موضوعات حول الدولة الوطنية وشكل بنائها


لطفي حاتم
2019 / 6 / 30 - 15:21     


-- يتميز مفهوم الدولة في الفكر السياسي المعاصر بسمات أساسية يمكن تحديدها ب- --
أولا-- شكل بنائها فدرالي – موحد.
ثانياً - طبيعة نظامها السياسي ملكي – جمهوري.
ثالثاً- شكل الحكم فيها ديمقراطي أو استبدادي.
-- أحاول في هذا البحث المكثف التعرض لشكل الدولة الفدرالي المرتكز على تعدد القوميات المتعاقدة في إطار الدولة الاتحادية وبهذا المنحى يجري التركيز على - شكل الدولة- بسبب تمتعه بأهمية سياسية في الظروف التاريخية المعاصرة بسبب تعدد القوميات في الدولة الاتحادية والخشية من تفكيكها في الطور المعاصر من العولمة الرأسمالية عبر توزيعها الى دويلات قومية محدودة التأثير والمساهمة في بناء تشكيلاتها الاجتماعية فضلا عن محدودية دورها في العلاقات الدولية.
-- بهذا المسار يتمتع حق تقرير المصير بأهمية بالغة في الفكر السياسي المعاصر ويشكل البناء الفدرالي أحد أهم الاشكال السياسية الضامنة لحق تقرير المصير في بناء الدول متعددة القوميات استناداً لكونه -البناء الفدرالي - الشكل الملائم لحفظ توازن المصالح القومية في إطار بناء الدولة الفدرالي.
-- استنادا الى تلك الرؤى احاول مناقشة هذه الموضوعة بسبب أهميتها التاريخية في الطور المعاصر من الرأسمالية المعولمة.
-- استناداً الى ذلك تواجهنا حزمة من الأسئلة أهمها-- ما هو شكل بناء الدولة الأمثل في الطور المعاصر من العولمة الرأسمالية؟ وهل يكمن ذلك بالانفصال وإقامة دول قومية جديدة؟ ام أن البناء الفدرالي قادر على توازن مصالح القوميات المنضوية في إطار الدولة الفدرالية.؟
لغرض فحص هذه الاسئلة الهامة أحاول دراستها عبر محورين رئيسين --
المحور الأول – الرأسمالية المعولمة وحق تقرير المصير.
المحور الثاني –توازن المصالح القومية وبناء شكل الدولة الفدرالي
المحور الأول – الرأسمالية المعولمة وتقرير المصير
يتمتع حق تقرير المصير بأهمية سياسية وعملية في الفكر السياسي المتابع لنشوء الدول وشكل بنائها فضلا عن طبيعة العلاقات التعاقدية بين القوميات المتعايشة في الدول الفدرالية.
– بهذا السياق شهد العالم انماطاً متعددة من بناء الدول منها الدول الموحدة المرتكزة على قومية واحدة مهيمنة في الحياة السياسية والاجتماعية ومنها الدول الفدرالية التي تتوازن في بناء مؤسساتها الثلاث المصالح الأساسية للأطراف القومية المتعاقدة، هذا إضافة الى تواجد اشكال أخرى للتعاقدات بين القوميات منها الدول الكونفدرالية الذي تشترك في إنشائها عدة دول ذات سيادة وطنية مستقلة.
-- توازن المصالح القومية في كثير من دول العالم على أساس هذه الاشكال التعاقدية تعرض للتجريف بسبب ميول الرأسمالية المعولمة التي أفرزت مخاطر جدية على حق تقرير المصير وتعرض بناء الدول الفدرالي الى التفكك والتهميش فبالوقت الذي أصبحت الفدرالية والكونفدرالية أشكالاً ضرورية لتطور الموازنات القومية تعمل الرأسمالية المعولمة بسبب بنيتها التخريبية المتسمة على تفكيك وتقسيم الدول الفدرالية. لهذا بات ضرورياً اغناء موضوعة تقرير المصير بما يحفظ صيانة الدول الفدرالية والموحدة من التفتيت والتفكك.
--انطلاقا من تلك الرؤى المنهجية نعمد الى دراسة حق تقرير المصير وآثاره على قضيتين مترابطتين أولاهما أهمية تشكيل الدول الفدرالية القادرة على تطوير خيارها الاجتماعي الديمقراطي. وثانيتهما مخاطر تفكيك الدول الاتحادية التي تحملها العولمة الرأسمالية وسبل مناهضتها.
التطور التاريخي لحق تقرير المصير
-- من المعروف ان بناء الدول الفدرالية ارتبط بطبيعة النظم السياسية للدول وشكل نظامها السياسي ديمقراطي—استبدادي وتبعاً لذلك اندلع صراع فكري-- سياسي بين الرأسمالية الامريكية وبين الاتحاد السوفيتي المتشكل من العديد من القوميات والمرتكز على المساواة القومية في الدولة السوفيتية.
-- الصراع الفكري العالمي لحق تقرير المصير أفرز اتجاهين فكريين -- سياسيين أحدهم تمثل بالفكر السياسي الرأسمالي المرتكز على المنافسة الرأسمالية والهادف الى بناء الدول الجديدة بهدف تشديد الهيمنة الرأسمالية على الدول الوطنية الناهضة. وثانيهم اعتمد الفكر الاشتراكي الضامن لحق تقرير المصير الهادف الى بناء الدول الوطنية المستقلة بعيدا عن الوصاية الخارجية.
-- حق تقرير المصير في الفكر الاشتراكي ارتكز على تشجيع نشوء دول قومية ومباركة اتحادها الفدرالي المستند على توازن المصالح القومية وذلك بالضد من الشرعية الرأسمالية المرتكزة على سيادة الطبقة البرجوازية وهيمنتها السياسية.
-- اثبت الشكل الفدرالي لبناء الدول الوطنية متانته السياسية – الاجتماعية لأسباب كثيرة أهمها توازن المصالح القومية السياسية -الاجتماعية فضلا عن توازن المصالح الطبقية في البناء الاشتراكي وما أنتجه ذلك من تطوير قدرة البناء الفدرالي على مناهضة التحديات الخارجية الامر الذي أكده الاتحاد الفدرالي السوفيتي الذي شكل ضمانة سياسية لكفاح قومياته المشترك ضد الغزو والعدوان.
-- أفضت التغيرات الدولية بعد انهيار الدول الاشتراكية الى تفكك بعض الدول الفدرالية الاشتراكية في مقدمتها الاتحاد السوفيتي والاتحاد اليوغسلافي فضلا عن انقسام الدولة الجيكوسلفاكيا الى جمهوريتي الشيك والسلوفاك.
-- انطلاقاً من ذلك التفكك يمكن القول ان الانقسام الحاصل في فدرالية بعض الدول الاتحادية أنتج ظواهر جديدة في العلاقات الدولية منها (أ) نشوء دول وطنية جديدة بعد انشطار الدول الاتحادية. (ب) استبدال خيارها الاشتراكي بالتطور الرأسمالي وما أنتجه ذلك من نزاعات وطنية ضد الهيمنة الرأسمالية.
-- انهيار النظم الاشتراكية أفضى الى نزاعات بين الدول الجديدة أتاحت الفرصة أمام الدول الرأسمالية الكبرى للتدخل في شؤنها الوطنية ونزاعاتها الداخلية.
-- استندت تغيرت مضامين الاتحاد الفدرالي في النظم الاشتراكية على سيادة وتوازن المصالح القومية والطبقية بينما تحولت في الرأسمالية المعولمة الى تناقضات طبقية في الداخل الوطني ومحاولات الإلحاق والتبعية للخارج الرأسمالي.
--تلخيصاً يمكن القول ان تغير العلاقات الدولية فرضت نمطا جديدا من المفاهيم والمعالجات الفكرية –السياسية احتلت فيها الوطنية الديمقراطية كأيديولوجية مناهضة للتبعية والتهميش مكانا أساسياً في الكفاح الديمقراطي لكونها شكلت السياج الفكري الحافظ للدولة الوطنية من الهيمنة الخارجية.
المحور الثاني –شكل الدولة الوطنية وتوازن المصالح القومية
-- تتميز العلاقات الدولية الجديدة بسيادة علاقات الإنتاج الرأسمالي المرتكز على تفاوت تطور مستويات العولمة الرأسمالية الثلاث الدول الرأسمالية المعولمة والدول الرأسمالية المتطورة ودول العالم الثالث.
-- تفتح الرأسمالية المعولمة بسبب ميولها التخريبية طرقاً لبناء تحالفات وطنية وأخرى دولية تنطلق من رؤى سياسية مشتركة ترتكز على أهمية صيانة الدولة الوطنية من التبعية والإلحاق.
ان الكفاح الوطني - الديمقراطي الهادف الى إعادة بناء شكل الدولة الفدرالي يستمد فعاليته من سيادة العلاقات الرأسمالية وما حملته من تغيرات فكرية - سياسية على الصعيدين الدولي -- الوطني يمكن ايراها بالموضوعات التالية --
-- تسعى الرأسمالية المعولمة الى الحاق الدول الوطنية باحتكاراتها الدولية الكبرى على أساس التبعية والتهميش بعكس التوجهات الرأسمالية الكولونيالية السابقة المتسمة بحرية المنافسة والتي مكنت الرأسمال الأمريكي من الانتشار في الدول الوطنية الخاضعة للكولونيالية الاوربية.
-- بهذا المنحى يشهد الفكر السياسي في الظروف التاريخية المعاصرة سيادة استراتيجيتين دوليتين إزاء الدول الوطنية تتمثل الأولى منها بسعي الرأسمالية المعولة الى الالحاق والتبعية وتهدف الثانية الى بناء الدول الوطنية على قاعدة الاستقلال والسيادة الوطنية.
ان سعي الرأسمالية المعولمة الى تهميش سيادة الدول الوطنية يفضي الى --
1 – انهيار مبدأ السيادة الوطنية للدول الملحقة بالتكتلات الرأسمالية الدولية.
2 –التبعية والالحاق يفضيان الى تفتيت التشكيلات الاجتماعية وتفتيت قواها الطبقية.
3- عملية الإلحاق والتهميش تساهم في سيادة الطبقات الهامشية على السلطة السياسية وسيادة الأنظمة الاستبدادية.
استنادا الى ذلك نشير الى ان مضمون حق تقرير المصير وتفكك الدول الاتحادية الذي تدعوا له الرأسمالية المعولمة يعني الالحاق والتبعية وما ينتج عنه من نشوء نظم سياسية استبدادية ناهيك عن تهميش الطبقات الاجتماعية الفاعلة في التشكيلة البلاد الوطنية.
ان مواجه الأثار التدميرية للعولمة الرأسمالية على الدول الوطنية يتطلب الكفاح الوطني- الديمقراطي بمسارات يمكن حصرها بموضوعات فكرية -سياسية ترتكز على –
أولاً – إقامة التحالفات الوطنية على أساس صيانة الدولة الوطنية وبناء شكل نظامها الفدرالي المرتكز على الوطنية الديمقراطية.
ثانياً – إقامة التحالفات الوطنية بين الطبقات الاجتماعية الفاعلة في التشكيلة الاجتماعية الوطنية لغرض مكافحة التهميش والتبعية المستند الى سيادة الأنظمة الديمقراطية.
ثالثاً -- رفض تقرير المصير الذي تدعوا له الرأسمالية المعولمة المرتكز على تفتيت الدول الفدرالية والهيمنة على مسار تطور الدول الوطنية الجديدة والحاقها بالتكتلات الدولية.
رابعاً – تفضي التبعية والهيمنة التي تشترطها العولمة الرأسمالية الى تعثر تطور الدول الوطنية وتنميتها المستقلة وما ينتجه ذلك من تفتيت تشكيلتها الاجتماعية وسيادة طبقاتها الفرعية.
خامساً –تهدف الرأسمالية المعولمة الى تمكين الطبقات والشرائح الثانوية – البرجوازية الكمبورادورية والشرائح المالية الطفلية - من قيادة الدولة وترسيخ سياسة الإلحاق بالتكتلات الكسموبولوتية المعولمة.
-- تتطور مقاومة التبعية والتهميش عند قيام التحالفات بين الدول الوطنية الراغبة في عدم الخضوع لسياسة الاحتكارات الدولية والساعية الى بناء علاقات وطنية -- دولية على قاعدة المساواة سيادتها الوطنية.
الآراء والأفكار التي جرى تناولها في البحث المكثف تنطلق من عاملين دوليين أولهما وحدانية التطور الرأسمالي وثانيهما غياب التجربة الاشتراكية وما يشترطه ذلك من ضرورة الاعتماد على التحالفات الوطنية -- الدولية المناهضة للعولمة الرأسمالية.
استنادا الى بنية البحث التحليلية ورؤاه الفكرية - السياسية نورد الاستنتاجات التالية –
أولاً—تسعى الرأسمالية المعولمة انطلاقا من شروط تطور بنيتها الدولية الى الحاق الدول الوطنية بتكتلاتها الاحتكارية وتهميش سيادتها الوطنية.
ثانيا – تشكل الدول الفدرالية المستندة الى وطنية نظامها الديمقراطي وتوازن مصالح بنيتها القومية السياج الوطني القادر على مواجهة ميول الهيمنة والتبعية والتطريف.
ثالثا—تبارك الرأسمالية المعولمة الانفصال وتخريب الدول الفدرالية بهدف تشكيل دول قومية جديدة تسعى الى الحاقها بالتكتلات الدولية.
رابعاً -- تشكل الطبقات الفرعية -الكمبورادورية والرأسمالية الطفيلية وشرائح الرأسمالية الربوية -- المتشحة بالطائفية السياسية (الحليف الوطني) للاحتكارات الدولية.
خامساً – تهدف الطائفية السياسية في الظروف المعاصرة الى تقسيم الدول الوطنية الموحدة الى أقاليم طائفية بمباركة العولمة الكسموبولوتية.
ختاماً لابد من التأكيد على أن الآراء والافكار التي حملها بحثنا المكثف قابل للتعديل والاضافة استنادا الى تغير وتطور العلاقات الدولية المتخمة بالتبدلات والمتغيرات السريعة.