14 تموز... ثورة أم أنقلاب


فاضل عباس البدراوي
2019 / 7 / 12 - 15:46     

يختلف باحثون والكثير من المؤرخين والسياسيين، بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسية، عن توصيف الحدث الذي جرى يوم الرابعة عشر من تموز من عام 1958، منهم من يصفه بأنه انقلاب عسكري، أطاح بنظام برلماني ديمقراطي دستوري، وفتح الباب لشهية العسكر، على انقلابات متتالية. وآخرون يعدّونه ثورة شعبية، أطاحت بنظام رجعي استبدادي شبه اقطاعي. كل منهم له مسوّغاته التي يستنبطها من خلفياته الفكرية والسياسية، وانحداراته الطبقية.
لو ألقينا نظرة تاريخية مجردة، عن أوضاع العراق السياسية وألأقتصادية، قبل ذلك الحدث بكل تجرد، واستنادا للوثائق التاريخية المؤرشفة، وعبر مذكرات دونها عدد من سياسي ذلك العهد، من المعارضين والموالين، وعن شخوص مايزالون على قيد الحياة، عاشوا تلك ألأوضاع، منهم كاتب هذه السطور، نخرج بروىء، نبتعد فيها عن المنطلقات الشخصية وألأفكار العقائدية، بأن لذلك العهد حسناته ومساوئه، علينا ان نضع الرأيان في ميزان عدل، تحتمها علينا ألأمانة التاريخية.
في بدايات تأسيس الدولة العراقية، سُن دستور سمي بالقانون ألأساسي، تضمن أبوابا فيها الكثير من الحقوق للمواطنين وتحديد لواجباتهم تجاه الدولة، كما أقر فيه مبدأ التعددية السياسية. بمرور الوقت أخذت السلطات الحاكمة تقضم الكثير من تلك الحقوق، وتتجاوز عمليا على نصوصه. لا أريد في هذه ألأسطر القليلة أن أسترسل في التجاوزات التي حدثت، لكن أتناول فقط، كم عدد ألأعوام التي أعلنت فيها ألأحكام العرفية، بحيث تعطل فيها القانون ألأساسي عمليا، وعطلت خلالها الحياة الحزبية وأجريت انتخابات نيابية تحت حراب ألأحكام العرفية، كان آخرها عام 1952 بعد الانتفاضة الشعبية التي حدثت آنذاك, وكم من المرات عطلت فيها صحف المعارضة الوطنية عن الصدور؟، وكم من رؤساء تحرير تلك الصحف قدموا الى المحاكم منها العسكرية، لمجرد انتقاداتهم للمسلك الاديمقراطي للسلطة، او المطالبة بتحرير البلاد من قيود المعاهدات والاحلاف العسكرية التي تنتقص من سيادة البلاد؟.
أضافة لما تقدم كم كانت عدد الوفيات وخصوصا في صفوف ألأطفال، لأنعدام الرعاية الصحية وقلّة عدد المستشفيات والمراكز الصحية وشحة ألأدوية، بألأخص في القرى وألأرياف، مما أثر على النمو السكاني للبلاد نسبة ألى ألأعوام التي تلتها؟ كم كان عدد ألأميين من سكان العراق في عهد ذلك النظام؟ بسبب افتقار القرى والارياف للمدارس، أو بسبب العوَز الذي كان يعانيه المواطن، بحيث يصعب عليه تلبية متطلبات الدراسة لأولاده، كيف كانت الحالة المعيشية لمئات الالاف من الفلاحين تحت ظل ألأقطاع؟ كم كان عدد العاطلين أو شبه العاطلين عن العمل؟ كم كان عدد المواطنين الذين كانوا يفتقرون الى سكن يليق بهم كبشر يعيشون على تربة هذا الوطن؟. هل كان البلد ذات سيادة كاملة على اراضيها؟ ما هي ألأسباب الحقيقية لربط العراق بالأحلاف العسكرية وهل كانت تلك ألأحلاف لمصلحة العراق؟.
ان ألأجابة عن كل هذه ألأسئلة نجدها مؤرشفة في أرشيف الدولة العراقية، منها في وزارات الصحة والتربية والصناعة والاسكان وغيرها، ممكن للباحث الموضوعي الرجوع اليها.
حتى لا نبخس حق ذلك العهد عن بعض ألأنجازات التي قدمها للبلد، منها تأسيس جيش وشرطة وطنيتان، بناء عدد من السدود بألأخص سد الثرثار التي انقذ بغداد والمدن المتشاطئة عل نهر دجلة من الغرق، التي كانت تتعرض لها في موسم الفيضانات، كذلك انشاء سد دوكان لتوليد الطاقة الكهربائية، تبليط الطرق التي تربط عدد من المحافظات التي كانت تسمى ألوية آنذاك بالعاصمة، البدء ببناء جامعة بغداد، اضافة لمنح فسحة من الحريات العامة، كحرية التنظيم الحزبي والنقابي لفترات متفاوتة ثم يتم ألألتفاف عليها، بالاخص عندما كان نوري السعيد يشكل الوزارة.
كان شهر آب من عام 1954 حدا فاصلا بين فصل جديد في السياسة العراقية، وفصل آخر يختلف عنه في جوانب عديدة. حينما كلف الملك نوري السعيد بتشكيل وزارة جديدة، خلفا لوزارة أرشد العمري التي أجرت ألأنتخابات وفازت فيها قوى المعارضة الوطنية بـ 11 مقعدا بالرغم من كل عمليات التزوير والمضايقات التي رافقت تلك ألأنتخابات، أشترط السعيد على الملك حل المجلس المنتخب الجديد، الذي لم يمض على انتخابه أكثر من شهرين، ولم يعقد سوى جلسة واحدة فقط، وافق الملك على طلبه، تم حل المجلس وأجريت انتخابات صورية قاطعتها القوى الوطنية، فاز فيها 90 نائبا بالتزكية، جلهم من ألأقطاعيين، أما الباقون وعددهم 46 مقعدا فاز فيها أعوان السعيد بدون منافسة حقيقية، ثم أصدرت حكومته قرارا بحل ألأحزاب السياسية وما تبقى من نقابات عمالية لم تكن تتجاوز أصابع اليد، وأصدرت الحكومة قانونا جديدا للصحافة، تم بموجبه أغلاق كافة الصحف، ومنحت امتيازا لأربعة صحف موالية لها فقط. كان الغرض الاساس من أتخاذ تلك ألأجراءات، هو التمهيد لعقد حلف عسكري يضم، بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة كمراقب، أضافة للعراق وتركيا وباكستان وايران، والذي سمي بعد توقيعه بحلف بغداد، واتخذت بغداد مقرا لذلك الحلف. ان انخراط العراق في ذلك الحلف ليس فقط أخلّ بسيادة العراق انما كانت خطوة خطيرة، فلو كان قد حصل أي أشباك بين المعسكرين الشرقي والغربي، لكانت الساحة العراقية مسرحها، سيما ان الحرب الباردة كانت على أوجها.
لقد أغلقت حكومة السعيد في تلك الفترة، كل ألأبواب أمام أي اصلاح يرتجى منه، عن طريق تغيير سلمي حقيقي على البنية السياسية وألأقتصادية للبلاد، مما ولّد شعور عند القوى الوطنية بمختلف أجنحتها، اليسارية والديمقراطية الليبرالية والقومية، وسائر ابناء الشعب، بأن ليس هناك أمل في استعادة العراق لحريته وسيادته الوطنية سوى ألأطاحة بذلك النظام، الذي قمع الشعب وملأ السجون والمعتقلات بمئات المواطنين، وفصل المئات من ألأكاديميين والموظفين من وظائفهم والطلبة من كلياتهم ومدارسهم، بمجرد شك في ولائهم للنظام.
تجمعت قوى المعارضة الوطنية، المكونة من أحزاب، الشيوعي والوطني الديمقراطي والبعث والاستقلال في جبهة موحدة، سميت بجبهة ألأتحاد الوطني، ذلك في شهر آذار من عام 1957، كان ميثاق الجبهة يتضمن بنودا تنص على تغيير حقيقي وجذري على بنية النظام، وتحقيق المطالب االتي كانت تطالب بها القوى الوطنية وجماهير واسعة من ابناء الشعب العراقي. من جهة ثانية كان هناك تنظيم عسكري معارض للنظام، أما متى تأسس ذلك التنظيم فهناك تباينات في وجهات النظر عن تاريخ تأسيس ذلك التنظيم، لكن بعد انبثاق جبهة ألأتحاد الوطني، تجمعت عدة حلقات من التنظيمات العسكرية المعارضة، في تنظيم واحد أطلق عليه حركة الضباط ألأحرار، واختيرالزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئيسا لها، كونه أكبر ألأعضاء رتبة. في الحقيقة لم يكن معظم أفراد ذلك التنظيم خصوصا أصحاب الرتب الكبيرة منهم، منتمين لأي حزب سياسي، لكنه كان لكل منهم وجهات نظره الخاصة، في ألأمور السياسية العامة، فمثلا كان الزعيم قاسم وطني عراقي الهوى مع مجموعة أخرى من الضباط بينما كان عبد السلام عارف مع مجموعة اخرى، ذو توجه قومي، تتغلب قوميتهم على وطنيتهم العراقية، وطفت هذه التباينات على السطح بعد قيام الثورة. في تلك الفترة بدأت تجري أتصالات بين حركة الضباط ألأحرار وجبهة ألأتحاد الوطني، ثم تطور الى التنسيق بينهما.
صبيحة يوم الرابعة عشر من تموز من عام 1958، أستيقظ المواطنون على صوت المذياع، وهو يبث من اذاعة بغداد، بيانات يعلن فيها قيام الجمهورية والقضاء على النظام الملكي، ويدعو المواطنين الى النزول الى الشوارع لأسناد ثورتهم المجيدة، ثم أخذت البياانات تتالى، من القائد العام للقوات المسلحة تعلن فيها تشكيل مجلس للسيادة وتشكيل حكومة، كان معظ أعضائها من الشخصيات الوطنية المعارضة، ومن ممثلي أحزاب جبهة ألأتحاد الوطني، بأستثناء الحزب الشيوعي، ربما كان استثناء اشراك الشيوعي تجنبا لأستفزاز القوى ألأستعمارية، لكن تم اشراك الدكتور ابراهيم كبة كوزير للأقتصاد وهوشخصية يسارية قريبة من الشيوعيين.
انطلقت عشرات الالاف من الجماهير الشعبية الى الشوارع، حال سماعها للنداءت التي تطالبها بأسناد الثورة، من أقصى الشمال لأقصى الجنوب، وهي تهتف للثورة، مستجيبة لنداء قادتها، بعد أن أدركت بحسها، ومن خلال البيانات التي تصدر من قادة الحركة، وشخوص الوزراء المعينين، الذين كان معظمهم معروفين من لدن جماهير الشعب، بأنها حركة عسكرية وطنية لا تشبه ألأنقلابات العسكرية التي كانت تحدث في البلدان ألأخرى.
في اليوم الثاني من قيام الثورة، توجه المواطنون الى أعمالهم والموظفين ألى دوائرهم، ولم يحدث ما يعكر صفو الأمن العام، ولم تحدث أية تجاوزات على الممتلكات العامة والخاصة، بأستثناء مهاجمة دار نوري السعيد، أما ما حدث بعد ذلك من قتل العائلة المالكة فلا أريد التحدث عنه لأنه كتب الكثير عن هذا الموضوع، أما بخصوص قتل وسحل جثة نوري السعيد، فلم يتم بتوجيه من أحد وانما جرى ذلك على يد مجموعة من المواطنين الناقمين على نوري السعيد وسياساته. طيلة الشهر ألأول من قيام الثورة لم تسجل مراكز الشرطة أية جريمة جنائية مطلقا، ان دل هذا على شيء فيدل كم كان الشعب العراقي، آنذاك يتمتع بوعي فطري، لو قارنّا ذلك بما حدث من أعمال سلب ونهب وتخريب للمتلكات العامة، بعد سقوط النظام الدكتاتوري في 9 نيسان من عام 2003 للاحظنا اختلافا واضحا في الوعي الشعبي بين الفترتين.
للأجابة على السؤال المطروح أعلاه، هل كان الحدث انقلابا عسكريا أم ثورة؟
بما ان القائمين بالحركة العسكرية التي أطاحت بالنظام الملكي، واعلنت النظام الجمهوري، كانوا من ضباط الجيش، لذلك يمكننا أن نطلق عليها صفة الأنقلاب، لكن بعد أذاعة البيان ألأول، ومناشدة قادة ألأنقلاب للشعب بمساندة الثورة، حسب ديباجة البيانات التي كانت تطلق من خلال ألأذاعة، وألأستجابة السريعة من لدن الجماهير لتلك النداءات بالنزول الى الشارع، واحتضانها للحركة، والتحرك السريع لقوى جبهة الاتحاد الوطني لتحشيد الجماهيرلمساندتها حيث انها كانت على علم بقيام الحركة مسبقا، بذلك أرعب هذا التحرك الجماهيري بقيادة قوى الجبهة، قوى الردّة وشلت حركتها، وأمكن عند ذاك من أحباط أي تحرك مضاد، فلو لم يحدث هذا ألأمر ربما لم يكن النجاح حليف الحركة. على ما تقدم تحول ألأنقلاب الى ثورة شعبية وتحول جذري على بنية النظام السياسي في العراق.

ينشر في جريدة التضامن رجاءا