمارس ضمن ذلك مبدأ النقد والنقد الذاتي البناء فيه على نحو خلاق و مثمر و متجرد عندما يبدأ بنفسه أولاً . لذا ، فإن الشيوعي الحقيقي لا يقبل لنفسه ، مثلاً ، أن يقف - في علاقاته الاجتماعية قبل علاقاته التنظيمية في الحزب - موقفاً جباناً أو انتهازياَ أو متزلفاً أو عنصرياً أو ذكورياً ؛ و لا متكبراً و لا غير مبال بحقوق الآخرين و لا ظالماً لهم و لا مدعياً و لا جاهلاً و لا سلبياً و لا معتدياً و لا أنانياً و لا متجاوزاً على خياراتهم الشخصية المحضة . الفقيد حسقيل قوجمان أدرك كل هذا و أكثر ، و طبّقه بالتزام أصولي على نفسه قبل توقعه من الآخرين ، فكسب بذلك احترام و ود و تقدير الجميع ، بضمنهم حتى من اختلفت عنه قناعاتهم الفكرية جملة و تفصيلاً ، أو من اختلفوا معه - مثلي - في هذه الجزئية أو تلك . لذا نجد أن ثباته الفكري المتين هذا جعله أرفع بمقامات على من تنكروا للفكر الماركسي بغية تسويغ الاصطفاف مع أضداده : الفكر الصهيوني العنصري أو الترسملي المتلون بالأصفر أو الأسود أو الرمادي و لا الدينجي – القومجي من أي نوع آخر . و الدليل على كل هذا منثور في تضاعيف كل نقاشات الفقيد و مقالاته المنشورة على موقع الحوار المتمدن الأغر الجديرة دوماً بالقراءة و إعادة القراءة لأنها تشتمل على جواهر من الالتماعات و الطروحات و التوضيحات و التي تسودها الجدية و احترام الآخر و الحرص على التفصيل في الإبانة المنطقية عن مسوغات قناعاته . هذه هي الأخلاق الشيوعية العتيدة التي تعلمناها من ماركس و إنجلز و لينين و غرامشي و فهد و غيرهم الكثير من ملايين المناضلين الشرفاء ، و التي هي على الضد تماماً من فظاظة ستالين و دمويته الغريبة المنتأية عن روح الشيوعية الإنسانية ألحقّة .
و ما دام الكلام قد عرَّج بي على ذكر إسم "ستالين" ، فلقد وجدت من الغريب أن الفقيد حسقيل قوجمان قد اعتبر يوم وفاة ستالين يشكل يوم انتقال الإتحاد السوفيتي من "دولة اشتراكية" إلى "دولة رأسمالية" بين عشية و ضحاها ! ففي العدد : 5047 من الحوار المتمدن المؤرخ في 17 كانون الثاني من عام 2016 ، يقول الفقيد :
"الحقيقة هي ان الاتحاد السوفييتي الاول انهار يوم وفاة ستالين وتحول الاتحاد السوفييتي من دولة اشتراكية الى دولة راسمالية يوم استيلاء الخروشوفيين على الحكم."
و هذا الرأي لا يمكن له أن يصمد أمام النقد الماركسي العلمي ، حيث ينبغي على قائله الإثبات الإحصائي القاطع لوجود طبقة من "الرأسماليين" في ذلك النظام الاشتراكي . فمن نافلة القول أن الرأسمالية لا يمكن أن تتواجد قط بدون وجود طبقة من الرأسماليين تتولى المراكمة المتعاظمة و المستمرة لرؤوس أموالها عن طريق استغلال العمل الأجير بشراء قوة العمل و بيع ثمراتها من بضائع و خدمات في أسواق مفتوحة خاضعة لقانون العرض و الطلب ، لكي يشتغل قانون القيمة الرأسمالي (و من ثم فائض القيمة) فيه . و كل هذه الشروط الأساسية لم تكن متاحة البتة في النظام الاقتصادي للاتحاد السوفيتي ، لا في زمن خروتشوف ، و لا في زمن ستالين . و من المعلوم أنه لا توجد الرأسمالية بدون رأسماليين ، و لا بدون وجود الملكية الخاصة لرأس المال الحر الحركة و المستحوذ على القوى المنتجة (قوة العمل و أدوات الإنتاج) و إتاحة أسواق التبادل الحر . صحيح أن الطبقة البيروقراطية الطفيلية قد تواجدت بهذه الشكل أو ذاك في كل تاريخ الإتحاد السوفيتي ، و لكنها بقيت طبقة متطفلة على المال العام و ليست طبقة تغني نفسها باضطراد على استغلال العمل المأجور كنتيجة مباشرة لاستحواذها على وسائل الإنتاج في ذلك النظام . كما لا يمكن ربط تحقق الاشتراكية و لا الرأسمالية في أي بلد بحياة أو ممات شخص واحد فيه ، مهما كانت أهمية مركزه . كل هذه بديهيات ماركسية نموذجية لا ينبغي أن تخفى على المتبحِّرين في هذا الفكر العلمي ، و إن لم يكن الفقيد حسقيل قوجمان هو الماركسي الوحيد الذي قال بما قال ، أو ممن قال بما ينحى منحاه إلى هذا الحد أو ذاك ، و لهذا السبب أو ذك .
وعي الحركة السياسية في العراق و استشراف آفاقها
في الحلقة السابقة من هذه السلسلة ، وردني تعليق كريم من الأستاذ الفاضل السيد نعيم ايليا المحترم ، ختمه بهذا السؤال :
"هل كان السيد حسقيل قوجمان مفكراً؟"
و قد أجبته في حينها بالقول : "نعم بالتأكيد ، و ٍسأورد بعض الأمثلة على ذلك فيما تبقى من الحلقات" .
و بوسع القارئ العزيز المهتم بهذا الكلام مراجعته على الرابط :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=625141
و من بين عشرات الإلتماعات الفكرية التي لا يمكن أن تصدر إلا من عقل مفكر واع بماجريات الأحداث حوله و آفاق تطورها سلباً و إيجاباً ، سأكتفي بالتدليل على صحة كلامي هذا بالإشارة إلى نص ثلاثة منها ساقها الفقيد حسقيل قوجمان فقط في مقالة واحدة هي تلك الموسومة :
"كلمة حول ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨" ، المنشورة على موقع الحوار المتمدن الأغر ، العدد: 5580 لتموز 17 ، 2017 ، في محور مواضيع و أبحاث سياسية ، و المتاحة على الرابط :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=524016
المثال الأول :
"اتذكر ان هادي هاشم الذي كان قائد المنظمة السجنية جاء لاستشارتي وانا اعلم ان دوره الرئيسي سيكون في النقابات فنصحته بقولي "لا تحتكروا العمل النقابي لان احتكار العمل النقابي يؤدي الى تدمير الحركة النقابية".
المثال الثاني :
"وجاء عزيز الحاج لاستشارتي وانا اعرف ان دوره سيكون سياسيا وكانت قضية الانضمام الى دولة مصر وسوريا فنصحته بان لا يوافق على الانضمام الى هذه الدولة لان الاوضاع القائمة تؤدي حتما الى تحويل الانضمام الى هذه الدولة الى استعمار. "النفط في جيب والبلح في جيب" كما اعلن جمال عبد الناصر بعد ذلك."
المثال الثالث :
"بعد اطلاق سراحي بيومين ارسلت اول رسالة الى اللجنة المركزية للحزب تضمن نصف الرسالة وضعي كيهودي وسلوك الحزب تجاهي بسبب ذلك حين كان علي ان اتوسل الى الله المسلم واعبده لكي يؤهلني ويسمح لي بان اكون شيوعيا. والنصف الاساسي من الرسالة هو ماذا ينبغي على الحزب ان يعمله بعد الثورة. فانا اعلم ان التغير الطبقي في الثورة يحتم اخذ التحول بنظر الاعتبار واتخاذ السياسة الحتمية نتيجة لنجاح الثورة. فكان اقتراحي في الرسالة ان يستغل الحزب الظروف العلنية التي نشات بعد الثورة لعقد مؤتمر يحقق مهمتين ضروريتين الاولى هي تحديد الشعار الاستراتيجي الذي ينبغي تحديده بعد الثورة لان الشعار الاستراتيجي للحزب الشيوعي الحقيقي يجب ان يتغير بعد ثورة ناجحة والثاني دراسة الاخطاء السابقة وكيفية اصلاحها ومحاسبة المسؤولين عنها. ولكن الحزب لم يهتم برسالة يهودي او حتى يكلف نفسه الاجابة على الرسالة. لذلك بقي الحزب حتى القضاء على الثورة بدون هدف استراتيجي. وقد اتيحت لي فرصة مناقشة ذلك مع حسين ابو العيس فلم يستطع انكار ذلك بل اجابني هل للحزب الان مجال لتحديد شعار استراتيجي. وحين سالته ماذا يفعل الحزب اذا حدث انقلاب عسكري بعثي فاجابني هل ترى ان الظروف الان تسمح بانقلاب بعثي؟ "
في كل واحد من الأمثلة أعلاه يتجلى عند الفقيد وضوح الرؤية في رسم خارطة الطريق المنبنية على التحليل الدقيق للواقع و وعي ضروراته و متطلبات تطوره الإيجابي مستقبلاً و التي أثبتت الأحداث التاريخية اللاحقة صحتها بنصها و فصها . و صحة هذه الإلتماعات الفكرية إنما تدلل على نفسها بنفسها ، و لا تحتاج للمزيد من الأقوال ، و هي لا يمكن أن تصدر إلا من عقل مفكر كبير ضابط للبراكسيس الماركسي الذي فات لمس كله أو بعضه – في خضم التلاطم الرهيب للأمواج الثورية – على غالبية القيادة السياسية لحشع في حينها . مرة أخرى تثبت الجماهير الثورية للتاريخ في شعارها العفوي ذاك "حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي" خلال مسرتها المليونية بعيد العمال عام 1959 ، أنها كانت أوعى من اللجنة المركزية لحشع بمراحل ، و أنها كانت هي الجديرة بالقيادة السياسية و ليس العكس مثلما يجب ، ففاتت جرّاء هذا الخطأ المأساوي على الشعب العراقي فرصة قد لا تتكرر أبداً . تذكروا أطروحات نيسان للينين العظيم : الآن ، أو أبداً ! كل الويلات و الحروب و المجاعات و حمامات الدم و التبديد الرهيب المتعاظم للثروات الوطنية التي أكتوى بسعيرها و عذاباتها الشعب العراقي منذ عام 1963 و سيبقى يكتوي بها لقرن كامل إنما تعود بالضبط إلى غياب الرؤية الثورية في التأهب الناجز للانقلاب البعثي ذاك الذي تنبأ به الفقيد حسقيل قوجمان عام 1959 و الذي اضطلعت به ثلّة مشخصة تماماً من المجرمين من شذّاذ الآفاق ضد إرادة ملايين العراقيين الشرفاء ، و منهم حسقيل قوجمان نفسه و رفاقه الميامين .
يتبع ، لطفاً .