عبد الباسط الساروت: مسار ثورة في مسار ثائر


ياسين الحاج صالح
2019 / 7 / 20 - 15:49     

انعكس مسار الثورة السورية بصور بالغة الاختلاف في المصائر الفردية، بما يُصعِّب الكلام على مصير نموذجي. على أن مسار ومصير عبد الباسط الساروت الذي استشهد يوم 8 حزيران 2019 وهو في السابعة والعشرين، يبدو من أصلح ما يمكن أن يكون تكثيفاً لمسارات الصراع السوري المعقدة ومآلاته التراجيدية، ومن أنسب مواقع النظر في ديناميكيات الصراع وتحولاته طوال 100 شهر. ما يسبغ على "باسط" صفة النموذج هو أنه، من وراء التحولات، ثبت على الهدف، إسقاط نظام إبادة، لا يقوم دون إسقاط محكوميه سياسياً وأخلاقياً، وأنه عانى الكثير في سبيل الهدف ودفع حياته ذاتها في النهاية.
الشاب الذي كان لاعب كرة قدم في التاسعة عشر، حارساً لمرمى فريق نادي الكرامة الحمصي، ولمنتخب شباب سورية، انضم إلى الثورة منذ البداية. في شريط مصور له يقول إنه صار يُغني ويهتف في أنشطة احتجاجية في شهور الثورة الباكرة لأنه كان معروفاً سلفاً كلاعب كرة قدم، وكان الناس يجتمعون عليه. الشاب الأسمر الذي ينحدر من أسرة بدوية نازحة من الجولان المحتل إلى حمص كان يقود الهتاف ويغني في الاعتصامات المسائية في الخالدية، حيث أخذ يعرف كثائر على النطاق السوري، بعد أن كان معروفا في حمص وحدها. واشتهر باسط أكثر مع انتقال الممثلة فدوى سليمان (1970-2017) إلى حمص وظهورها إلى جانبه في تجمعات احتجاجية احتفالية في تشرين الثاني 2011، حيث كان يجتمع ألوف الشبان ويهتفون للحرية وضد النظام. حازت الواقعة على شحنة رمزية عالية لأن فدوى من خلفية علوية، واعتراضها على النظام كان، بوعي منها ومن مستضيفيها، مساهمة في إظهار الطابع العابر للطائفية للثورة السورية.
الخشية من أن تُؤوّل الثورة كتمرد سني ضد سلطة علوية دفعت كثيرين من معارضي النظام إلى تأكيد العكس بأشكال مختلفة، منها ما أتاحته الظروف للثائرين الحماصنة من قدوم فدوى إلى حمص. كانت فدوى بدوها تريد ثورة تعبر الطوائف لكون ذلك مصلحة سورية عامة، ومصلحة للجماعات الأهلية كلها كذلك، بما في ذلك العلويين بطبيعة الحال.
قبل نهاية عام 2011 كان يظهر للثورة السورية مكون عسكري يُعرِّف نفسه بواجب الدفاع عن المظاهرات السلمية. كان النظام بدأ بحرب ضد الثورة منذ البداية، وهو ما رمز له اقتحام اعتصام شارك فيه المئات من أبناء درعا في الجامع العمري من قبل قوات خاصة في الحرس الجمهوري الذي يقوده ماهر الأسد فجر يوم 22 آذار 2011، وقد قتل في الاقتحام العشرات، وربما مائة من المعتصمين، وهذا بعد أيام قليلة فقط مما سيعرف لاحقاً ببدء الثورة السورية. كان ذلك تعبيراً قوياً عن عزم النظام على سحق أي احتجاجات عليه، مثلما كان كلامه الباكر جداً عن "عصابات مسلحة"، تعتدي على "رجال الأمن" والسكان، تعبيراً عن عزمه على الحرب.
على أن ما صار يعرف بعسكرة الثورة لم يكن تحولاً مجرداً فيما خص عبد الباسط. هو نفسه تعرض لمحاولة اغتيال من طرف النظام يوم 14 كانون الأول 2011، وفي الشهر نفسه قتل النظام شقيقه الأكبر وليد. التحول نحو العسكرة مر غالباً بقصص من هذا النوع. أطلقت مواجهة الثورة السلمية بالعنف والتحريض الطائفي المموه ديناميكية تجذير وعسكرة، ستخالطها دون أن تستنفدها في أي وقت ديناميكيات أسلمة وتطييف، مما سيكون النظر في مسار باسط موقعاً مناسباً للنظر فيها.
باسط كان واعيا أن "المظاهرات تكسر ظهر النظام" (انظر https://www.youtube.com/watch?v=2aIgK4c5nLA )، وأن "كلامنا ومظاهراتنا أقوى من السلاح" الذي "اضطرينا عليه"، اضطرار مصنوع من الحاجة إلى حماية التظاهر السلمي بداية، ثم من الحاجة إلى حماية الأحياء، بخاصة بعد مجزرة الخالدية في شباط 2012 (انظر فيلم: العودة إلى حمص https://www.youtube.com/watch?v=tRukMMRjwhk&feature=youtu.be). لكن هناك نفطة مهمة يتعين إبرازها في هذا السياق، وهي أنه في حين كانت عسكرة الثورة اضطراراً تولد عن التكوين العنيف والتمييزي للنظام، الإبادي كما يظهر في مسار سنوات ما بعد الثورة، فإن هذا الميل العام حجب عسكرة لم تكن اضطرارية، اختيارية بل مفضلة، من طرف مجموعات سلفية أخذت تنتظم علناً في أجواء العنف الشامل. "النظرية الثورية" لهذ التشكيلات لا تدعو إلى حمل السلاح فقط، بل هي تنكر السلمية إنكاراً مبدئياً. وبينما تمثل التسلح الدفاعي الاضطراري في ظاهرة "الجيش الحر" التي نشأت من انشقاقات فردية واسعة نسبياً في عامي 2011 و2012 من وحدات الجيش النظامي العام وتشكيلاته (تمييزاً عن وحدات وتشكيلات خاصة ذات وظيفة أمنية، مثل الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، هي الأفضل تسليحاً والأوسع تطييفاً، والأحظى بثقة النظام)؛ فإن الجهادية ظهرت من لقاء تسلح اختياري بالعقيدة السلفية. هنا لا تعتبر السلمية منهج صراع غير مثمر أو مشكوك بنجوعه، بل هي منهج خاطئ وغير إسلامي. وحشية حرب النظام وفرت بيئة اجتماعية ونفسية تسهل عدم التمييز بين هاتين النزعتين. في تجربة عبد الباسط اختلط المنزعان، بخاصة بعد الحصار المطبق على أحياء حمص الثائرة في حزيران 2012، فصارت المناطق المحررة سجناً، بحسب قوله هو نفسه (أستفيد من فيديوهات محال إليها في مقالة "زمن عبد الباسط" في "الجمهورية" https://www.aljumhuriya.net/ar/content/%D8%B2%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D8%B7).
مهم ألا يغبب عن البال هنا أن حمل السلاح لم يعن تلقائياً انتهاء المظاهرات السلمية التي لم تأخذ بالانحسار إلا في النصف الثاني من 2012، مع التحول نحو الحرب المفتوحة ضد الثورة، التحول الذي اقترن في تقديري مع انتصار الحزب الإيراني في أوساط النظام. الحدثان الكبيران الدالان على "أيرنة" النظام الأسدي هما اغتيال ضباط خلية الأزمة بتواطؤ وعلم مرجح من قبل ماهر الأسد، رجل إيران القوي، الذي لم يحضر اجتماعاً اغتيل فيه شركاؤه في الخلية في 18 تموز 2012، ثم الانسحاب من مناطق الكثافة السكانية الكردية في شهور تموز نفسه بغية مواجهة أكفأ للثورة، وذلك بالتواطؤ مع قيادة حزب العمال الكدرستاني الكردي التركي التي دعيت لملء الفراغ بمحازبيها المسلحين من الكرد السوريين وغير السوريين. جدير بالذكر أن أول استخدام للبراميل المتفجرة يعود إلى شهر تموز هذا ذاته. وأن قوانين مكافحة الإرهاب صدرت في مطلع الشهر نفسه. في مجموعها، هذه الظواهر مؤشرات حاسمة على انهيار الإطار الوطني للصراع السوري، بحيث لم يعد صراعاً سورياً سورياً. حتى ذلك الوقت كانت المظاهرات تكمل الجيش الحر، والجيش الحر يكمل المظاهرات، بحسب باسط. لم يعد الأمر كذلك بعد انهيار الإطار السوري للصراع أو نزع صفته السورية. لقد صار النظام جزءاً من تحالف إقليمي تقوده إيران، ويحظى بدعم في مجلس الأمن من طرف روسيا والصين.
وبقدر ما افتقرت الثورة إلى مركز قيادة معترف بهما يستطيع أن يرد على هذا التحدي الكبير، فقد قادت ديناميكات تداعي الإطار الوطني إلى اندراج مجموعات الجيش الحر المتواضعة التنظيم أصلاً في روابط دعم تسليحي ومالي مع قوى إقليمية ودولية لها أفضليات سياسية تخصها. لكنه كان دعماً شحيحاً في الغالب، على ما خبر ثائرو حمص أكثر من غيرهم (وعاينتُ ذلك بنفسي في الغوطة الشرقية بين نيسان وتموز 2013). كانت غرفنا الموم والموك الذين أسسهما الأميركيون في الأردن وتركيا بوعم دعم الجيش الحر غرفتان للتحكم بالمقاتلين ضد النظام والتجسس عليهم. هذه صفحة سوداء لم تكتب قصتها بعد.
بعد شهور من الحصار، وخسارة العديد من رفاقه، ومنهم أخوين له وخاله في معركة المطاحن المأساوية التي حاول المحاصرون فيها الحصول على ما ينقذهم من الموت جوعاً، استطاع عبد الباسط أن يخرج إلى ريف حمص، محاولاً فك الحصار من الخارج. تمضي شهور ولا ينجح مسعاه. وفي تموز 2013، يتسلل الشاب الذي كان في الحادية والعشرين عائداً ليعيش بين المحاصرين. هذا بطولي، شجاعة وأخلاقية. وكان مستهل العودة إلى الحصار إصابة خطيرة لباسط نفسه، نراه في فيلم "العودة إلى حمص"، وهو لا يزال تحت تأثير المخدر يصرخ أن اقتلوني، لكن فكوا الحصار! هنا ولمدة نحو عشرة شهور سيعيش باسط في أحياء حمص المحاصرة، مشاركاً عوائل ومقاتلين الجوع الحقيقي. كان الحصار تجويعاً، استراتيجية عسكرية اعتمدها النظام، ونعرف لها أمثلة في مخيم اليرموك ومضايا والزبداني والغوطة الشرقية، وشعارها المعلوم هو: الجوع أو الركوع!.
في تسجيل مصور له بعد إخلاء أحياء حمص المحاصرة وخروج الأسر والمقاتلين في الباصات الخضر في أيار 2014، نرى باسط يتكلم على نحو دال جداً على مبدأ "حفظ النعمة". يقول كنا نرمي ما فاض من وجبات طعامنا، وهو ما سيبدو تبذيراً لا يغتفر لمن عاش الجوع، ولم يكن يدرك في أي نعمة كان أيام شبعه. يعطي باسط نسباً مقدساً لخبرة الجوع عبر مبدأ حفظ النعمة الإسلامي الذي تعود أصوله إلى حديث نبوي. القتال نفسه الذي كان يُسوِّغه بالدفاع عن المظاهرات السلمية، ثم عن الأحياء الثائرة، صار يسوغه بالجهاد الذي هو فرض من الله، كما صار يقول.
في نهاية فيلم "العودة إلى حمص" نرى باسط بين مجموعة من رفاقه في صندوق سيارة وهو ينشد نشيداً جهادياً. هنا نجدها تبلغ الذروة ديناميكية التجذير والعسكرة والأسلمة التي أطلقتها استباحة بيئات الثورة السورية. لكن سيرة باسط بالذات تصلح مستنداً للتمييز بين صيغتين من صيغ مركب العسكرة- الأسلمة، أي الجهاد: صيغة أولى وثيقة الصلة بالديناميكية المذكورة، أي جهادية داخلية واجتماعية المنشأ إن جاز التعبير، دفاعية جوهرياً حتى حين يحدث أن تكون هجومية تكتيكياً، وثيقة الارتباط بعمليات الصراع ومساراته وتجاربه القاسية من حصار وجوع وعيش في جوار الموت وفقد للأحبة والأصدقاء، أي بالدفاع عن المجتمع؛ ثم صيغة فوقية وخارجية، جوالة، مستقلة عن ديناميكيات الصراع السوري، هجومية استراتيجياً حتى حين تكون دفاعية تكيتيكياً، لها بنية شبكية، تعيش مستقلة عن أي بيئات اجتماعية حية، بل إن انهيار هذه البيئات هو أنسب شروط ازدهارها هي. هذا الصيغة الأخيرة ليست لا اجتماعية فقط بل هي معادية للمجتمع أو عدمية اجتماعياً، بقدر يتناسب مع ترسخها في معتقدها الخاص، النخبوي والنرجسي. كان عام 2013 تحديدأ هو عام اختلاط أو عدم تمايز صنفي الجهاد، الاضطراري الدفاعي، ذي المنشأ الاجتماعي التحتي، والاختياري الهجومي ذي المنشأ الفوقي، الجوال والمعولم. هذه الأخيرة أساءت بقدر مهول لكفاح السوريين، بما في ذلك لمقاومة اجتماعية، طورت خلال عملية الصراع سنداً دينياً، مثل مقاومة باسط ورفاقه. قلما جرى التمييز بين هذين الشكلين، الثوي والعدمي. باسط نفسه قلما ميز بينهما، ونراه في شريط صُوِّر قبيل الخروج يخاطب البغدادي والجولاني والظواهري، فيما يبدو أنه اعتبرهم ممثلي الصيغ الأكثر جذرية للاعتراض على الظلم في سورية وعلى عالم ظالم.
وقت الخروج الأخير من حمص اتجه باسط إلى "مبايعة" داعش، وهو ما يرتبك حياله كثيرون، ويميلون إلى إنكاره. لا أرى مبرراً لذلك أو محاولة تبريره. باسط ليس فقط لا يتنصل من الأمر، لكنه حين يُسأل عنه يقول بصدق: لا دخان بلا نار...، ويروي تفاصيل تتعلق بهذه "البيعة". يقول إنه كان يبحث عن عمل، ويوضح أنه "ما عاد عندك حل بعد الحصار غير العمل"، و"الدولة (داعش) كانت في الريف الشمالي". وواضح في التسجيل أنه يعني بالعمل محاربة النظام. وإذا كانت البيعة في النهاية لم تتم، فعلى الأرجح لأن في مسلك باسط ثبات على مواجهة العدو الذي عانى وشعبه في حمص من تمييزه وعدوانه وحصاره، وليس الانخراط في مشروع عدمي يعتاش من الصراعات الأكثر وحشية من أجل مشروعه الخاص في "إدارة التوحش". سورية مجرد إطار عارض لصراع داعش وجبهة النصرة، فيما ظل باسط طوال الوقت يتكلم على وطن، وعلى نظام مجرم، وعلى كفاح مسلح (وإن كذلك على جهاد أحياناً)، ودوماً على حمص "العديّة". "أساؤوا إساءات كثيرة، فبعدت"، يقول في إشارة لداعش والنصرة. بنى باسط كتيبة للكفاح المسلح، "كتيبة شهداء البياضة"، مكونة من متظاهرين سابقين. وهو قال لجماعة النصرة الذي اعتقلوه وحبسوه في زنزانة انفرادية 37 يوماً: لا أقاتل "الدولة" ولا أقاتلكم، أقاتل النظام لآخر قطرة دم.
نزفت آخر قطرة دم يوم 8 حزيران، في سياق "الكفاح المسلح" ضد النظام المنقلب إلى محمية إيرانية روسية.
***
تخطيطياً، يمكن التمييز بين أربع مراحل في مسار باسط. مرحلة المتظاهر السلمي حتى خريف 2011، مرحلة المقاتل المستمر في الاحتجاج السلمي حتى حزيران 2012، مرحلة المقاتل تحت الحصار الذي يتطور له خطاب إسلامي وجهادي خصوصاً بعد العودة إلى الحصار في صيف 2013، خطاب يصل إلى درجة مبايعة داعش، ثم العودة مقاتلاً ضد المحتل المحلي وحماته بعد فترة انقطاع قضى جزءاً منها في تركيا، وهذا حتى استشهاده قبل أربعين يوماً.
هذه مراحل في الصراع السوري نفسه. ثورة سلمية، ثم سلمية ومسلحة هي ما يمكن تسميتها الحرب الأهلية السورية التي كانت قتالا سورياً سورياً، ثم نزع سورية الصراع مع انهيار الإطار الوطني وأيرنة النظام وتشييعه سياسياً، وأسلمة وتسنين المقاتلين ضده، ثم أخيراً تشتت المقاتلين واستمرار الأكثر إخلاصاً منهم في القتال من أجل سورية.
في مسار باسط الثوري خروجان: من الحصار ومن البلد، وعودتان: إلى الحصار وإلى القتال. هذا قبل خروج أخير، بطولي، من حياة ملحمية رغم قصرها الشديد.