مجتمع الذئاب


نضال الصالح
2019 / 7 / 3 - 12:01     

مجتمع الذئاب

عرفته منذ أعوام طوال. كان في زمن الاشتراكية موظفا في وزارة الزراعة ومسؤولا عن زراعة العنب وصنع النبيذ في منطقة غير بعيدة عن عاصمة سلوفاكيا. بعد سقوط النظام الاشتراكي وبدء خصخصة المصانع والمؤسسات الوطنية، أحيل إليه مركزا صغيرا للعلاج الطبيعي والذي يقع في غابة قرب المدينة التي كان يعمل فيها. المركز اقامته الحكومة الاشتراكية لعلاج كبيري السن والمتقاعدين مجانا.
اخذ صديقي سلفة من البنك وقام بترميم المركز وإدخال تحسينات عليه وشراء آلات جديدة. كنت أزوره في المركز بين الحين والأخر وكنت الاحظ علامات التعب على وجهه، وكان يحدثني عن ندرة العمالة الأمينة ويشكوا من السرقات التي كان يقوم بها بعض الموظفين. كان يزورني في بيتي بين الحين والأخر ليشرب القهوة العربية بالهال، وكان يقول لي أن القهوة العربية تزيل عن كاهله التعب وتغسل همومه ومشاكله التي باتت تثقل كاهله.
مر على استلامه المركز أكثر من عشرين عاما حين قرر بيعه، فلم يعد يملك القوة والجلد على الاستمرار في عمله بسبب المشاكل والتعقيدات التي كانت تواجهه من قبل مؤسسة التأمين من جهة وعدم إمكانية الحصول عل عمالة مختصة وامينة من جهة أخرى. فلقد كانت السرقات تزداد ولم تحل المسألة بتغيير الموظفين، فالموظفون الجدد قاموا بالسرقة كالذين سبقوهم وبحنكة وذكاء أكثر من الذين سبقوهم. حاولت ان أقنعه بعدم البيع ولكنه كان مصمما، خاصة وان شركة معروفة عرضت عليه شراء المركز بسعر مغري. وهكذا حدث وعقدت اتفاقية البيع والشراء وشعر بأن حملا ثقيلا قد أزيل عن كاهله. ولكن شعوره هذا لم يدم طويلا، حيث أن المشتري لم يدفع الثمن المتفق عليه واكتشف أن عملية الشراء كانت خدعة وأن صاحب الشركة الحقيقي هو أحد كبار المسؤولين.
رفع على الشركة دعوى حقوقية امام المحكمة وعين محاميا وصفه بعض الأصدقاء بأنه جيد وجريء. مرت الأيام وامتص المحامي أخر فلس في جيب صديقي ولم يأت باي نتيجة وشعر صديقي أنه قد وقع في مصيدة عصابة يرأسها مسؤول ويحيط به عدد من المسؤولين ومن بينهم محاميه. باع صديقي سيارته وكل ثمين يملكه. تركته زوجته وتركت ابنهما معه وتزوجت غيره ثم طلقته وتزوجت غيره أكثر مالا وأعلى مركزا.
بدأت زيارات صديقي لي تقل، فلم تكن لديه سيارة وأخذ يستعمل الحافلة في تنقله وأنا أسكن في قرية خارج العاصمة ولم تكن صحتي تساعدني على زيارته. ولكنه لم ينقطع عن الاتصال بي هاتفيا وكنت أشعر أنه في ورطة مالية لم أعرف حدودها وحالة نفسية مضطربة شعرت أنها تأكله حيا. وفجأة انقطع عن زيارتي وكان يهاتفني بين الحين والآخر ليعتذر عن عدم زيارتي وكنت أشعر أن الأسباب التي كان يطرحها واهية ومختلقة. ثم انقطع عن مهاتفتي وكنت حين أهاتفه اسمع صوتا مسجلا بأن الهاتف المطلوب لا يعمل.
طالت مدة غيابة وتجاوزت الستة أشهر وفي يوم هاتفني وسألني إن كان يستطيع زيارتي، فرحبت به. عندما فتحت الباب وقابلته، كدت ألا أعرفه، فلقد كان شاحب الوجه كالمومياء. رحبت به وأدخلته غرفة الجلوس فطلب مني أن أقدم له القهوة العربية، ففعلت. ارتشف قليلا من القهوة وقال، كنت محتاجا لها. داعبته قائلا، القهوة كانت في انتظارك ولكنك لم تأت فلا أدري ما السبب، أهي مقاطعة أم أنك لا تملك يورو أجرة الباص. وضع فنجان القهوة على الصينية واصفر وجهه وأخذت الدموع تنهمر من عيونه فغطى وجهه بيديه وأخذ يشهق. حاولت تهدئته واعتذرت عن قولي فلقد كان مزاحا. ولكنه وبكلمات متقطعة ممزوجة بالشهيق أخبرني أنه لم يزورني لأنه فعلا لا يملك يورو، أجرة الباص وانه اضطر ليستلف يورو من ابنه حتى يستطيع زيارتي.
صعقت من قوله وبقيت صامتا وطلبت منه احتساء القهوة واننا سنتحدث بعد ذلك. عندما كنا نتحدث، لاحظت ورما ضخما في فخده يكاد يمزق سروالة وعندما طلبت الكشف عنه وجدت ورما دهنيا بحجم كرة القدم. وعندما سألته عن رأي الأطباء، أخبرني بأنه في حاجة لعملية جراحية لإزالة الورم ولكن مؤسسة التأمين رفضت رفضا قاطعا تمويل العملية لأنه لم يقم منذ أشهر بتسديد أقساط التأمين، ورفض الجراح إجراء العملية بدون تعهد التأمين بدفع الأتعاب بما فيها ثمن الجراحة والإقامة في المستشفى.
لم أصدق ما أسمع، فلقد تعودنا أيام الاشتراكية على مجانية كل ما يتعلق بالعلاج والجراحة والإقامة في المستشفى إلى ثمن الدواء وكل ما يلزم للعلاج. وعدته أن أحاول الاتصال بأصدقائي الأطباء لعلنا نجد حلا لمشكلته. ثم قام يودعني فطلبت منه الانتظار لحظة. ذهبت إلى غرفة النوم وبحثت في محفظتي فوجدت فيها مئة يورو يتيمة فأخذتها وعند توديعه وضعتها في يده. حاول التملص من أخذها ولكنني ضغطت على يده، فشكرني والدمع ينهمر من عينيه ورحل. وقفت طويلا سائحا في أفكاري وتساءلت في أي عالم نعيش، وانتهيت إلى حقيقة مرة، أننا نعيش في عالم الذئاب المتوحشة.