البلاشفة في القوات المسلحة - البلشفية طريق الثورة


آلان وودز
2019 / 7 / 29 - 09:42     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الخامس: سنوات الحرب

البلاشفة في القوات المسلحة


ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

كانت إمكانيات القيام بعمل ثوري داخل صفوف القوات المسلحة محدودة أكثر من أي مكان آخر بطبيعة الحال، وذلك على الرغم من أن الوضع بدأ يتغير بعد 1915. لم تكن سياسة الحزب تقوم أبدا على رفض الانضمام إلى الجيش أو القتال، بل كان الموقف هو الذهاب مع بقية أبناء طبقة العمال والفلاحين والقيام بالعمل الثوري بينهم في الثكنات والخنادق. إلا أن التكوين الطبقي للجيش الروسي، الذي كان يتشكل في أغلبيته الساحقة من أبناء الفلاحين، خلق في البداية ظروفا غير مواتية للنشاط الثوري. قام البلاشفة بعملهم داخل القوات المسلحة، خاصة بين البحارة، حيث أن سلاح البحرية كان مشكلا من أبناء الطبقة العاملة. وكانت المراحل الأخيرة من الحرب قد شهدت تصاعد نوع من التجذر والغليان في الأسطول الحربي. تسبب سوء التغذية والظروف السيئة والعمل القاسي في اندلاع تمرد بين البحارة في أكتوبر 1915 تم إخماده بوحشية. تشبه السفن الحربية مصانع عائمة وكانت طواقمها تضم عددا لا بأس به من العمال المهرة - المهندسين والوقادة* والكهربائيين وما إلى ذلك- الذين تم استقطابهم من المصانع نفسها. كان العديد من هؤلاء البحارة قد شاركوا في الحركات الثورية قبل الحرب وكانوا من البلاشفة، أو على الأقل كانوا قد تأثروا بالدعاية البلشفية. ففي أسطول بحر البلطيق، كانت لكل سفينة كبيرة مجموعتها من الاشتراكيين الديمقراطيين. لم يكن من قبيل المصادفة أن البحارة لعبوا دورا رئيسيا في ثورة عام 1917، أو في أن الغالبية العظمى منهم دعموا البلاشفة.



واجهة كتاب راسكولنيكوف حول مساهمته في الثورة والحرب الأهلية. / صورة: marxists.org

من بين الناشطين في أسطول البلطيق كان هناك ف. ف. إ. إيان - المعروف في التاريخ باسم راسكولنيكوف- والذي لعب دورا مهما في الثورة. سيرة حياته السياسية نموذجية إلى حد كبير. فقد ولد لعائلة فقيرة، اكتشف أفكار ماركس وإنجلز في سن المراهقة، وانضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي في عام 1910 أثناء دراسته في معهد سان بيترسبورغ للعلوم التطبيقية، حيث كان فياتشيسلاف مولوتوف أحد رفاقه في المنظمة الطلابية البلشفية. عندما صدرت برافدا في عام 1912، كان راسكولنيكوف أحد أعضاء هيئة التحرير، حيث عمل سكرتيرا لها. بعد ذلك ألقي القبض عليه وحُكم عليه بالنفي لثلاث سنوات في ولاية أرخانجيلسك الشمالية. وبفضل طلب الاستعطاف الذي قدمته والدته الأرملة، تم تخفيض الحكم عليه إلى النفي من روسيا. عندها حاول السفر إلى باريس حيث كان يأمل في مواصلة عمله الثوري مع البلاشفة، لكنه اعتقل في ألمانيا بتهمة الجاسوسية وأعيد إلى روسيا. وفي عام 1913 تم العفو عنه وعاد إلى بيترسبورغ حيث واصل العمل في برافدا حتى اندلاع الحرب، فانضم إلى البحرية كتلميذ عسكري. كانت تلك هي الصفة التي وجد راسكولنيكوف نفسه عليها عندما اندلعت ثورة فبراير. وقد كان هناك العديد من أمثاله في الأسطول القيصري.

من المستحيل أن نعرف كم كان بالضبط عدد البلاشفة الذين كانوا ناشطين في صفوف الجيش، وذلك لأسباب واضحة. كان ذلك العمل سريا للغاية. يزعم المؤرخون الخروتشوفيون (في كتاب Istoriya) أنه كانت هناك أكثر من 80 خلية حزبية في أسطول البلطيق، و30 أو أكثر على الجبهة الغربية. هذه مبالغة بالتأكيد. لكن وجود بلاشفة ناشطين داخل صفوف الجيش، وخاصة في الأسطول، واقع لا يمكن إنكاره. لا يمكن الاستخفاف بأهمية الدور الذي لعبه هؤلاء المحرضون الجنود البحارة البلاشفة، لكن الأرقام الواردة في Istoriya ، والتي وصفت بأنها "تقريبية"، بدون تقديم أي مصدر لها، يجب أن تعامل بحذر. كان الوضع الفعلي أكثر تعقيدا من هذا بلا شك. يوضح ألكساندر شليابنيكوف ، الذي لعب دورا قياديا في الحزب البلشفي في روسيا خلال الحرب، أنه بينما كان هناك بالفعل العديد من البلاشفة ومنظمات الحزب داخل الأسطول، فإن صلاتهم بقيادة الحزب كانت، في أحسن الأحوال، ضعيفة. في ظل ظروف الحرب القاسية عملت لجان البحارة الحزبية كهيئات مستقلة، على الرغم من أن أنشطتها أثارت قلق السلطات التي بذلت أقصى المجهودات للقضاء عليها من خلال الاعتقالات والقمع.

إن القوة المتزايدة للتيار الثوري بين البحارة، وخاصة في أسطول بحر البلطيق، ظهرت بشكل غير مباشر من خلال موجة اعتقالات البحارة التي وقعت في بيترسبورغ وكرونشتاد وهلسنكي، بالتزامن مع موجة الإضرابات التي شهدتها بيترسبورغ أوائل عام 1916. عُقدت محاكمة كبرى لـ "المنظمة العسكرية للجنة بيترسبورغ للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي". ويصف ملف الاتهام الضخم الذي أعدته الأوخرانا، الذي يضم 50 صفحة، أعمال الاشتراكيين الديمقراطيين في البحرية بتفصيل كبير. تقول تقارير الشرطة السرية، التي كان عملاؤها يراقبون عن كثب جميع الأنشطة الثورية داخل القوات المسلحة، ما يلي:

«منذ خريف عام 1915، بدأت تقارير تصل إلى مقر الدرك بكرونشتاد بأن هناك زيادة ملحوظة في نشاط المنظمات الثورية، ذات الميول الاشتراكية الديمقراطية، بين أطقم سفن أسطول البلطيق. يسعى هؤلاء إلى وضع أكبر عدد ممكن من مؤيديهم داخل الأسطول لكي يقوموا بتدريب أطقم السفن على القيام بمجموعة من التحركات حول عدد من المطالب عندما تنتهي الحرب. إن النشاط المذكور أعلاه، ورغم أنه لم ينجح في تنظيم دعاية منهجية، قد كان له، كما أثبتت الأحداث، تأثير قوي على مزاج الطاقم المتحمس، وهذا ما أسفر في النهاية عن اندلاع اضطرابات كبيرة على سفينة هانغوت الحربية، في 19 أكتوبر 1915 ، والتي مثل المشاركون فيها أمام محكمة البحرية العسكرية، في 17 دجنبر من نفس العام، وحكم على 26 بحارا منهم بالعقوبات الملائمة.

كما اندلعت اضطرابات مماثلة على متن الطراد ريوريك.

وقد أكد المشاركون وجود نشاط الدعاية وكذلك أكدته الاضطرابات التي اندلعت على السفن الأخرى، والتي نشأت عن استياء الطاقم من سوء التغذية ومن حمل الضباط لأسماء ألمانية.

كما تلقت إدارة الأمن في بيترسبورغ تقارير مماثلة لهذه، حول ظهور منظمة عسكرية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي بين أطقم سفن الأسطول البلطيقي وبين العاملين على الشاطئ.

تقول هذه التقارير إنه قد تم تشكيل حلقات اشتراكية ديمقراطية على متن كل سفينة حربية، وعين أفرادها البارزون في لجنة قيادة عامة. توجه هذه الأخيرة، من خلال ترتيبها للتجمعات على الشاطئ في محلات بيع الشاي والمطاعم، طاقاتها بشكل رئيسي نحو شرح الأحداث الجارية للبحارة بشكل يؤدي إلى خلق مناخ من الاستياء بينهم».

وبتلك الفكاهة غير الواعية التي تميز تصريحات الشرطة حول المسائل السياسية، يستمر التقرير بلهجته البيروقراطية قائلا: «يبدو أن هذا النهج قد نجح في كسب بعض التأثير على البحارة، مما خلق بينهم مزاجا من الاضطراب الشديد بدون سبب معروف». يالحكمة هؤلاء البيروقراطيين! لقد واجه البحارة في أسطول بحر البلطيق ظروفا شنيعة، وطعاما سيئا، وضباطا مستبدين، وحربا دموية ورجعية، ومع ذلك لم يكن في مقدور رؤوس البوليس الصلبة أن تفهم السبب وراء "مزاجهم المضطرب" سوى "النشاط الخبيث" للمحرِّضين. نفس "السبب الخبيث" يكمن وراء كل إضراب وكل مظهر من مظاهر السخط الاجتماعي، لأنه من المفترض أن يكون العمال سعداء بالعمل لساعات طويلة في ظروف سيئة للحصول على أجور منخفضة، في سبيل الله وفي سبيل النظام الرأسمالي!

وبعد أن يقوم التقرير بهذا الاكتشاف العميق للقانون الذي يفسر كل شيء، من وجهة نظر البوليس، ينتقل إلى مناقضة نفسه قائلا:

«على الرغم من أن الحلقات على السفن قد نشأت بشكل مستقل وبدون تأثير من المجموعة التي تعمل في بيترسبورغ، والتي تسمي نفسها لجنة بيترسبورغ للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، فإن اللجنة القيادية في المنظمة البحرية قد سعت منذ تأسيسها إلى إيجاد فرص لتوحيد جهودها مع "لجنة بتروغراد"، وهو ما تحقق في الواقع من خلال عمل أحد القادة النشطين في الحركة العمالية، وهو الفلاح إيفان فيدوروفيتش أورلوف، الذي كان ممثلا لمنطقة فيبورغ في لجنة بتروغراد».

يصف هذا التقرير بدقة، إلى حد ما، وإن عن غير قصد، العلاقة الحقيقية التي كانت بين الحزب البلشفي وبين الحركة الثورية المتنامية للثورة. كان سبب "المزاج المضطرب للغاية" بين البحارة هو الظروف الموضوعية التي لم يخلقها الثوار، بل خلقها النظام القيصري والحرب الإمبريالية، والتي كانت بدورها نتاج التناقضات العميقة للرأسمالية العالمية. وفي مرحلة معينة وجد ذلك الشعور المتزايد من السخط السائد بين الجماهير تعبيرا واعيا عنه بفضل أقلية كانت قد راكمت بعض الخبرة السياسية قبل الحرب، والتي استطاعت أن تحول التطلعات اللاواعية للأغلبية إلى شعارات. وبشكل حتمي يسعى ذلك المزاج إلى التعبير عن نفسه بشكل منظم، وهو ما وجده في النهاية في المنظمات السرية التي أنشأها البحارة الثوريون، الذين حاولوا، بدورهم، إقامة اتصالات مع الحزب، الذي كان هو المرجع الوحيد لديهم. عند هذه النقطة فقط تحصل الأوخرانا على المعلومات التي تقنعهم بوجود مؤامرة كبرى وشريرة لبعض المنظمات الثورية التي تتمكن، بطريقة سحرية، من أن تحول بحارة مخلصين يخافون الله إلى أشخاص متمردين "دون سبب معروف".

وجد صعود الحركة العمالية في سان بيترسبورغ صدى له في أسطول بحر البلطيق. بحلول خريف 1915، ظهر أن هناك منظمة اشتراكية ديمقراطية قوية إلى حد ما، مع لجان تشمل جميع السفن الحربية الكبرى وشركات الشاطئ في كرونشتاد وهلسنغفورز وبيترسبورغ، وغيرها من النقاط الأخرى على ساحل بحر البلطيق، والتي كانت كلها مرتبطة بـ "لجنة منظمة كرونشتاد العسكرية". في 19 أكتوبر، انفجر الغضب من الطعام السيء والنظام القاسي على شكل احتجاج على متن السفينة الحربية هانغوت. اعتَقل البحارة بعض الضباط واتصلوا بالسفن الأخرى طلبا للمساعدة. هذا النوع من الغضب غير المنظم هو بالضبط ما كان البلاشفة يحاولون منع وقوعه. سرعان ما عزلت السلطات تلك الحركة وأخمدتها بعمليات قمع انتقامية وحشية. تمت محاكمة 26 شخصا وتم حل المجموعة بأكملها ونقلها إلى الخدمة في الساحل. في المحاكمة، التي جرت في دجنبر 1915 ، تم الحكم على رجلين بالإعدام وعلى 14 آخرين بالأشغال الشاقة. لكن تلك الأحكام لم تستطع إطفاء شعلة التمرد، حيث اندلعت احتجاجات أخرى، مما أثار قلقا متزايدا عند السلطات. نجد في تقرير للشرطة ما يلي:

«توجد على متن كل سفينة خلايا اشتراكية ديمقراطية تنتخب لجانها الخاصة، ولكل لجنة ممثلها في اللجنة القيادية. لقد نشأت الخلايا المذكورة أعلاه بشكل مستقل تماما، نظرا لوجود تربة مواتية، بسبب ارتفاع درجة التأهيل بين المجندين ووجود أفراد منهم كانوا، قبل الدخول إلى الخدمة العسكرية، قد صاروا ماهرين في العمل السري».

يوضح التقرير كيف كان الاشتراكيون الديمقراطيون يقومون بالتحريض والدعاية في المقاصف والمقاهي، حيث يوضحون الأحداث الجارية للبحارة ويستخلصون استنتاجات ثورية، ويضيف:

«إن القادة الأيديولوجيين للعمل السري داخل السفن الحربية حاولوا بكل الطرق كبح البحارة عن الاضطرابات المتقطعة، من أجل خلق موقف يمكن فيه القيام بتحرك عام يأخذ في الاعتبار ضرورة وجود حركة نشطة من جانب الطبقة العاملة، قادر على إحداث تأثير حاسم يؤدي إلى تغيير النظام السياسي...».[2]

على الرغم من عنصر المبالغة الذي يميز هذا التقرير، فإن هذه الشهادة، من جانب عملاء النظام المخلصين، تتضمن بعض الصدق في بعض الجوانب على الأقل.

لكن على الرغم من استحالة التحديد الدقيق لطبيعة ومدى النشاط الثوري الذي كان في صفوف القوات المسلحة في وقت الحرب، فإنه لا يمكن الشك في أنه مع مرور الوقت وتدهور الظروف، بدأ مزاج الجنود في التغير وأصبح أكثر انفتاحا على الأفكار الثورية، وبدأوا يتطلعون نحو الاشتراكيين الديمقراطيين، وخاصة الجناح الأكثر جذرية، أي البلاشفة. وقد قام تروتسكي بوصف هذه السيرورة بشكل جيد في تاريخه، حيث قال:

«إن العناصر الثورية، التي كانت مبعثرة في البداية، غرقت في الجيش دون أي أثر تقريبا، لكنها مع نمو الاستياء العام تمكنت من الارتفاع إلى السطح. لقد أدى إرسال العمال المضربين إلى الجبهة كعقوبة لهم، إلى زيادة عدد المحرضين وأعطتهم الهزيمة جمهورا متجاوبا. جاء في تقرير لعميل سري: "إن الجيش، وخاصة في الجبهة، مليء بالعناصر التي يمكن لبعضها أن يصبح قوة فاعلة في التمرد، وبعضها الآخر قد يرفض المشاركة في حملات عقابية". وأعلنت إدارة مقاطعة بتروغراد، في أكتوبر 1916 ، استنادا إلى تقرير قدمه ممثل اتحاد الأرض، أن "الحالة المزاجية داخل الجيش مقلقة، والعلاقات بين الضباط والجنود متوترة للغاية، بل وتحدث حتى المواجهات الدموية. كان الفارون من الجبهة بالآلاف في كل مكان. وكل من يقترب من الجيش يحمل انطباعا كاملا وأكيدا عن التفكك الأخلاقي التام للقوات"».[3]

هوامش:

1 : A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, pp. 138-39 and pp. 139-40 (التشديد من عندي آ و)

2 : A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, p. 191.

3 : L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p. 44.

*: الوقاد هو الشخص المكلف بالفرن على متن الباخرة البخارية -المعرب-.