14 تموز الثورة التي لم تستمر


فالح الحمراني
2019 / 7 / 27 - 16:00     

لم تكن ثورة 14 تموز( يوليو) 1958 حدثا عابرا في تاريخ العراق الحديث. ومازالت افرازاتها قائمة لحد اليوم، وكل ما شهده العراق خلال العقود الخمسة الأخيرة وما يحدث اليوم هو بشكل ما امتداد للحدث التاريخي الكبير. والكتابة عن تموز اليوم ليست من باب الكتابة ال
لم تكن ثورة 14 تموز( يوليو) 1958 حدثا عابرا في تاريخ العراق الحديث. ومازالت افرازاتها قائمة لحد اليوم، وكل ما شهده العراق خلال العقود الخمسة الأخيرة وما يحدث اليوم هو بشكل ما امتداد للحدث التاريخي الكبير. والكتابة عن تموز اليوم ليست من باب الكتابة الموسمية للاحتفاء بحدث يرتبط فيه قطاع واسع من العراقيين بمشاعر رومانسية، مشحونة بذكرى ايام ناصعة. وهذا حقا ما يتسم به أي حدث تاريخي كبير، الكتابة عن 14 تموز مسألة ملحة كونها تساعدنا على ادراك كنه الحاضر وآليات تحركه. فالتاريخ يعيد نفسه في العراق، وبصورة مأساوية.
لقد تمخضت ثورة 14 تموز عن صراع داخلي طويل الأجل بين القوى التي كانت تنزع الى الاستقلال وبين نظام الحكم الملكي الذي كان ينفذ سياسات استعمارية تناقضت ومصالح البلد والمصالح القومية والإقليمية وحركة التحرر الوطني التي تصاعدت بوتائر عالية في تلك المرحلة. ومن وجهة نظر اليوم فان القاسم المشترك الوحيد، الذي كانت يربط القوى السياسية الفاعلة على الساحة العراقية، والمحركة للثورة انحصر فقط في إسقاط النظام الملكي، لان الطرق سرعان ما افترقت بها، ربما في الأيام من الثورة. حينها ارتسم اصطفاف جديد للقوى العراقية، التي كانت قاعدة أساسية للثورة، ونشب بينها صراع اسفر عن إراقة دماء غزيرة في العراق، مازال قائما لحد اليوم. وهذا ما يستدعي التمهل والتعمق في فرز السبب الحقيقي للفاجعة العراقية، واستمرارية دوران طاحونة الدم. ودون شك فان السبب الرئيسي يكمن في مصالح القوى المتطاحنة، في سعيها للسيطرة على السلطة والنفوذ ومصادر الثورة والتحكم بمقدرات البلد في رؤيتها لتطور العراق لاحقا. وقد جسمت الصراعات التي دارت في السنوات الاولى لثورة 14 تموز ذلك الصراع وأفرزت بصورة واضحة القوى المنخرطة في الصراع وطبيعتها.
ان النجاح الباهر الذي واكب ثورة 14 تموز والدعم الجماهيري منقطع النظير لها، كان مشروطا بطبيعتها. فالشعب العراقي كان يتطلع الى ان تؤسس الثورة لبناء نظام حكم جديد يكون إلغاء لما سبقه. ويضع المقدمات لدولة المؤسسات والقانون دولة العدالة الاجتماعية، والخلاص من مظاهر الطائفية والمذهبية. لذلك فاننا نرى ان الجماهير التي شاركت في دعم الثورة تناست انتماءاتها الطائفية والمذهبية والعرقية. وفعلا فان قيادة الثورة وبفعل ذلك الضغط باشرت بخطوات إيجابية لبناء مؤسسات المجتمع المدني واعطت فسحة واسعة من الحرية للعمل الحزبي والصحافة، والعقيدة والحريات العامة، فتنفست المرأة الصعداء، ووجد الطلاب والشباب وأصحاب المهن نقاباتهم وجمعياتهم التي تعبر عن مصالحها. أي ان الناس عثروا على أسس جديدة للعلاقات بينهم . وسنت الثورة العديد من القوانين التي صبت في مصلحة شرائح اجتماعية واسعة، وخططت لمشاريع إنهاض الاقتصاد الوطني، وتخليص الثروة النفطية من قبضة الشركات الأجنبية، وانتهجت سياسة خارجية مستقلة تعبر عن مصالح البلد وتخدمها. وكان على الثورة المضي ابعد في طريقها هذا، وإجراء الانتخابات لرئيس الجمهورية والبرلمان وتحقيق العدالة الاجتماعية. هذا هو الطريق المشروع والوحيد لثورة 14 تموز، هذه هي المهمة التاريخية لثورة 14 تموز ولكن القوى المنخرطة غدرت بالمشروع وأطاحت به وأطاحت بالحلم العراقي فانقلب لكابوس مازلنا نراه لحد اليوم
ان مسار الثورة وفق ذلك المنظور أثار رعب القوى التي ادركت بانه سوف يحرمها نهائيا من الاستئثار بالسلطة وموارد البلد وانتقالها الى طبقات جديدة. وتحالفت قوى ذات أهداف وطبيعة مختلفة والتفت حول شعار: إجهاض الثورة، واستعادة ما خسرته، ومنع مضي العراق في الاتجاه الذي يصب في مصالحها. واليوم نرى في العراق ان بقايا تلك القوى هي التي تقف وراء عرقلة المسيرة نحو بناء دولة القانون الديمقراطية واستكمال أهداف ثورة تموز. وتحارب تلك القوى اليوم بوسائل اكثر دموية، ولا يقف أمام تنفيذ جرائمها الوحشية وازع أخلاقي او ديني، فالرهان اكبر، وهي تدرك ان هزيمتها هذه المرة ستكون منكرة وأخيرة, فالشعب العراقي مصمم على المضي في طريق بناء الدولة الديمقراطية.
واستفادت قيادة الثورة، التي تراجعت عن الأهداف الحقيقية المعلنة، من ذلك الصراع، ولعبت على تلك الورقة فراحت تميل تارة لهذه القوى ومرة لتلك، من اجل تغذية الصراعات بينها وتأجيجها، بدلا من العثور على وسائل ناجعة والحلول الوسط من اجل الوفاق الوطني. وعملت قيادة الثورة التي تمثلت بالزعيم عبد الكريم ومجموعة الضباط والنخب الاجتماعية التي التفت حوله، ايضا من اجل الحيلولة دون تطور الوضع نحو إقامة عراق ديمقراطي حق، فاستأثر الزعيم قاسم بالسلطة، ورفض احداث تغيرات هيكلية في ادارة الدولة، وابقى على أجهزة الأمن السابقة، وابدى التساهل في تنفيذ القرارات التي صدرت لخدمة مصالح قطاعات واسعة من الشعب، وضيق اكثر على الحريات العامة حظر العمل السياسي وحصرها فقط بأحزاب صورية بديلة للأحزاب الحقيقية.
تكتب ناديجدا ستيبانوفا في كتابها تاريخ العراق في القرن الصادر عن معهد الاستشراق عام 2016 تقول:

[ .... عبد كريم قاسم عسكري نظامي كان ممثل نمطي لفئة العسكر العراقيين ذات الطبيعة المحافظة، المعادية للديمقراطية والمعادية للشيوعية، شخص ضيق الأفق لا يمتلك مواهب رجل دولة وسياسة مميزة.
وتضيف " اظهر قاسم مباشرة بعد الثورة السعي والطموح لفرض سلطته الشخصية، مما حدد الاتجاه العام لسياسته الداخلية : الحفاظ على القيادة السابقة تقريبا بالكامل متمتعة بالحصانة في الجيش وفي جهاز الدولة، وعرقلة جهود وأنشطة الحركات والأحزاب والمنظمات السياسية من أي اتجاه كانت، وناور بين مختلف الجماعات السياسية / الاجتماعية والعرقية/ الدينية في المجتمع العراقي"

وقالت " ان اكثر النجاحات للثورة تحققت في سنتها الأولى بفضل النشاط الذي قاده الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية الأخرى" وبضغط منها. ( ليس من عبد الكريم قاسم)

وتمضي بالقول " واجهت سلطات الجمهورية بعد انقلاب تموز مباشرة مجموعة مهام هائلة، تطلبت تعبئة الثروات والقدرات المتوفرة في البلد، ومقاربة عقلانية لرسم نهج السياسة الداخلية والخارجية. وكان هذا ممكنا فقط في حال وجود وحدة، ورص صفوف التكتل الحاكم، بيد أن هذا الشرط الحاسم كان مفقودا في صفوف القوى التي شاركت بإسقاط الملكية.

وأضافت : إن الوضع الذي ظهر بعد انقلاب 14 تموز أتصف باندلاع الصراع الحاد من اجل السلطة مما ترك بصماته على جميع مجالات الحياة الاجتماعية الأخرى في العراق وخاصة في السنة الأولى من ولادة الجمهورية . وبالرغم من إعلان الإصلاح الزراعي وظهور خطط للتطوير الصناعي والاجتماعي الرامية الى تحسين حياة شرائح الاجتماعية للسكان الأكثر فقرا، فان الوضع السياسي الذي ترتب في البلاد عطل تنفيذ هذه البرامج ]

لقد ساعدت هذه السياسة وبدعم اجنبي على تعبئة القوى المعادية لمسيرة ثورة 14 تموز فأنزلت بها ضربة قاصمة في انقلاب رمضان الأسود 1963 .
ولم تتحرك القوى التي كانت تقود قطاع واسع من الشرائح الاجتماعية ذات المصلحة بتحقيق الثورة أهدافها المنشودة، بفعالية وجد. لقد بدت مسلوبة الإرادة السياسية، تتحرك بوجل، ففشلت في إدارة الصراع، وتحولت الى ذيل تارة للجماهير المنفعلة وأخرى للقوى الخارجية، وغدت مخصية من الناحية السياسية ففقدت المبادرة، فاصدر التاريخ حكمه القاسي بها، لتكون اليوم قوى مهمشة، بعد ان كانت سيدة الشارع العراقي ومعبودته.
وهكذا فان القوى التي دفعت نحو الثورة وقدمت الدعم لها والنخب التي قادتها، غدرت بثورة 14 تموز الفرصة التاريخية الفريدة التي منحها التاريخ ذات مرة لشعب العراق لبناء دولته الحديثة، ولم يظل أمامه اليوم الا ان يأخذ العبرة من التجربة المريرة ولا يدع فرصة اليوم تضيع من يده.