مِنَ العلمانية وإسْلام الحُكام إلى الإسْلام المُقاوم (قراءةٌ في تجربَة - رَواء مكة- لحَسَن أوْريد)


محمد الهلالي
2019 / 6 / 24 - 05:51     

هل يتعلقُ الأمر بأسفٍ أم بندمٍ أم بتوبةٍ؟ يُعرّف الأسفُ بأنه اقتناع المرء بأن الأفعال التي قام بها في ماضيه ونتائجها كان ينبغي ألا تتم. فهو يفضل لو أن تلك الأفعال الماضية تمت بكيفية أفضل. ويتسمُ الأسف كفعل نفسي، يستعيد من خلاله المرءُ أفعالَه الماضية، بوضوح في الفهم لم يتوفر لديه إبان الفعل. إن الأسف رغبة مُوجهة نحو الماضي تستهدفُ تعديله بدون طائل. فالشخص يتنصل من مسؤوليته عن أفعاله الماضية بتبريرات عدّة. ويمكن أن يكون الأسفُ مخالفا للأخلاق إذا تأسف المرء عن فعل لم يفعله وكان سيجني منه امتيازا ولو على حساب القيم أو القانون.
ويعرّفُ الندمُ على أنه شعور حاد بخطأ تم ارتكابه في الماضي، ويختلف عن الأسف في كون الشخص النادم يعتقدُ أنه لا يمكن التخفيف من حدة أخطاء الماضي ولا تجنب آثارها في الحاضر. ويدفعُ الندم الشخص النادم إلى مواجهة الماضي رغبة في السيطرة عليه وتصحيح أفعاله الخاطئة والتكفير عن ذنبه. لكنه لا يواجه في آخر المطاف إلا ذكرياته التي تؤرقه في الحاضر. يعيش الشخص النادم في سجن الماضي مواجها اليأس بل والانتحار أحيانا.
أما التوبَة فهي اعترافٌ بارتكاب أخطاء أو ذنوب، واعتقادٌ بإمكانية إيجاد حل لذلك عبر الافتداء. فالتوبة تقتضي اعتبار الماضي عملية غير مُكتملة، أي تقتضي الاعتراف بخصوصية الفعل البشري الذي يحتفظ بمعناه المتجدّد في الحاضر رغم أنه صار ماضيا. فلا حتمية في الفعل الإنساني. فالفعل الذي صار ماضيا لا زال موجودا بالقوة ويمكن تملك معناه وتوظيفه في الحاضر وفي المستقبل. فالتوبة تغير معنى أفعالنا الماضية، وتدمجها في عملية مُنفتحة على المستقبل. فالتوبة تُحررُ المخطئ من اليأس وتمنحه قدرةً على الفعل الإيجابي في الحاضر. ويرى ديكارت أن التوبة نوعٌ من الحزن ناتج عن اعتقاد المرء بارتكابه لفعل مشين، وهي شعور بالمرارة لعدم صدورها عن الإنسان. وبالرغم من ذلك فهي مفيدة جدا في نظره. أما سبينوزا فيرى إن التوبة ليست فضيلة لأنها لا تصدر عن العقل كما أن التائب عن فعل فعله يكونُ تعسا أو عاجزا مرتين. وإذا قارنا التوبة بالاستحْياء فقد تكون لها فائدة في حياة الإنسان. فالاستحياء بالرغم من أنه ليس فضيلة يُعتبر أمرا جيدا لأنه يُبينُ أن الإنسان المُستحيي له رغبة في أن يعيش باستقامة خلقية.
بين الصحوة والتوبة، بعيدا عن الأسف الندم، كان طريقُ حسن أوريد إلى مكة للرَواء من نبعها، ولتغيير الصحبة، والتأمل في معنى أن يكون المرء مسلما اليوم. لم يكن الإسلام بالنسبة له غير "رسيس (بقية) تربية ومخلفات ثقافية" (حسن أوريد، رواء مكة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2019، ص: 13). ومكنه الاستعداد للحج من أن يطرح السؤال التالي: "هل هي مُصالحة مع الإسلام؟ أم هي قطيعة نهائية تأخذ شكل سفر للوقوف على وجه من وجوهه؟" (ص: 13-14). كان الإسلام بالنسبة له مجرد أغلال، وفي هذه الحالة "كيف يكون المرء حرا وأغلال الدين توثقه؟" (ص: 25).
لم يسبق لحسن أوريد أن أعلن ارتداده عن الإسلام وهو المسلم بالمولد. وسيجد في الإسلام ما يجعله مسلما حتى وإن ارتكب الكبائر كلها. فحسب المرجئة، على سبيل المثال، "لا تضر مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة". لكنه مع ذلك يرى أنه كان، قبل رَواء مكة، "في الضفة الأخرى من الإسلام، ضفة الموروث الثقافي" (ص: 157). كان يعيش حياة تعج بالمتع وبالحظوة والأوهام. تبنى العلمانية وانتصر لها، إلى حد أن كلام الله لم يكن "لينفذ إليه لأنه كان مُحصنا بدروع العلمانية" (ص: 30). ولم تتغلغل في فكره العلمانية إلا لأن الغرب مارس عليه إغراءه (ص: 26). ويبدو أن الغرب والعلمانية تلازما عنده مع العقل والعقلانية والتمرد على الظلم. يقول في هذا الشأن: "حينما نقعتُ الكأس أول مرة، لم أرفعها نشوة أو لذة، بل غضبا، بل تمردا. ما وُرِثتُه غلّ يعوقني نحو التحرر وأنا محتاج إل عقلي لأفهم العالم، لأتمرد على الظلم، وأنا لا أستطيع أن أكبت غرائزي ولا أن أضع أمامها موانع لكي أكتشف الحياة" (ص: 42). استطاعت العلمانية أن تجُبّ الإسلام كفكر في حياته، فحولته إلى مجرد ذكرى وحنين. ورغم أنه كان لا يطعن في الإسلام من باب التوقير، وبحكم أنه دين الآباء والأجداد، فإن الإسلام مع ذلك كان في نظره "إصرا (حمل ثقيل) ليس عليّ وحدي فحسب بل على المجتمع كله" (ص: 35). وبما أن الإسلام كان عائقا أما العقل وأمام تحرر المجتمع فإن كل حركة تقترح حلا باسمه لن تكون إلا "داء وليست هي الدواء" (ص: 39).
كانت مرجعيته هي الفكر الغربي العلماني والفكر العربي الذي هو امتداد له أو هو إرهاصات مبكرة عنه. تكونت هذه المرجعية من مكسيم رودنسون، ووات، وكولد تسيهير، وفرويد، ونيتشه، وأبو العلاء المعري، وطه حسين وحسين مروة (خاصة في النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية)، ومهدي عامل، والطيب تيزيني، وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري.
ستعرف هذه المرجعية أزمة تجعل حسن أوريد يشك في صلاحيتها ويشكك في صدق نوايا أهلها وحماتها. سيكتشف "بطش الرأسمال" (ص: 31) في عقر داره أمريكا، ويكتشف أن ممولي نشر فضائل العلمانية، من خلال الفكر والثقافة، هم أنفسهم عرابو الحرب على العراق، وستعري حرب الخليج أقنعة الغرب الليبرالي ليظهر وحشا قاتلا مستعدا لإبادة شعوب بأكملها من أجل السيطرة على الثروة، وليتضح أن حقوق الإنسان يريدها الغرب حكرا على أبنائه وبناءً على طبقية مقيتة يحميها بكل الوسائل. فمَن يستطيع أن يعتبرَ الغرب أفقا للحل بعد غزوه الوحشي للعراق وتلاعبه بالفلسطينيين؟ لقد "ضربت أمريكا العراق شر ضربة، وتلفعت بمبادئ القانون الدولي، ووظفت ميثاق الأمم المتحدة. ولكن الحقيقة شيء آخر، فلم يكن القانون الدولي إلا غطاء، والمبادئ الأخلاقية إلا ذريعة" (ص: 29). فكيف يكون "الغرب هو النموذج وهو من يهجم؟" (ص: 29). لقد خيب الغربُ أمل المثقف العلماني لذلك "آل على نفسه ألا ينسى". لقد "حولت حرب الخليج حياته" (ص: 29). وأمام هدم الغرب لصورته ونكثه لوعوده استخلص حسن أوريد الدرس قائلا: "تساءلتُ لمَ أقيم في بيت ليبرالي؟ بيت الغرب، بمنظومته الفكرية، بمرجعيته، بأسلوب حياته. سكنته لأول مرة بلا مقابل أو كان المقابل هينا، بل بدا تحررا. سكنت بيت الغرب وقد تحللت من رِبقة الماضي وعوائق التراث وموانع الأخلاق... ولكن البيت الذي آويتُ إليه يضيق عليّ. فبنود العقد تضيق كل يوم، وربّ البيت لا يحترمها. يدعو لحقوق الإنسان ويغتالها. يطالب بالحرية ويمالئ الاستبداد، يدعو لحكم القانون ويغتني بالاستغلال" (ص: 28-29).
لقد قاده تفكيره في أفعاله إلى الاعتراف بحمله للكثير من الآثام والذنوب، وإلى طلب الغفران من الذين أذنب في حقهم (ص: 41)، وقاده تفكيره في هزيمة الغرب بداخله وظهوره عاريا أمامه إلى الاستنتاج بأن "من لا يرتبطون بجذور ستعصف بهم الرياح والأنواء" (ص: 42). فما الحل إذن؟
إن الحل هو "العود لنبع الإسلام" (ص: 7)، أي إلى "الإسلام في نبعه الأول" (ص: 47). ويعود الفضل في تبني هذا الحل للحرب على العراق، ذلك أن "الهجمة التي تعرضت لها دار الإسلام أججت وعيي بالانتماء" (ص: 101). وواجه نفسه بهذا السؤال: "فلمَ تبتغ غير الإسلام انتماء؟" (ص: 177). وأجاب عن سؤاله: "أنا مسلم لأني فهمت معنى الله أكبر. لم تكن كلمة تتلى، كانت فلسفة حياة وهتك حجاب" (ص: 155)، فلقد "أضحى كل ما يهم الإسلام والمسلمين أينما كانوا شأني" (ص: 155)، و"فهمت معنى الله أكبر، ذلك الكشف الذي جعلني انهض وأردد في رفق: وإني من المسلمين" (ص: 190).
كانت "المصالحة مع الحضارة الإسلامية قد بدأت بالأندلس"، ثم انجلت الغشاوة على الذهن بخصوص طبيعة الغرب ووعوده، وبخصوص العلمانية والليبرالية الغربيتين، وانتقل من البحث عن حل فردي إلى الانغماس في الحل الجماعي: الحل الذي يضمنه إخوة الإيمان. فليس "الخلاص في الإسلام خلاصا فرديا" (ص: 142). يريد الإسلام الذي يحقق "التحرر من الظلم ومن الفقر ومن الاستبداد" (ص: 199). ولا معنى للإسلام بدون "نصرة الذين يكابدون ويواجهون الطغيان" (ص: 210). فالإسلام "أسمى من أي تنظيم أو أشخاص، وهو أوسع من أن يحتكره مُحتكر" (ص: 148). ويرى حسن أوريد أن الفضل في تأثره البالغ بالجرائم المرتكبة في حق العراقيين والفلسطينيين ومسلمي البوسنة، وانتشائه بصمود اللبنانيين (بقيادة حزب الله الشيعي) وهزمهم لإسرائيل في صيف 2006، يعود لأثر القرآن في قلبه.
اتضح أن الإسلامَ هو البديل، الإسلام المعتنق عن وعي وبعد عقود من تبني حلول الغرب لمشاكل العالم، والدفاع المستميت عن قيم الغرب كقيم للإنسانية في كل مكان. لقد تمت العودة إلى الإسلام "كأساس حضارة عظيمة"، إلى الأخوة في الإسلام، إلى الإسلام كفلسفة حياة فاعلة ومقدامة ترتكز على العزم (ص: 90)، كدعوة للعدل، كرفض للظلم وتمرد على الاستبداد، إلى الإسلام كعملية تحرر من خلال جهاد النفس ومحاربة الظلم، إلى إسلام عمار بن ياسر وسلمان الفارسي وبلال بن رباح.
يتعلق الأمر بإسلام مُقاوم، إسلام ينهل من روح التغيير التأسيسية الأولى، إسلام يعتمد على الجموع والحشود وليس على التنظيمات أو النخب، إسلام يجعل من نداء "الله أكبر" سلاحا لمحاربة كل مستبد يريد أن يصبح إلها في الأرض، فإذا كان "الله هو الأكبر" فلا ينبغي للمسلمين أن يقبلوا حاكما مستبدا ومدعيا بأنه ينتمي للإسلام. إسلامٌ يواجه الغرب باعتباره استعمارا إمبرياليا زادته العولمة قوة في التحكم والسيطرة وبلوغ أقاصي الأرض. إن الإسلام المقاوم يعيد للواجهة تضحية القادة والنخب من أجل مصالح المسلمين، مصالح حشود المسلمين. يخلص حسن أوريد إلى أنه "لا شيء يمكن أن يعبئ الشعوب الإسلامية غير الإسلام لأنه هو بوابة إصلاحها" (ص: 129).
ينبغي على إسلام مقاوم كهذا أن يجعل من الحج "مُحرك العالم الإسلامي ليرسخ المسلمون ارتباطهم بحضارة، ليتعارفوا كما ورد في القرآن الكريم، ليتفاعلوا، أن يكون الحج مؤتمرهم" (ص: 116).
وبما أن "العرب يجهلون لغتهم"، ويرتكبون أخطاء حتى في تلاوة القرآن، وبما أن "المنتسبين لقريش اليوم ينشرون الفساد" في العالم، وبما أن المتربصين بالإسلام كثيرون، وبما أن العرب المسلمين يوظفون "أحاديث ونصوصا ما أنزل الله بها من سلطان تغلّ الفكر وتصدّ النقد وتعطلُ التطور" (ص: 129)، فإنه على العرب المسلمين أن يتخلوا عن قيادة المسلمين. خصوصا وأن "العجم المسلمين بقدر بعدهم عن النص (اللغة العربية) بقدر قربهم من روح الإسلام، والعرب بقدر قربهم من النص بقدر بعهدهم عن روح الإسلام" (ص: 129).
ينبغي البحث عن روح الإسلام حسب حسن أوريد، تلك الروح التي توجد في نبعه الأول. فالإسلام ليس حزبا ولا حركة ولا زاوية ولا حقيقة أكاديمية ولا مذهبا بعينه. الإسلام مقاومة. الإسلام تغيير. الإسلام حرب على الاستبداد. كما أن الإسلام لا يحتاج لشخص يجسده. فهو دين إخوة الإيمان.
والحديث عن روح للإسلام وعن بعده المقاوم، وعن تجسده في قيم كونية يتجدد مضمونها بتجدد طبيعة المنتسبين له في الزمان والمكان المعينين، يجعل المعادين للإسلام من باب الكفر به، والدعوة لدين غيره، والبحث عن أخطاء في نصوصه، والتشكيك في نسبة النص المؤسس للموحي به، يحاربون أشباحا توجد بدواخلهم. ذلك أن الدين هو تجربة روحية حية يعيشها المؤمنون بجوارحهم يمتزج فيها الإلهي بالإنساني، والخيال بالحقيقة والمعلومة بالمبدأ والنسبي بالمطلق والمتغير بالثابت.
إن رواية "رواء مكة" هي احتجاج ضد زمن رديء. هي انتصار لمُثل ومبادئ داسها من يدعي الدفاعَ عنها. هي عودة للمحرومين والمستغلين أنفسهم: حشود المسلمين. هي نقد لنخبة تاجرَت بأرواح المسلمين وبحياتهم وعيشهم ومرضهم بل وتاجرت بموتهم. هي نقدٌ لاستبداد الحكام الذين يستولون على الثروة باسم الدين وحمايته. لذلك فربما ستنهض الحشود، ذات يوم، باسم "الله أكبر" لتكسر القيود. وحينها فليستخلص كلُ ذي فكر حُر الدروس والعبر: فلا الليبرالي صنّع بلده، ولا العلماني نشر فكره وقيمه، ولا الماركسي أسس حزبه ونقابته وحمى المُستَغلين، ولا الإسلامي المعتدل ملأ مسجده وقاد مؤمنيه نحو التغيير مستغلا رضا النظام عنه، ولا الإسلامي الثوري جمّع حوله حشود المسلمين وأعلن عن بداية ثورة أخلاقية روحية وسياسية، ولا الاشتراكي حسّن معيشة مواطنيه مستغلا قربه من النظام وازدواجية خطابه.
من المؤكد أنه لا أحد من هؤلاء يرى مصلحته في ثورة الحشود باسم إسلام مُقاوم، لأن ثورةً مثل هذه ستعصفُ بكل الوسطاء الذين يدافعون قبل كل شيء عن مصالحهم كأفراد وكفئات اجتماعية تبحث بحكم طبيعتها عن الاغتناء، دون أن ننسى مئات من عملاء النظام المنبثين في هياكل كل هذه التنظيمات. إن وضعا كهذا لن يتم كنسه إلا بهبّة حشود المسلمين التي من مصلحتها الدفاع عن العدالة الاجتماعية للمُستضعفين.