محاورة النرجسي


نعيم إيليا
2019 / 7 / 16 - 15:32     

أوضح مزايا النرجسي، كراهيته العمياء للنقد، وشغفه المحموم بالأماديح. كان لأمي الأمية مثل يطيب لها أن تكرره على مسامعنا، كلما حضرت المناسبة: „ اقتل النرجسيَّ، ولا تقل له أخطأت".
وطبعاً لم يكن (للنرجسية) لفظاً، وجودٌ في معجم والدتي؛ لأنها كما ذكرت، كانت أمية. بيد أن والدتي، مع ذلك، كانت تمتلك بدائل لفظية عن النرجسية، أو مترادفات تعبر تعبيراً يشف شفوفاً عن النرجسية: كالغرور، وحب الذات.
أجل ! في نفس كل منا شيء من النرجسية. النرجسية حقيقة ساطعة واقعية لا يستطيع أحد أن ينفي وجودها في أنفسنا، حتى هذا الذي وهب ذاته لمعبوده في صحراء النسك والرهبانية، فإن فيه لنرجسية. وعلة ذلك أن (حبّ الذات) غريزة فينا، لولا وجودها فينا، فلقد عرض لنا أن نهمل ذواتنا حتى الهلاك.
على أن لكل شيء في النفس حدوداً مقيدة بأنظمة وضوابط تؤدِّيه على القيام بوظيفته خير تأدية. فإن تجاوز الشيء هذه الحدود، فقد أصابه إذاً خلل. كالشجاعة فإنها لازمة لنا في تحقيق مآربنا، وقضاء حاجاتنا من غير أن نعتدي على حقوق الآخرين. ولكن الشجاعة حين تتجاوز حدودها، تغدو طيشاً وتهوراً. وفي الطيش والتهور ما يورد الموارد.
وقد يجب بعد هذه الفذلكة، أن أذكر المناسبة التي دعتني إلى الخوض في هذا الحديث. ألا إنها المحاورة أو المجادلة وقد ألزمنيها حبي للحقيقة الخالصة المجردة عن الأغراض الدنيّة والأهواء الزريّة، إذ رأيت هفوات في هذه المقالة، إثر قراءتي المتأنية لها: (http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=642567) فأردت مراجعة صاحبها فيها كرمى لعين الحقيقة وحسب.
بدأت بتسجيل جملة الهفوات التي رأيتها، ثم أرسلتها إلى صاحبها. ولم أرسلها إليه مباشرة – لعلة ما - وإنما أرسلتها إلى زميل ثالث كالوسيط بيننا، كان افتتح باب التعليق عليها في (الحوار المتمدن) بتقريظ لا بشيء آخر غير التقريظ، وها هي ذي:
„تحية طيبة
يقول المفكر: (فالماء لا يجري في النهر مرتين، لذا فالحقيقة نسبية) فهل أنت مقتنع بقوله، أم أنك تعده مثلي تفكهة للقارئ وتنشيطاً له من بعد السأم؟
المفكر يزعم أن لا غاية للأشياء بإطلاق، فهل أنت مؤيد لزعمه؟ إذاً فسر لنا لو سمحت الغاية من يد الإنسان؟ أليس لليد من غاية؟ أم أن الإنسان ويده ليسا من الموجودات المادية.
ويزعم أن الموجودات لا معنى لها في ذاتها، والمعنى كما تعلم هو الوظيفة التي تؤديها الموجودات، فهل أنت مؤيد لزعمه؟ إذاً فسر لنا الإحراق في النار.
ويقول: (فرض غير مقبول عقلياً أن الوظيفة سبقت الماهية) فهل تؤيد قوله؟ إذاً فسر لنا كيف تكونت يد الإنسان؟ هل تكونت قبل أم بعد وظيفتها.
ويقول: (فالعدم فى اللغة نقيض الوجود والنقيضان لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً) فهل توافقه على هذه القاعدة المنطقية القروسطية اللاهوتية؟
طيب، الليل والنهار نقيضان، ألا يجتمعان في السحر، كما يجتمع الموت والحياة في جسد الذي قد أشرف على الهلاك؟
المفكر ينفي الحقائق المطلقة، ولكنه يرى آراءه حقائق مطلقة، فهل تمالئه في صنيعه؟ "
فاختار الزميل أن يجادلني في صحة عبارته القائلة "الماء لا يجري في النهر مرتين، لذا فالحقيقة نسبية" ثم ودّ بعد ذلك أن يجادلني في فلسفته القائلة " إن الأشياء لا غاية لها ولا وظيفة " ولكن انفعاله صرفه عن المجادلة فيها. وإنما انفعل الزميل؛ لأني قلت له: اخطأت في التعبير عن فكرة التغير ونسبية الحقيقة بقولك: (الماء لا يجري في النهر مرتين).
وجعلت أشرح له العبارة على أوجه وضروب، لعله يتبين الخطأ فيها. ولكنه ظل مثابراً على إصراره بأن عبارته صحيحة معبرة تعبيراً وافياً بلا نقصان عن المعنى المراد، وأبى كل الإباء إلا أن تكون كذلك.
وأطمّ من ذلك، أنه لم يكفّ لحظة واحدة عن اتهامي بألوان شتى من التهم ليس بينها تهمة واحدة تنطبق عليّ.