المغرب يطلق العربية والعروبة


ناجح شاهين
2019 / 7 / 24 - 19:38     

المغرب يطلق العروبة واللغة العربية
ناجح شاهين
تصوروا أن يصوت الكنيست الإسرائيلي بأغلبية ساحقة على قرار بإعدام اللغة العبرية واعتماد الإنجليزية أو الفرنسية لغة واحدة ووحيدة للتدريس في مراحل التعليم كلها! ماذا سيتبقى من "القومية" الإسرائيلية المزعومة؟
ذلك ما فعله على وجه الدقة البرلمان المغربي الذي صوت بأغلبية 241 صوتاً ومعارضة أربعة نواب فقط على اعتماد الفرنسية لغة واحدة ووحيدة في التعليم الجامعي والمدرسي على السواء. هكذا ستحل مشاكل المغرب التعليمية والعلمية والاقتصادية والسياسية جميعاً.
لكن لماذا يختار المغرب هذا الطريق "الغريب" الذي لا يمكن لبلد مثل الصين أو إسبانيا أو فرنسا أو ألمانيا أو روسيا...الخ أن يختاره؟ دعونا نذكر أولاً أن اللغة المحكية في المغرب هي خليط من العربية والأمازيغية والفرنسية والإسبانية، وذلك كله يمتزج بالطبع بنكهة محلية فريدة من نوعها. كان التعليم الجامعي "دائماً" فرنسياً، بينما كان التعليم المدرسي يتأرجح بين التعريب والفرنسة منذ "الاستقلال". وقد وجدت وزارة التعليم المغربية أن الطلبة يواجهون مشكلة عند الالتحاق بالجامعات بسبب ضعفهم في الفرنسية، لذلك قررت "تصويب" الأوضاع واعتماد الفرنسية لغة وحيدة في الحقل التعليمي كله.
بالطبع لن نتظاهر بأن المغرب قد اقترف "الفاحشة" من دون إخوانه العرب. الحقيقة أن الدول العربية جميعاً تتبنى اللغة الإنجليزية أو الفرنسية بمقدار أو بآخر، سواء في الاقتصاد أو التعليم أو الحياة الاجتماعية. ومن ذلك أن على سبيل المثال أن التعليم الجامعي في الأردن ومناطق السلطة والخليج يتم في معظمه باللغة الإنجليزية. كذلك تحضر اللغة الإنجليزية في المدارس الخاصة على نحو كاسح، ويبدو في "الحيز العام" أن من يتعلم بالإنجليزية ومن يتكلمها يكتسب مكانة رفيعة قياساً إلى من يتعلمون بالعربية ولا يتقنون الإنجليزية. وعندما يقوم البعض –مثل كاتب هذا المقال- بالدعوة إلى إنصاف العربية، يتحد الناس تقريباً في التحذير من مغبة اندثار العلم في هذه البلاد في حال تم التخلي عن الإنجليزية. ولا يفيدنا كثيراً في محاورة هؤلاء الناس أن نذكرهم بأن البلاد العربية كلها التي تعتمد اللغات الأجنبية "الفاخرة" لا تسهم في المعرفة العلمية الكونية بأكثر من الصفر ذاته. سوف تظل الحجة السطحية التي تزعم أن الإنجليزية أو الفرنسية هي لغة العصر والعلم حجة جذابة لغالبية أبناء هذا الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج.
غني عن البيان أن الحجة المشار إليها ليس لها أية قيمة معرفية جدية. وأن "السر" وراء سيادة اللغة الأجنبية في بلادنا هي عجز الطبقة الحاكمة عن إنجاز الاستقلال الوطني/القومي بما في ذلك فك الارتباط التعليمي بالقوى الاستعمارية الذي يعد "برغياً" صغيراً في سياق التبعية التي تشمل على نحو أساس الاقتصاد والسياسة والثقافة.
من هنا يمكن القول إن المغرب قد كشف الوجه السافر للمشكلة التي نعانيها في كافة بلاد العرب لا أكثر ولا أقل. إن ما يحدث في كل مكان هو ميل متصاعد لتهميش العربية وإضعافها من ناحية، وزيادة متصاعدة في هيمنة إحدى اللغات الاستعمارية الإنجليزية أو الفرنسية التي يحددها الإرث الاستعماري للبلد العربي المعني.
من نافلة القول، ومثلما أشرنا عند الكلام عن إسرائيل واللغة العبرية أن إضعاف اللغة العربية يضعف أية فرصة لتوحيد العرب أو لوجود الأمة العربية حتى على صعيد الإمكان. ولسنا نخترع شيئاً جديداً هنا عندما نقول إن اللبنة الأولى في الوجود القومي هي اللغة القومية المشتركة. بلغة صارمة نقول إن أول الشروط الضرورية لوجود الأمة هو وجود اللغة القومية، بدونها لا يعود هناك من أية إمكانية لوجودها. بل إننا نذهب أبعد قليلاً لنزعم أن وجود "الأمة" المغربية ذاتها سيتعرض لتهديد جدي إذا أصبحت الفرنسية هي لغة المغاربة، ولن يغدو صعباً كثيراً أن يصبحوا بدرجة كبيرة جزءاً على نحو ما من الأمة الفرنسية العالمية.
من الواضح فيما نزعم أن القرار بتصفية اللغة العربية في المغرب هو قرار طبقي "جريء" يعلن على نحو واضح أن النخبة التي تقود المغرب سياسياً واقتصادياً وثقافياً قد قررت قطع علاقاتها بحاضرها وماضيها العربي والانطلاق إلى آفاق "العالمية" الفرنسية، ومن يعجز من أوساط الجماهير عن اللحاق بالفرنسة، فإن مصيره المزيد من التهميش. المغرب سيصير جزءاً من العالم الفرنكفوني، ولن يعود يهمه في شيء أمر العرب أو العروبة أو أي شيء يتصل بهما.
والواقع أن ذلك يجب أن لا يثير الدهشة كثيراً. ذلك أن اللغة، مثلما هو معروف على نطاق واسع، ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي صانع للمعنى، وللتكوين النفسي والثقافي والاجتماعي ولطريقة التفكير..الخ ولا بد أن سيادة اللغات الأجنبية في بلدان الوطن العربي سوف تقوض أية فرصة للتواصل بين تلك البلدان، ناهيك عن التكامل وصولاً إلى بناء كتلة سياسية/اقتصادية مشتركة، لكي لا نتحدث عن وحدة فدرالية أو وحدة تامة..الخ
في رأينا المتواضع الذي لا نمل من تكراره منذ عقد من الزمن، أن التوقف عن التدريس باللغات الأجنبية في المدارس والجامعات على السواء هو خطوة أولية بدهية يجب أن لا يختلف عليها اثنان من سكان هذه البلاد. ومن ناحية أخرى يجب التوقف الفوري عن التعليم الإجباري "العبثي" للغات الاجنبية في مدارسنا، وربما يكون جديراً بالدراسة أن يتم تعليم مجموعة من اللغات الأجنبية على نحو اختياري ودون أية أبقار لغوية مقدسة من قبيل الإنجليزية أو الفرنسية.
بالطبع لا حاجة بنا إلى تكرار القول بأن اللغة العربية الفصيحة يجب أن تحتل الصدارة المطلقة في التعليم والعلم والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والفنون...الخ وذلك شرط ضروري ليس لبقائنا السياسي ضمن قيود الأحياء، ولكنه شرط فيما نزعم لكي نضع الأسس لأي بناء تعليمي/علمي قابل للنمو في سياق العالم الذي نعيش فيه. ما عدا ذلك لن يؤدي الجهد الذي لا طائل تحته للتحول إلى إنجليز أو فرنسيين، إلا إلى حالة هجينة مضحكة تذكر بالنموذج الهندي والباكستاني البائس، ولكنها تشبه على نحو أكبر نموذج الدول الأفريقية الفرنكونية التي تنهشها الحروب والأوبئة والمجاعات.