الحياة السعيدة


جاسم ألصفار
2019 / 6 / 21 - 02:33     

عند كتابتي لعنوان مقالتي لهذا اليوم تذكرت البير كامو في روايته "الموت السعيد" والتي ترسم طريقا مأساويا في البحث عن السعدة ينتهي بموت بطل الرواية في ظروف وصفها الكاتب بالموت السعيد. تذكرت هذه الرواية مع ان ما قررت ان اكتبه ليس عنها بل عن السعادة في المجتمع الاشتراكي السوفيتي التي ما زال يحن لها الكثيرون ممن عاصروا تلك الفترة.
في الاتحاد السوفيتي عشت في منطقة قريبة من موسكو في قرية من قرى محافظة بيرسلافل وفي نفس القرية التي كنت اقيم فيها كان هنالك بيت للعجزة يعمل فيه احد اصدقائي من الاطباء اضافة الى اخرين من معارفي. كانت الحياة هناك في بيت العجزة سعيدة الى حد ما، فالدولة تستقطع جزء من رواتب العجزة التقاعدية لتقدم لهم الرعاية الصحية والاكل والشرب وتترك لهم جزء اخر من راتبهم التقاعدي لشراء السجائر والكحول او ما يشاءون غير ذلك.
مغزى السعادة هناك كان يتجسد في ان نزلاء بيت العجزة كانوا مطمئنون على مسار حياتهم الطبيعية، فهم لا يجهدون انفسهم في تجهيز غذائهم اليومي ولا يقلقون على توفيرعلاجهم ان احتاجوا لمساعدة طبية، كما انهم كانوا ينظمون امسيات مرحة، بل وصاخبة، فيها الرقص والموسيقى والخمرة وما الى ذلك.
كما انهم كانوا يتزاوجون في نفس البيت بعقود لم اذكر مدى رسميتها، الا انها كانت معترف بها من قبل ادارة البيت لكي توفر للزوجين غرفة منفصلة يعيشان فيها. ومن الصدف اني التقيت في ذلك البيت، عند زيارتي لصديقي الطبيب، بامرأة طاعنة في السن ولكنها مرحة وخفيفة الظل في العلاقة بالاخرين من الزوار والساكنين. وقد اشار اليها صديقي الطبيب في حديثه معي واصفا اياها بالارملة السوداء. وعندما سألته عن معنى هذه الصفة بين لي انها تعني المرأة التي يموت ازواجها وتكثر زيجاتها، أي انها في كل مرة يتوفى فيها زوجها من نزلاء المنزل توطد علاقة بنزيل جديد تنتهي بعقد قران ينتهي بنفس النتيجة بعد فترة من السعادة الزوجية.
الجميع كانوا يعيشون سعداء، وكما يكتب سارتر عن الحرية التي يمكن ان يشعر بها من في السجن ولا يحسها من هو خارجه، فالسعادة في بيت العجزة الذي اكتب عنه قد لا تتوفر عند سكان قريتنا الاخرين. انها تشبه سعادة سكان الجنة الموعودة في بعض الديانات، ولكنها تبقى سعادة منقوصة لا ابداع فيها ولا تغيير ولا خيال ولا احلام.
اليوم اطلعت على ما نشرته وكالات الانباء عن اللقاء المباشر بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتن والمواطنين في بث على قنوات التلفاز الروسي ونقلت اجزاء منه القنوات الاخرى الاجنبية بما فيها العربية. واستوقفني سؤال من مواطنة روسية عن ان السلبيات في النظام الجديد لم تكن فترة حكم السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي ليونيد بريجنيف، وأشارت الى ان السوفيت كانوا يعيشون حياة افضل.
طبعا، لم يجبهم الرئيس الروسي كما ورد في استذكاري لبيت العجزة، بل اجاب بان الثغرات في البناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كانت حتى في فترة ليونيد بريجنيف ولو بتجليات اخرى وانها كانت السبب في انهيار النظام الاشتراكي السوفيتي الذي كان قائما انذاك.
لنترك المزايدات يا اصدقائي ولنعش ونفكر ووجوهنا متجهة صوب المستقبل وليس نحو الماضي الذي لم يخلو من سعادة ولكنها سعادة سكان بيت العجزة الذين تحدثت عنهم ولا حتى سعدة بطل الكاتب البير كامو في "ألموت السعيد"، بل سعادة أخرى يبنيها فكر انساني طليعي.
عشت في الاتحاد السوفيتي ثم روسيا الاتحادية اربعون عاما بالتمام والكمال وانا بعد كل تجربتي الطويلة، ما زلت مؤمنا بان الاشتراكية هي الحل ولكن ليس اشتراكية مستنسخة من الماضي بل اشتراكية تستمد قوتها من تراث الماضي لتبني مستقبل انسان سعيد سعادة حقيقية في مجتمع قائم على العدالة الاجتماعية والرفاه الاقتصادي والتطور التقني.