سانتا باربارا وسانت ليغو


جاسم ألصفار
2019 / 8 / 4 - 00:39     

سانتا باربارا مدينة امريكية تذكرنا بمسلسل ممل ابتدأ عرض حلقاته من 30 تموز 1984 لغاية 15 كانون الثاني 1993 على قناة NBC ، ووصل عدد حلقات المسلسل الى 2137 تدور احداثه الفارغة في مضمونها والرديئة في حبكتها في مدينة سانتا باربارا، واصبح عنوان هذا المسلسل السينمائي، مثالا يضرب في العديد من نواحي النشاطات البشرية التي يستهان بها العقل ويستلب الوقت.
ولست هنا بصدد الكتابة عن فلم سينمائي بل عن قواعد الانتخابات العراقية التي اصبح الحديث عن متغيراتها موضوعا طاغيا على كل الاحداث السياسية في البلد، فسانت ليغو الاصلي وسانت ليغو المعدل (او المحرف) بنسبه المتصاعدة مع تصاعد الحاجة للاستحواذ على السلطة وسلب الجمل بما حمل من قبل اركان نظام المحاصصة الاثنية والطائفية والحزبية، ليس سوى الية تحدد مدى مشاركتنا في صناعة مستقبل العراق.
ومن هنا تأتي اهمية الموضوع، على خلاف ما ذكرته عن سانتا باربارا او عن احداث جرت في فترة حكم نظام المقبور صدام حسين، مثل ما اشيع وقتها عن المصارع العراقي عدنان القيسي الذي كان محط اهتمام صدام حسين او المسلسل الدموي لأبو طبر. أي أننا هنا مع قواعد سانت ليغو الانتخابية لسنا امام حلقة من مسلسل الهاء الجمهور عن مشاكلهم الحقيقية بل امام مخطط لابتلاع السلطة من قبل الاحزاب الكبيرة المتنفذة في جمهور عراقي يسوده الظلام وتتآكله الفرقة القومية والطائفية.
في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتحديدا منذ 1993 كانت العتبة الانتخابية للوصول الى مجلس الدوما الروسي (البرلمان الاتحادي) هي 5% وبقت كذلك حتى بداية استتباب السلطة للرئيس الروسي فلاديمير بوتن الذي لم يكن ميالا لوجود ممثلين عن الاحزاب الصغيرة في البرلمان الروسي، لذا تقرر رفع نسبة العتبة الانتخابية بعد 2002 الى 7% مما اثر على وجود ممثلي بعض الاحزاب الصغيرة في البرلمان.
والحقيقة هي ان ارتفاع نسبة العتبة الانتخابية لم تكن العامل الوحيد الذي اثر في التركيبة الحزبية للبرلمان الاتحادي الروسي، والمتمثل بصورة خاصة بغياب ممثلي اليمين الليبرالي الروسي. ولكن تغير الوضع السياسي العالمي وشعور روسيا بالخطر الناتج عن تمدد حلف الناتو نحو حدودها والعدوان الامريكي على يوغسلافيا، هذه وغيرها كانت وراء صعود المزاج الشعبي الوطني الذي لم تتجاوب معه التوجهات السياسية للاحزاب الليبرالية التي بقت كما هي أمينة لصداقتها مع الغرب وامريكا.
وعندما اصبح دميتري ميدفيدف، الاكثر ميلا للافكار الليبرالية من بوتن، رئيسا لروسيا، دعا الى اعادة التوازن للبرلمان الاتحادي الروسي بمساعدة الاحزاب الصغيرة الليبرالية على تخطي نسبة العتبة الانتخابية، فاقر البرلمان الروسي في فترة رئاسته تخفيض النسبة الى 5% مع بعض التسهيلات الاخرى لمن يقترب من هذه العتبة ولم يتجاوزها. ومع ذلك لم يتغير شيئ في التركيبة الحزبية للبرلمان الاتحادي الروسي حتى يومنا هذا. في البرلمان الروسي احزاب الوسط ويسار الوسط واليسار التقليدي ممثلا بالحزب الشيوعي الروسي.
نسبة العتبة الانتخابية او النسبة التي يجب تجاوزها من اجل الوصول الى البرلمان او مجالس المحافظات، على اهميتها، ليست هي السبب الوحيد وراء تخوف بعض الاحزاب الصغيرة من تحقيق "حلمها" في ايصال ممثليها الى هذه المؤسسات، بل هو التفاعل الحي مع الواقع في الخطاب السياسي وفي الممارسات او الفعاليات التي تستطيع ان تبادر الى تنفيذها تلك الاحزاب. ثم ان هنالك مسألة اكثر اهمية من الوصول الى تلك المؤسسات، وهي ما الذي سنتمكن من انجازه في تلك المؤسسات لكي تصبح قضيتنا هي الاعلى.
كان لنا ممثلون في مجالس المحافظات وفي البرلمان وحتى ان ممثلينا كانوا في ادارة وزارات ذات اهمية كالعلوم والتكنولوجيا والثقافة وحتى الزراعة وغيرها، ويبقى السؤال ما الذي فعلناه حينها لتوسيع قاعدة احزابنا وخلق ظروف وممهدات التغيير. حسبنا اننا لم نسرق وسيقيم الله عز وجل سيرتنا تلك في عالم غير عالمنا، أما ما انجزناه في مجال تطوير العلوم والتكنولوجيا وفي مجال الثقافة والزراعة وغيرها فهذا يحتاج الى امثلة ملموسة.
اعترف بأن نضافة اليد مسألة مهمة في نشاطنا السياسي. ونحن لا نملك الحق بأن نتركها في مجتمع كمجتمعنا لرجال الدين الذين تركوا الاهتمام بالانسان الذي يمثل اصلاح حاله هدف اساس من اهداف الله، وهو نفس الهدف الذي نسعى نحن اليه مع فارق يميزنا عن اخوتنا في التيارات الاسلامية، هو اننا لا نسعى لهدفنا من اجل متعة في حياة اخرى بل من اجل ان نقلل من عذابات الناس في هذه الدنيا التي انشأها رحمن رحيم.
ان كانت العتبة الانتخابية قضية مهمة بالنسبة لنا اليوم فاهميتها يجب ان تنحصر في دعم الاحزاب الصغيرة الاخرى للدخول الى مجالس المحافظات من اجل الحفاظ على تنوع الرأي واتساع القاعدة التمثيلية للارادة الشعبية في المحافظات، أما اذا تحولت هذه القضية النضالية الى أمل يكاد يكون الوحيد من اجل صعود ممثل او اثنين للاحزاب الطليعية التي تعلق عليها كل الامال في التغيير نحو بناء الدولة المدنية الحضارية، فالامر يختلف تماما.
لم تعد للطليعة الواعية في الشارع العراقي قدرة اكبر لتحمل المماطلة في مساهمة الاحزاب المدنية الرائدة في التغيير، والتغيير كما علمتنا التجارب السابقة لن يحصل ولا يمكن ان يحصل بمساهمة رمزية في مؤسسات الدولة القائمة على قواعد المحاصصة الاثنية والطائفية. فاما ان نساهم في مؤسسات الدولة القائمة بهدف اصلاحها وتغيير اسس الفساد التي صاغتها او ان نتحلى بالشجاعة الكافية من اجل التصدي لها وفق برامج نضال وخطاب سياسي اخر يتنفس برئة الشارع وينضج احلامه واماله.
دعونا نفكر ولو متأخرين بالاهداف الشعبية للتغيير التي يتحدث عنها بسطاء الناس ولنقل نحن كلمتنا فيها كمثقفين سياسيين. الشارع يطالب اليوم بنظام حكم رئاسي بديلا عن نظام الحكم البرلماني القائم، وقد يفسر مطلبه هذا بانه ليس سوى ردة فعل على فشل النظام البرلماني القائم، ولكنه من جهة اخرى مطلب واقعي وملح في بلد تمزقه الخلافات الاثنية والطائفية.
فالرئيس المنتخب من قبل كل اطياف الشعب العراقي وفق برنامج انتخابي محدد، وبصلاحيات تنفيذية كافية ومقننة يتحمل المسؤولية كاملة عن كل ايجابيات وسلبيات حكومته في تحقيق برنامجه الانتخابي الذي منحه الشعب ثقته على اساسه، هو البديل الوحيد اليوم من اجل توثيق وحدة الشعب والوطن. كما ان هذه الصيغة هي المعتمدة اليوم في العديد من دول العالم المتحضر مثل امريكا وروسيا وفرنسا وغيرها من الدول الاوربية سواء في انتخاب رئيس الدولة او الرئيس التنفيذي للمحافظات.
هذا لا يعني بالتأكيد رفضا للنظام البرلماني، من حيث المبدأ، ولكن واقع الحال في العراق بتركيبته الاثنية والطائفية والعشائرية فرضت نظام للمحاصصة يخلط بين المهام التشريعية والرقابية وبين المهام التنفيذية للحكومة المشكلة وفق ذلك النظام. وبناء على ذلك تكوٌن مزاج شعبي يطالب بحل مجالس المحافظات، فهل من جدوى لمراقبة عضو مجلس المحافظة لصنيعته في الادارة المحلية. على ان المشكلة ليست في حل هذه المؤسسة او تلك بل بالفصل في سياقات التشكيل وطبيعة المهام بين تلك المؤسسات يسبقها تصحيح قواعد تشكل كل منها، وهي لن تصحح ما لم يفصل بين انتخاب ممثلي مجالس المحافظات من جهة والمسؤول التنفيذي عن المحافظة من جهة اخرى عبر الاقتراع العام.
ولابد لنا ونحن نراقب ما يكتب على صفحات التواصل الاجتماعي وما يتردد على السنة الكثيرين، التوقف عند مزاج شعبي له ثقل في الشارع العراقي وخاصة بين المثقفين الذين يشكلون الطليعة الحقيقية للطبقات الاجتماعية، كونهم الجزء الواعي والفاعل في هذه الطبقات. وهو الرأي القائل بمقاطعة الانتخابات، فما معنى المشاركة في انتخابات لا جدوى منها مسبقا ما دام القائمون على ادارتها هم صنيعة نفس نظام المحاصصة ويمثلون حيتان الفساد الحزبي.
ورغم ان هذا الموقف، أي المقاطعة، سوف لن يفضي الا الى نتيجة واحدة وهي السيطرة المريحة على السلطة بمؤسستيها التشريعية-الرقابية والتنفيذية في المحافظات الا انها في حالة تحقيق نسبة عالية للعزوف عن المشاركة تكون قد كشفت عن مستوى الاحتجاج الشعبي على النظام القائم واسلوبه في ادارة الانتخابات. وكأنهم بذلك يقرون للنظام عجزه عن تزوير الانتخابات والتحكم في عد الاصوات. وحتى لو افترضنا ان النظام القائم لبس اجنحة الملائكة ولم يزور الانتخابات فان نسبة المشاركة في الانتخابات سوف لن تغير من شرعيتها شيئ.
وهذا بالمناسبة متبع في معظم دول العالم، وحتى في الدول الديمقراطية العريقة لا اهمية لنسبة المشاركة في الانتخابات. عدا ان هنالك بعض الدول التي كانت تعتمد نسبة مشاركة لا تقل عن 25% لنجاح الانتخابات البرلمانية ونسبة 50% لنجاح انتخابات رئاسة الدولة و20% لانتخابات المحافظات، ثم عادت والغت هذه النسب بسبب عزوف معظم الناخبين عن المشاركة في الانتخابات.
يقابل هذا الموقف، موقف اخر يرى ان البديل الامثل في مثل هذه الظروف التي اصبح فيها عسيرا على القوى المدنية ان تدخل الانتخابات منفردة، هو الدعوة الى تشكيل جبهة عريضة للقوى المدنية في كل محافظات العراق تتنوع في تكوينتها الحزبية بحسب تنوع القوى المدنية في تلك المحافظات. ومع اني قد اوضحت موقفي من مسعى البعض لزج ممثل او اثنين في مجالس المحافظات، وعدم جدواه كأداة للتغيير المنشود، فانه لابد هنا من الاضافة الى ان في المحافظات هناك تشكيلات "تنظيمية" تنتسب الى المدنية الا ان خطابها السياسي مشبوه وضار علاوة على عدم انضباط ممثليها وتدني شعبية بعضها مما قد يضر باي تحالف معها، وكما يقول المثل " لا تربط الجرباء حول صحيحة خوفي على تلك الصحيحة تجرب".
لا يتعين علينا ان ننتظر المعجزات ولا ان نعول عليها. يجب ان نعيد حساباتنا ونبدأ نحن انفسنا بالتغيير اذا اردنا لواقعنا ان يتغير.