جدلية المصور وإيصال الحقيقة والإنقاذ أو الإسعاف


عذري مازغ
2019 / 8 / 6 - 18:11     

تفترض عملية البناء أي (بناء) شروطا للسلامة للكائن البشري فيها أهمية قصوى، فلبناء مسجد، عمارة، مصنع، كراج، مستشفى، حقل زراعي، مسرح، قاعة سينما، إدارة، مدرسة، جامعة... أي شيء فيه البشر يعيش لحظة استقرار (stabilité) معينة وتختلف درجة الوقاية من الحوادث في هذه المراكز حسب خطورتها، فالعمل في المنجم ليس كالسكن في المنزل وليس كالعمل في المدرسة وهلم جرا، يعني تتفاوت نسبة تدبير شروط الوقاية من مؤسسة إلى أخرى تفترض استقرار الناس بها لوقت معين، لكن المطروح في المغرب هو: هل لدينا بالفعل ثقافة السلامة وحس بالوقاية تجاه حوادث قد تكون خطيرة جدا؟ والجواب طبعا لا نجزمه بالنفي بل هناك مؤسسات تقوم مثلا بالتحسيس بالمخاطر قبل البدأ في العمل، لكن مع ذلك هناك تهور في أخذ هذه الإرشادات ماخذ الجد، شخصيا عملت في أكثر من منجم في المغرب، وقبل العقد أخبرت بشروط السلامة للعمل في المنجم بشكل المرشد في هذه المناجم يؤكد أنه لا يمكن العمل إذا اختل أحد هذه الشروط، والحقيقة أن في كل هذه المناجم التي عملت بها ولا واحد منهم كان يحترم شروط السلامة ومستعد أن اذكر اسماء هذه المناجم وخروقات السلامة فيها، هذا جانب لا علاقة له بموضوعي بل فقط أردت أن اؤكد أنه بالفعل في بعض المؤسسات في المغرب هناك تحسيس بشروط السلامة حتى لا نتهم بالعدمية.. موضوع مقالي هنا هو على خلفية ما خلفه حادث احتراق الطفلة هيبة بإقليم الخميسات من جدل صاخب يضعنا نفكر في ضوابط الضمير كموطنين مغاربة حيث طرحت معادلة فجرتها الصورة أو تصوير عملية الإحتراق لتعكس خلفية تراجيدية تؤسس لموقف المتفرج وموقف المصور وعلاقة الامر بإيصال الحقيقة (لمن؟؟ لدولة ميتة أصلا مؤسساتها لا تعمل) وهذا أيضا شان آخر معقد.
في السنة الماضية عملت تكوينا في التدريب على عمل المانيفاكتورة خاص بتركيب أجزاء السيارات وفي الأسابيع الأولى من التحاقي بهذه المؤسسة تلقينا دروسا في التحسيس بالوقاية من الاحتراق كوننا نعمل على أجهزة كهربائية وأخرى هيدروليكية إضافة إلى وجود مطعم وتدفئة، وكانت الدروس هي حول مالذي يجب فعله حين يشب حريق؟ هناك امور يجب فعلها قبل أي شيء آخر منها:
• إبلاغ رجال المطافيء والإسعاف حتى وإن لم تكن هناك ضحية (هؤلاء لا يأتون بالسرعة كما يعتقد أغلب الناس (المكالمة فقط تحتاج إلى وقت لأن رجال الوقاية سيسألون عن طبيعة الحريق ليلائموا ادواتهم معه وطبعا سيسألون بشكل دقيق، كيف، أين، هل يوجد حطب، غازات .. إلخ) ثانيا هناك وقت للمسافة والاستعداد والتهيؤ...
• القيام بأمور احتياطية منها: الإنزواء في مكان آمن يفضل أن يكون قرب باب المؤسسة أو نافذة إغاثة، وإذا كان الباب أصلا مفتوحا يجب الإبتعاد عن المكان
• استعمال أدوات الإطفاء الاولية، في حالة المؤسسة التي كنت بها ليس الماء بل المواد الأخرى
• عدم فتح اي نافذة أو باب إلا إذا تأكدنا بأننا جميعا في أمان ولم يبقى إلا الهروب (يعني الهروب بعد أن استنفذنا مادة الاطفاء ولا زالت النيران مشتعلة)، لان فتح هذه المنافذ يقوي وجود الأوكسيجين ويساعد أكثر في الاشتعال وربما الانفجار
هذه مباديء أولية فقط لو نفذت في حالة الطفلة هيبة لربما أنقذت، لقد كان سبب النيران في المنزل هو صعق كهربائي، مع وجود غازات حسب كل البلاغات الصادرة، يعني أن مواد الاشتعال كانت غازات وأن الماء ليس الحل، ويعني أيضا أن والدة الطفلة كان عليها أن تأخذ طفلتها قبل فتح الباب للنجاة بجسدها واعتقد أنها وقعت في حالة الذعر(Panico) وهي أصلا ليس لديها معرفة تتيح لها التصرف، يعني هناك غياب التحسيس في المغرب بآليات الوقاية من الحرائق (وهنا يحق لنا أن نسائل التعليم المغربي: أي المعارف يوفرها لأجياله إن لم يكن في جزء منها التحسيس بالمخاطر والوقاية منها؟، مايسمونه تربية وطنية)
الآن نصل إلى مسرح التراجيديا:
بلاغات السلطة المحلية تتكلم على أن أول وحدة مؤسساتية وصلت إلى عين المكان هم الدرك الملكي (واعتقد انها مزايدة في الحضورالسريع إذ ما أهمية حضورهم إن لم يفعلوا أي شيء)، وحسب القليل من المعلومات التي لدي حول هذا الجهاز أعرف أن من مهامه ليس التفرج على طفلة تحترق بل من هامه أيضا عملية البحث والإنقاذ في العواصف وحتى الانقاذ في الحرائق، واعرف مسبقا أن هذا الجهاز سخر طائرات هيليكوبتر في عمليات إنقاذ سابقة لأجانب (سواح)، المصور الناقل للحقيقة لم يصور لنا مثلا وصول الدرك والمخازنية وماذا فعلوا؟ (هنا ليس مشكل التصوير بل مشكل نقد حالة غابت فيها المروءة الإنسانية: ناس تصور واخرى تهرع مذعورة دون رد فعل تجاه إنقاذ الطفلة) في الفيديوهات التي نشرت ولا شخص حاول عمل شيء ما سواء من الدرك أو المخازنية أو بطل "قومي" مغربي بالتعبير المصري ..
في فضاءات التواصل الإجتماعي تشكل صفين: صف يدافع عن المصور لأنه أبلغنا الحقيقة وصف يدافع عن غياب المروءة الإنسانية متهما في نفس الوقت رواد التصوير بغياب المبادرة في الإنقاذ بشكل انطرح سؤال فلسفي عميق: ما هو الأهم، إنقاذ طفلة تحترق أم تصويرها تحترق؟ لم أر في حياتي مثل هذه السادية التي تستمتع بموقف تراجيدي مقلق جدا وأعرف مسبقا أن حالات حصلت بالمغرب يمكن التدخل فيها وإنقاذ ضحية بينما الشعب العيان للحادثة فضل تصويرها (حادثة الاغتصاب الجماعي في حافلة نقل، حادثة التنكيل بمخنث في مدينة مكناس "جريمته" أنه يملك جسد أنثى وتهيأ في لباسه بثوب أنثى، حوادث كثيرة... )
قالها نيتشه سابقا: " الحقيقة امراة تتجمل.." المصور ماكياج يجمل الحقيقة ويضع الحقيقة في الصور التي هي صورة عدالة معدمة، يجب أن نتكلم عن المسؤوليات وننسى إنقاذ فتاة، المصور ينقل لنا غياب المسؤولية لكن الحقيقة التي لا يقولها المصورهي غياب مبادرة لإنقاذ فتاة، على أن المشكلة ليست إطلاقا في التصوير فالمصور ليس شخصا واحدا في حادثة الطفلة هيبة، المشكلة هي لا وجود لأية مبادرة إنقاذ بالمطلق سواء من مصور أو من مواطن مذعور.
بعض الخرفان الإنسانية أصيبت بالفعل بعقدة التخصص: الذي يجب أن ينقذ الطفلة هو المتخصص (هم الوقاية المدنية التي شرحنا سابقا أن هناك ظروف زمانية تبطيء عملية الإنقاذ) واستدل بقانون البحث البوليسي: ثنائية سين جيم.. والحقيقة أنه مثلا في حوادث النقل التي تمنع صراحة أن يتدخل شخص ليس ملم بالإسعاف في إخراج شخص من سيارة في حادثة سير، لكن القانون نفسه يوصي : "في حالة وجود خطر الإنفجار أو الإحتراق يجب إخراج الشخص من سيارته"، بمعنى في حالة الشهيدة الطفلة هيبة، ماهو الأفضل، محاولة إنقاذها أم تصويرها تحترق؟ والحقيقة المؤلمة هي أنه لم تكن هناك أية مبادرة للإنقاذ في كل فيديوهات المصورين وهي حقيقة مؤلمة، لو كانت وفشلت سيحسب لأصحابها أجر المحاولة وسيبقون في نظري أبطال حتى وإن فشلوا..
لتوضيح رؤيتي أكثر، لا أنتقد المصور فقط برغم أن حالة التصوير من الناحية النفسية تضع المصور خارج حالة الذعر، بمعنى ان الذي له هذه النفسية الخارقة في نقل تراجيديا حقيقية مؤهل أكثر من غيره في أخذ المبادرة، ليس نمطيا في حالة ذعر بل يصور بكل وعيه لينقل حادثة مستقلا عن إنسانيته لصالح مهنة تصويره كما لو أنه يصور أسدا يفترس ثورا (لا يجب أن يتدخل في قانون الطبيعة الوحشية).
موضوعيا، من وجهة نظري، ليست المسؤولية مسؤولية الوقاية المدنية فقط وأنا شرحت أن عملية الإنقاذ لا تحتاج انتظار متخصصين لأن هناك حياة طفلة في خطر، المسؤولية يتحملها الضمير الإنساني المغربي برمته..
ربما سيتحدث أحدهم ليتكلم عن الإمكانيات، وهنا سأقول بأن من الإمكانيات لدى الجيران، لدى المصورين، لدى الجمهور المذعور أكثر ما يمكن فعله لو حضرت إرادة الإنقاذ بدل إيصال الحقيقة "عقدة المصور" ..