مِنْ صقر واحد إلى صقر اثنين.. الهديّة وصلتْ..


سعود قبيلات
2019 / 7 / 13 - 18:13     


«مشي

كان رجلٌ يمشي، أدخلوه السجن، فقال:
- أربط حذائي.
ومرَّت سنوات، أنهى الرجل ربط حذائه، وبينما هو خارجٌ من
السجن، قال:
- الآن، أواصل المشي».

مِنْ كتابي «مشي» (صدرت طبعته الأولى في العام 1994).

اليوم 7 – 7 – 2019. في مثل هذا اليوم من العام 1979 (7-7-1979) الساعة السادسة مساءً وقعتُ في كمينٍ نُصِبَ لاعتقالي عند جامع «أبو درويش» في الأشرفيّة.

وتالياً، ملخَّصٌ لسلسلة الأحداث التي سبقت هذا الكمين وجعلتني مطلوباً بإلحاح:

كنتُ، قبل اعتقالي بحوالي ثلاثة أشهر، قد قدتُ، مع رفيقاتي ورفاقي مِنْ طلّاب الجامعة الأردنيّة، مظاهرةً كبيرة سرعان ما تحوَّلت بعد بعض الأحداث الاستفزازيّة إلى إضراب شمل الجامعة كلّها (باستثناء كلّيّة الشريعة) واعتصامٍ مفتوح في المساحة الممتدَّة أمام مكتبة الجامعة، وما لبث الوضع أنْ تطوَّر إلى انتفاضة استمرَّت حوالي ثلاثة أسابيع.

وفي اليوم الثالث تمَّ اعتقال حوالي 130 طالباً، لكنّ الأحداث استمرّت، وأُطلِّق سراح الطلبة المعتقلين في اليوم التالي.
توتَّرت الأجواء في البلاد كثيراً. وخطب رئيس الوزراء مضر بدران – آنذاك – أمام المجلس الاستشاريّ (الذي كان بديلاً غير منتخبٍ للبرلمان)، ونقل التلفزيون والإذاعة خطبته التي قال فيها إنَّ عناصر مدسوسة من الموساد هي التي أثارت الأحداث في الجامعة. ونشرتْ الصحف هذا الكلام بعناوين بارزة.

وعصر اليوم نفسه، أرسل الراحل الملك حسين ابن عمّه الأمير رعد إلى الجامعة وطلب – عن طريق الراحل الدكتور سليمان عربيّات والدكتور فوَّاز طوقان - اللقاء مع كاتب هذه السطور كممثِّل للطلبة؛ وقد رافقني زميلي فهد جبريل الذي كان – آنذاك – مسؤولاً عن تنظيم الجامعة للجبهة الديمقراطيّة في الأردن، والتقينا بالأمير رعد، وتحدَّثتُ معه. غير أنَّ اللقاء لم يكن ناجحاً. إذ فهمنا بأنَّه لم يكن مفوَّضاً بتقديم أيّ استجابة لمطالب الطلبة.

واجتمعتْ قوى المعارَضة والنقابات المهنيّة اجتماعاً واسعاً مفتوحاً بقيادة الراحل الشيخ عبد الحميد السائح، وأعلنوا تضامنهم مع مطالبنا وتواصلوا معنا وسعوا للتهدئة. بيد أنَّ النظام لم يمنح الطلبة أيّ فرصة للتراجع.

كانت الأحداث قد انطلقت احتجاجاً على زيارة مناحيم بيغن، رئيس وزراء العدوّ الصهيونيّ، في حينه، إلى الإسماعيليّة في مصر، لاستكمال إبرام اتِّفاقيّات كامب ديفيد. وصادف، في الوقت نفسه، أنَّ الجامعة بدأتْ بفرض الرسوم على الدراسة الجامعيّة.. بعدما كانت شبه مجانيّة قبل ذلك.

قُمِعَتْ الانتفاضة1 بشدَّة في النهاية، وسيطرت على الجامعة وعلى الحياة الطلّابيّة أجواء كئيبة. وقرَّر الحزب (الحزب الشيوعيّ الأردنيّ) إخفائي2 ريثما تهدأ الأمور. وفي هذه المقالة، أُعلن للمرّة الأولى الأماكن التي تمّ إخفائي فيها.

أخذني الرفيق الراحل عوني فاخر3 (أبو موسى) إلى جبل التاج، ودخلنا غرفةً صغيرة بسيطة، وجدنا فيها شابّاً أسمر أنيقاً، سرعان ما عرفتُ أنَّه الرفيق عبد الرحمن المجالي4.

أمضيت عند الرفيق عبد الرحمن شهراً. كان يذهب إلى عمله في اتّحاد العمّال في النهار، وفي الليل نتسامر طويلاً.. وكنّا نستمرّ بذلك أحياناً حتَّى الصباح، إلى أنْ نسمع أصوات العصافير وقد بدأت تزقزق على الأشجار المجاورة. وبعد ذلك، نركن إلى النوم.

كان أبو موسى، في أثناء ذلك، يزورني بشكلٍ متقطِّع، في حين كُلِّف بزيارتي، بانتظام، الرفيق يوسف قويدر ابن المناضل العمّاليّ العريق الرفيق الراحل موسى قويدر «أبو يوسف»، أحد مؤسِّسي الحركة العمّاليّة في فلسطين والأردن. وكانت تربطني بأبي يوسف محبَّة عميقة متبادلة.

وكنتُ ويوسف نعمل معاً في المنظًّمة التي تقود القطاع الطلّابي في الحزب، وكانت هذه المنظَّمة بقيادة الرفيق مازن هلسا «أبو حازم». وكان معنا فيها على فترات مختلفة – كما أذكر – الرفيقات والرفاق: مازن حنّا، ورجاء عمر، وداوود الصبيحيّ. وإذا أسعفتني الذاكرة، فربّما كانت معنا أيضاً الرفيقة ناتاشا شوارب.

كان البحث عنِّي يجري بشكلٍ حثيث، حيث داهموا الغرفة التي كنتُ أسكنها في وادي الحدّادة في عمَّان وأقام معي فيها الرفاق: الأديب والصحفيّ الراحل محمّد طُمَّليه، وخالد مساعدة، ومروان شمّاس، وأخذوا ما وجدوه فيها مِنْ كُتُبي وأوراقي وذهبوا. وداهموا بيت الرفيق موسى قويدر «أبو يوسف»، في ماركا، بحثاً عنِّي لظنِّهم أنَّه تمَّ إخفائي هناك. وداهموا بيت أهلي في «مليح» واشتبك معهم والدي فأخذوه وأمضى في سجن مادبا أسبوعين.

وذات يوم، بعد حوالي ثلاثة أسابيع، جاء إليّ الرفيق أبو موسى، وقال إنَّه يريد أنْ يأخذني إلى مليح (قريتي) لأرى أهلي وأعود. كان معه – آنذاك – سيَّارة كوريّة بيضاء صغيرة مِنْ طراز «بوني» وهو طراز لم يعد موجوداً الآن.

وبالفعل، غادرنا عمّان، وعندما وصلنا مليح، أنزلني في الشارع العامّ (طريق تراجان القديم الشهير)؛ حيث بيت أسرتي محاذي له، وقال لي: انزل شوف أهلك.. أنا سأصل وادي الوالة، وعندما أعود أريدك أنْ تكون جاهزاً لنعود معاً إلى عمّان.

رأيت أهلي وعدنا. وبعد نصف ساعة كانت قوّة من المخابرات قد داهمت البيت لإلقاء القبض عليَّ.

وفي أوَّل أسبوعين، تمَّ إبعادي عن العمل الحزبيّ التنظيميّ. وهذا إجراء طبيعيّ للحفاظ على أمني وأمن الرفاق الآخرين. ولكنَّني سرعان ما أخذتُ أتذمَّر، مطالباً بإعادتي إلى العمل التنظيميّ، وظلّ الرفاق يماطلون لفترة، لكنّهم في النهاية استجابوا لطلبي، بشرط أنْ ينحصر عملي التنظيميّ في المنظّمة القياديّة فقط. ووافقت في البداية. وبسبب وجودي فيها تجنَّبت المنظّمة عقد اجتماعاتها في البيوت وراحت تجتمع في أماكن غريبة. أذكر، على سبيل المثال، أنَّنا في إحدى المرَّات اجتمعنا ليلاً في أعالي منطقة العدسيّة.

ثمَّ رحتُ أتذمَّر مجدَّداً، طالباً من الرفاق أنْ تُعاد صلتي بتنظيمنا في الجامعة الذي كنتُ مسؤوله المباشر سابقاً. وأيضاً ماطلوا لفترة، ثمَّ قالوا لي: سنسلِّمك خليّة منزوية عن باقي التنظيم.

وبالفعل جرى ترتيب لقاء لي بهذه الخليّة، فوجدتُ أنَّ أحد أعضائها (ح) مِنْ سكّان جبل التاج، وكان أهله في الخليج ويعيش وحده في عمّان، وأحواله المعيشيّة جيّدة ولديه غيتار يعزف عليه. أمّا الآخر (غ)، فكان مِنْ سكّان مخيّم الحسين، ومِنْ أسرة محدودة الدخل وأحواله المعيشيّة بسيطة.

وفي هذه الأثناء، تمَّ نقلي لأسكن مع رفيق آخر أخفاه الحزب هو الرفيق خالد برقان. جاء الرفيق يوسف، وكان يعمل مهندساً في إحدى الشركات الخاصّة آنذاك، ومعه سيّارة تيوتا، فأخبرني بقرار الحزب، وذهبتُ معه إلى مخيّم شلنّر؛ ووجدتُ الرفيق خالد ينتظر على مصطبة أمام بيت قديم مكوَّن مِنْ غرفتين. ولكن، في الليل، عندما آوينا إلى فراشينا، لم نستطع النوم مِنْ لسع البقّ وحشرات أخرى. وعندما جاء يوسف ليطمئنّ علينا في اليوم التالي، قلنا له أنْ يخبر قيادة الحزب بالأمر ليدبِّروا لنا مكاناً آخر. وعاد في المساء، وقام بنقلنا إلى بيتٍ لا بأس به في الرصيفة.

مكثنا شهرين هناك تقريباً. وفي أثناء ذلك طُلِبَ منّا أنْ يختار كلٌّ منّا اسماً مختلفاً عن اسمه الحقيقي ليتمّ إعداد بطاقة هويّة نقابيّة له يتنقَّل بها. فاخترتُ أنا الاسم التالي: سليم عثمان.

وحتّى هذه اللحظة لا أعرف لماذا اخترتُ هذا الاسم بالذات. وآنذاك، كنتُ أيضاً قد غيَّرتُ هيأتي؛ فحلقتُ لحيتي وشاربي اللذين كنتُ معروفاً بهما، وغيَّرتُ ملابسي الشبابيّة وصرتُ ألبس ملابس شبه رسميّة (بنطلون وقميص وجاكيت).

نعم، كان بيت الرصيفة لا بأس به. ولكن الجوع أنهكنا فيه. فصار خالد، وهذا ابتكار لم أكن أعرفه قبله، يبلّ بقايا الخبز الناشف بالماء ثمّ يشعل بابور الكاز المتوفّر لدينا ويضعها عليه، لنتناولها بعد ذلك.

وفي اليوم الأخير قبل اعتقالي، كان لي موعد مع الخليّة الحزبيّة التي تضمّ («ح» و«غ»)، فغادرنا بيت الرصيفة (خالد وأنا) معاً، وصعدنا إلى باص الرصيفة عمّان، وعندما صرنا في ماركا، قال خالد إنَّه سينزل هناك ليزور بعض أقاربه، وقلتُ له: إذا لم آتِ حتَّى الساعة العاشرة، فاِعرف أنَّني قد اُعتُقِلتُ5.

نزلتُ من الباص في البلد، وكان الوقت لا يزال باكراً، فسرتُ حتَّى سرفيس اللويبدة، وصعدتُ في إحدى سيّاراته ونزلتُ بالقرب مِنْ مقرّ رابطة الكتّاب الأردنيين القديم. عندما وصلتُ المبنى وجدتُ مجموعة من الأصدقاء والزملاء أعضاء الرابطة جالسين في الشرفة. ومنهم الشاعر المعروف الراحل محمّد القيسيّ والشاعر يوسف عبد العزيز وآخرون. فما إنْ رأوني حتَّى جُنَّ جنونهم، وأوضح لي القيسي قائلاً: كيف تأتي إلى الرابطة وقد أعلنّا عن تنظيم ندوة لك فيها اليوم بعد ساعتين.. أنت ويوسف عبد العزيز؟ أتريدهم أنْ يأتوا إلى هنا ويأخذوك ببساطة؟ نحن أعلنّا عن الندوة ونشرنا الخبر في الصحف، على سبيل التضامن معك، وليس لتأتي إلى هنا ويُلقى القبض عليك!

وأوضحتُ لهم بأنَّني لم أكن أعلم شيئاً عن الندوة، وبأنَّني جئتُ إلى هنا بالصدفة. فنصحوني بالمغادرة فوراً، ففعلتُ.

وسرتُ على الأقدام، هبوطاً باتِّجاه البلد، ثمَّ سرتُ في البلد متمهِّلاً، حيث كنت أتوقَّف عند واجهات المحلّات متصنّعاً النظر إليها ثمَّ أتلفَّتُ حولي بشكلٍ جهدتُ بأنْ لا يكون ملحوظاً. وظللتُ أمشي حتَّى بلغتُ سرفيس الأشرفيّة على سقف السيل. وبدا لي المكان شبه خالٍ والسيّارات مصطفّة بلا ركّاب؛ فانتظرتُ جانباً وعيني على السيّارة الأولى في الطابور. ومرَّ الوقت بطيئاً حتَّى بدأ الركّاب يصعدون إليها، وعندما أصبح ينقصها راكب واحد صعدتُ إليها. وصعدتْ بنا السيَّارة في طريق المصدار ثمّ انحرفتْ يساراً باتِّجاه الأشرفيّة، ووقفت في الموقف النهائي عند الجهة المقابلة لـ«جامع أبو درويش».

نزلتُ من السيّارة، فرأيت إلى الأمام وفي جهة اليسار.. على بعد حوالي خمسين متراً، شابّاً أسمر طويلاً بدا عليه أنَّه تأهَّب ما إنْ رآني. فشككتُ في الأمر. ورحتُ أتلفّتُ باحثاً عن الشابِّين («ح» و«غ») اللذين من المفروض أنْ ألتقي بهما الساعة السادسة مساءً. وكانت الساعة قد طابقت السادسة بالفعل. ومرَّ وقتٌ بدا لي طويلاً حينما رأيتهما قادمين معاً من الجهة نفسها التي كان يقف فيها الشابّ الأسمر الطويل الذي تأهَّب حين رآني.

وعندما وصلا، صافحتهما وطلبتُ منهما أنْ نذهب إلى الجهة المقابلة لنسير في الشارع الهابط المحاذي لـ«جامع أبو درويش»؛ فقطعنا، وهبطنا، مِنْ هناك، وسمعتُ صوت خطوات الشابّ الأسمر يتردَّد بتتابع حثيث وراءنا. وعندئذٍ، تيقَّنتُ مِنْ أنَّه ثمَّة خطر يحوم حولنا؛ فخطر لي أنْ أقول للشابّين اُهربا باتِّجاه الجهة السفليّة المقابلة؛ لكن، فجأة، مرَّ موكبٌ من السيّارات فحال بيننا وبين الجهة الأخرى. كانت السيّارة الأولى في الموكب مرسيدس بيضاء، وكانت الثانية بك أب تويتا أبيض أيضاً يركبه من الخلف وقوفاً مجموعة من الشُّبّان بدوا كما لو أنَّهم عمّال، وتبعتهما عدّة سيّارات أخرى.

قلتُ لنفسيّ إنَّني يجب أنْ أنتظر إلى أنْ تمرّ هذه السيّارات، ثمّ أقول للشابّين أهربا إلى الأسفل. فقد خشيتُ بأنَّني إذا طلبتُ منهما الهرب قبل ذلك يرتبكان فلا يعرفان إلى أين يهربان. ولكن، فجأة، وجدنا أنفسنا مطوَّقين تماماً مِنْ ركّاب تلك السيّارات الذين نزلوا منها بسرعة، وراحوا يصيحون بنا قائلين: ارفعوا أيديكم.

ثمَّ أخذوا الشابين اللذين كانا معي إلى إحدى السيّارات الخلفيّة، وأخذوني إلى سيّارة المرسيدس الأماميّة، ووضعوني في الكرسي الخلفيّ، وجلس الشاب الأسمر الذي كنت قد ارتبتُ بوقفته إلى يميني بينما جلس آخر إلى يساري، وفي الأمام إلى يمين الشخص الذي يقود السيّارة كان يجلس مروان قطيشات (رئيس قسم مكافحة الشيوعيّة لاحقاً).

وعندئذٍ، قلتُ لنفسي: إنَّني الآن معتقل فقط، ولا علاقة لي بأيّ شيء في الخارج، ولا يجب أنْ يشغل بالي شيء سوى مواجهتي للتحقيق وصمودي.

وكان هذا القرار الذي اتَّخذته بيني وبين نفسي في تلك اللحظة الحرجة مهمّاً جدّاً، كما عرفتُ من تجربتي لاحقاً.

هبطنا باتِّجاه وادي سرور. وسألني الشابّ الذي يجلس على يميني قائلاً: أنت سعود قبيلات؟

قلتُ: نعم.

بعدئذٍ، أخرج باكيت سجائر مِنْ جيبه، وقال لي: أتدخِّن؟

وكنتُ – آنذاك – أُدخِّن، فقلتُ: نعم.

أخرج سيجارة وناولها لي، وأخرج قدَّاحته وأشعل سيجارتي ثمَّ أشعل سيجارة لنفسه. وساد الصمت. وواصلنا الهبوط. وعندما صرنا في وادي سرور، رأيت صديقي ورفيقي (الشهيد لاحقاً) ناهض حتَّر يسير في الشارع هابطاً مِنْ بيت أسرته – الذي كان هناك حينها – باتِّجاه سقف السيل.

وتابعنا السير في شارع سقف السيل، وقبل وصولنا مبنى أمانة عمَّان القديم، انعطفنا باتّجاه اليسار ثمّ باتّجاه اليمين، وعبر شارع السلط صعدنا باتِّجاه العبدليّ، وعندما حاذينا موقف السفريّات الذي كان حينها هناك، رأيت زميلي في الرابطة محمد المشايخ (كان حينها يعمل سكرتيراً في الرابطة) يقف على يمين الشارع بانتظار وسيلة نقلٍ تقلّه.

وفي تلك اللحظة، أمسك الشخص الجالس إلى يميني جهاز لاسلكي كان معه، وضغط كبسة الاتِّصال، وراح يقول: مِنْ صقر واحد إلى صقر اثنين.. الهديّة وصلت.

في نهاية الطريق، استدرنا إلى اليسار، ثمّ إلى اليمين، إلى أنْ بلغنا عمارة المخابرات الزرقاء القديمة الشهيرة، ودخلنا مِنْ بوّابة مخابرات عمّان. وعندئذٍ، رأيت أحد زملاء الجامعة يخرج مِنْ هناك. كان الكثير من طلبة الجامعة يقولون إنَّه يعمل مع المخابرات. وفي تلك اللحظة، قطعتُ الشكّ باليقين.

واصلنا السير في الداخل، إلى أنْ بلغنا مبنى المخابرات الصغير الأقدم، الذي كان مكسواً بطراشة بيضاء خشنة من الخارج. ووقفنا في ساحةٍ تعلوه من الجهة الشماليّة. أنزلوني من السيّارة، وهبطنا عبر درجٍ محاذٍ للساحة إلى المبنى. ومِنْ هناك، صعدنا عبر الأدراج إلى مكاتب التحقيق وساحة التعذيب، وأوقفوني أمام أحد تلك المكاتب، وطلبوا أنْ أعطيهم حزامي وساعتي وربّاط حذائي وما في جيبي. كان في جيبي سبعة قروش ونصف فقط، فاستغربوا ذلك. بل إنَّني، أنا نفسي، لا أزال حتَّى الآن أتساءل: كيف كنتُ سأتدبَّر أموري بهذا المبلغ الضئيل، لو لم يعتقلوني.

بعدئذٍ، بدأتْ حفلة استجوابٍ فظَّة ونحن وقوف. وكان السؤال الملحّ هو: أين كنتَ مختبئاً خلال الأشهر الماضية.

وكان ردِّي: ولا مكان.

فقال شخص سمين باللباس العسكريّ مستنكراً: كيف ولا مكان؟! حتَّى النملة لها بيت تأوي إليه!

قلتُ لهم: عندما جئتم واعتقلتموني، كنتُ أبحث عن بيت لأستأجره، فرأيت الشابين اللذين اعتقلتموهما معي، وعرفت أنَّهما من الجامعة، وكنت أريد أنْ أسألهما عن بيت لأستأجره، فإذا بكم قد جئتم واعتقلتمونا.

سأل أحدهم: طيب. وأين كنت تنام؟

قلت: في ورشة بناء.

قال: أين ورشة البناء هذه؟

قلت: في جبل عمَّان.

قال: ما اسم معلِّم الورشة؟

قلت: لا أعرف.

قال: أين كانت هذه الورشة بالضبط؟

قلت: لا أعرف.

ترجمة هذا الكلام كلّه هي كما فهموها جيّداً: لا أريد أنْ أقول لكم.

قال: هات يديك أشوفهم.

فمددتُ يديَّ، وراح ينظر إليهما مليّاً، وقال: هاي مش إيدين شخص كان يعمل في ورشة بناء.

وبعدئذٍ، بدأت حفلة التعذيب. انهالوا بالخيزرانات على كلّ أنحاء جسدي، وطلبوا منِّي أنْ أتمدَّد على الأرض فرفضت، فأمسكوني ورموني على الأرض، وجاء رأسي بمحاذاة الجدار. وبينما هم يواصلون الضرب جلس أحدهم وكان أشقر الشعر، وأمسك برأسي وراح يخبطه بالجدار وهو يصيح بي قائلاً: إذا كنت حميديّ (أي مِنْ بني حميدة) ورأسك قاسي، فأنا رأسي أقسى.

ثمّ راح يكيل لي سيلاً من الشتائم السوقيّة: ... أمّك، ... أختك.

فقلتُ له: عيب عليك هذا كلام شوارع.

بعدئذٍ، ضمّوا رجليَّ معاً، وراحوا يضربون باطن قدميّ بالخيزرانات. كان الألم فظيعاً، لكنَّني تحاملتُ على نفسي، وامتنعتُ عن إبداء أيّ مظهر مِنْ مظاهر التألّم.

فصاح أحدهم بي قائلاٍ: ولك انتَ ما بتحسّ! ليش ما تصيح.

ولم أقل شيئاً.

لا أعرف كم استمرّت هذه الحفلة عندما سمعت صوتاً يقول لهم: اتركوه.

فأنهضوني على قدميّ، وكان الألم فظيعاً. وعندئذٍ، رأيت سميح البطيخيّ واقفاً، وكان حينها هو رئيس قسم مكافحة الشيوعيّة.

وقال: تعال معي.

وذهبنا إلى مكتب في الجهة المعاكسة. ودخلنا هناك. فجلس هو وراء المكتب وطلب منِّي أنْ أجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ عارٍ أمام المكتب. وراح يتحدَّث طويلاً. وأثار استغرابي أنَّه كان يستخدم مصطلحات الشيوعيين، مثل: الرفاق. والحزب (بنبرة توحي بموقف إيجابيّ).. الخ.

وملخَّص كلامه هو: أنت طالب والمستقبل أمامك، ومِنْ مصلحتك أنْ تتجاوب مع التحقيق الآن بشكل ملائم (لهم بالطبع) ونحن سنكافئك على ذلك. وبعد تخرّجك من الجامعة، تستطيع، إذا أنْ اردتَ، أنْ تشتغل بالسياسة. أمَّا الآن، فأنتَ ستخسر دراستك وتخسر مستقبلك ولن تكسب شيئاً.. الخ.

كان يتحدَّث مدَّة من الزمن، ثمَّ ينظر إليَّ ويسألني: آ. ماذا قلت؟

فأقول: ليس لديّ ما أقوله.

وفي النهاية، وقف وطلب منِّي أنْ أخرج معه إلى ساحة التعذيب. وعندما خرجنا إليها، كان الآخرون ما زالوا ينتظرون هناك. فطلب منهم انْ يواصلوا تعذيبي. فوضعوني على الفرّوجة، وهي عبارة عن كرسيين يوضعان بشكلٍ متوازٍ، ويُطلب ممّن سيوضع عليها أنْ يجلس القرفصاء ويمدّ يديه أمام ركبتيه المنثنيتين فيتمّ تقييدهما بكلبشات مسنَّنة. وبعدئذٍ، توضع عصاً غليظة في الفتحة المتشكِّلة بين انحناءة الركبتين من الداخل وبين اليدين.

بعد ذلك، رفعوا العصا مِنْ طرفيها ورفعوني معها ووضعوا كلّ طرفٍ على أحد الكرسيين. فراح كلّ ثقلي يتركَّز على الكلبشات المسنَّنة التي راحت تؤلم رسغيَّ بشدّة.

وكان سميح البطيخيّ واقفاً عند رأسي، وراح يتابع توجيه السؤال نفسه إليّ: آ. ماذا قلت؟

فأقول: لا شيء.

وكنتُ في البداية أجتهد جدّاً لكي أظلّ رافعاً رأسي. لكن شيئاً فشياً، راح رأسي يثقل ويثقل وعضلات رقبتي ترتخي، وفي النهاية، أصبح رأسي متدلّياً في الأسفل، وأصبح صوت البطيخيّ يأتيني مِنْ بعيد، مع أنَّه كان لا يزال واقفاً في مكانه. كان ذلك كما لو أنَّني كنتُ في قعر بئر وهو يقف في الأعلى عند فتحته الخارجيّة.

وفي النهاية، لا أعرف بعد كم من الوقت.. فالوقت في مثل هذه الحالة لا يُقاس بالمقاييس الطبيعيّة، سمعته يقول لهم: فِكّوه.

فأنهضوني وفكّوني، وأدار ظهره ومشى في الاتِّجاه الآخر، وبعد بضع خطوات، استدار نحوي وقال بطريقة مسرحيّة وبنبرة تحدّي: اِسمع. معك ثلاثة أشهر. وإذا استنكرت واعترفت، فسآتي بنفسي وأبصق في وجهك.

وفهمتُ بأنَّه يريد أنْ يزعزع ثقتي بنفسي ويهزّ معنويّاتي.

ثمَّ مضى، وراح مروان قطيشات يضع سائلاً طبيّاً ما مِنْ قنينة صغيرة بوساطة قطنة صغيرة على الجروح التي كانت منتشرةً على ظهري وجانبيَّ. وفي هذه الأثناء، سمعتُ صوتاً يقول: خلّوا «ح» يروِّح، وحطّوا «غ» في زنزانته.

بعد ذلك، نقلوني إلى زنزانة داخليّة في طابق مكاتب التحقيق نفسه، وأغلقوا عليّ. وبعد قليل، رحتُ أخبط على الباب، فجاء الحارس السمين، الذي كان قد قال لي: حتَّى النملة لها بيت.

فتح الطاقة الموجودة في أعلى باب الزنزانة، وقال: ماذا تريد؟

قلتُ له: أريد أنْ أتعشَّى.

قال: موعد العشاء انتهى.

وأغلق الطاقة. ولكنَّني عدتُ وطرقت الباب، ففتح وصاح بي قائلاً: نام. خلص.

قلتُ: أريد عشاء، فأنا جائع.

وأغلق الطاقة. وطرقتُ مراراً بعد ذلك؛ لكنّه لم يأتِ. وعندئذٍ، مددتُ جسدي على الفراش الذي كانت حشوَته من الليف القاسي، لكنَّني شعرتُ بألم فظيع، وحاولت أنْ أنام على جنبيَّ وعلى بطني. لكنّها كلّها كانت تؤلمني. وعندئذٍ، تذكَّرت أنَّ الرفيق «أبو موسى» قال لي ذات مرَّة: الشيوعيّ يعضّ على جرحه ويصمت.

فقلتُ لنفسي: سأنام على أكثر جزء يؤلمني مِنْ جسمي.

وكان أكثر جزءٍ يؤلمني هو ظهري، فوضعته على الفراش القاسي وضغطتُ عليه. كان الألم لا يُطاق. لكنَّني قلتُ لنفسي: يجب أنْ أعضّ على جرحي وأصمت.

ولا أدري كم مرّ من الوقت وأنا على هذا الحال الصعب. وشيئاً فشيئاً، راحت جراحي تتخدَّر، ومِنْ دون أنْ أفطن غططتُ في نومٍ عميق.

أمَّا سميح البطيخيّ، فلم أره بعد ذلك.. منذ ذلك اليوم وحتَّى هذا اليوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1تناول هذه الانتفاضة بشكل جيّد سامر خير في كتابه عن الحركة الطلّابيّة الأردنيّة. وأنوي أنْ أتناولها، في وقتٍ آخر، كواحد مِنْ مواضيع ذكرياتي. فذكريات هذه الانتفاضة غنيّة جدّاً وتشتمل على الكثير من الحكايات التي تعبِّر عن معانٍ جميلة ومهمّة.

2تستحقّ فترة الاختفاء، وقد دامتْ ثلاثة أشهر تقريباً، كتابة موضوعٍ مستقلٍّ عنها. وهذا ما آمل أنْ أتمكَّن من القيام به مستقبلاً.

3هو عوني موسى فاخر تيف، وكان عضواً بارزاً في قيادة الحزب الشيوعيّ الأردنيّ، ومعروفاً في الحزب باسم «أبو موسى». وهو مِنْ عائلة وطنيّة عريقة؛ فشقيقة الأصغر هو رفيقنا الدكتور أحمد فاخر، وعمَّه هو أيوب فاخر الذي كان مِنْ أبرز رجالات الحركة الوطنيّة الأردنيّة في عشرينيّات القرن الماضي، إلى جانب الشيخ عودة أبو تايه وحسين الطراونة وعرار والشيخ سلطان العدوان والشيخ ماجد العدوان وآخرين.

وقد تميَّز الرفيق «أبو موسى»، في الحزب، بحيويّته ومثابرته وتفرّغه التامّ للعمل النضاليّ، وكان راعياً حدوباً لجيل الشباب في الحزب، في سبعينيّات القرن الماضي، وخصوصاً أعضاء «اتّحاد الشباب الديمقراطيّ الأردنيّ» (وكان بعضهم فقط أعضاء في الحزب)، ومنهم: الرفاق: عصام التلّ، وأحمد جرادات، والشهيد ناهض حتَّر، والأديب الراحل عدي مدانات، وعطيوي المجالي، وهاشم غرايبة، وسهير التلّ، وحنان هلسا، وعقاب عقيل، وهزَّاع الفقهاء وآخرون.

وأنا شخصيّاً ممَّن يشعرون بالامتنان للرفيق أبي موسى، ويذكرونه بكلّ خير. وهو يستحقّ أنْ ينوَّه به أكثر مِنْ هذا بكثير.

4كان في حرب العام 1967 ضابطاً في الجيش، ثمَّ ترك الخدمة العسكريّة وأصبح لاحقاً أمين عامّ اتّحاد نقابات العمّال في الأردن.

5عرفتُ، مؤخَّراً، من الرفيق خالد برقان، أنَّه عندما تأخَّرتْ أخبر الحزب كما اتِّفقنا بأنَّني قد اُعتُقِلتُ على الأرجح، فقرَّر الحزب نقله إلى مكانٍ آخر، وهذا إجراء طبيعيّ في مثل هذه الحالة. لكنَّه رفض ذلك رفضاً قاطعاً، وقال لهم إنَّه متأكِّد مِنْ أنَّني لن أفشي سرَّ المكان الذي كنّا نختبئ فيه معاً مهما حدث معي، فظلّ مقيماً في البيت نفسه.

وقد أثَّر كلامه هذا في نفسي تأثيراً عميقاً.