ها هي الرأسمالية


محمد وهاب عبود
2019 / 6 / 17 - 03:05     

وحدها الطبقات الفقيرة والعاملة في الولايات المتحدة الأمريكية تعرف ماهية وحقيقة امريكا, فهم على دراية بالعمالة الناقصة والتسريح الوظيفي والبطالة. هم على دراية بالحياة دون معاشات. هم على دراية بكيفية البقاء على قيد الحياة ببضعة دولارات في اليوم. هم على دراية بقطع الغاز والكهرباء لتاخر الدفع. هم يعرفون ضرر الديون . هم يعرفون ماذا يعني أن تكونوا مرضى وغير قادرين على دفع تكاليف العلاج. وهم يعرفون كيف تأخذ الدولة الأموال - وتسمى هذه الإجراءات "مصادرة مدنية للأصول" ففي الولايات المتحدة يُسمح للشرطة الأمريكية بمصادرة أكثر من 3 مليارات دولار نقدًا وعقارات. إنهم على دراية باليأس وباليات عمل المدارس والمكتبات ومستشفيات المناطق والطرق والجسور والأماكن العامة وبرامج المساعدة الاجتماعية. هم على دراية بالاستيلاء على المؤسسات الديمقراطية من قبل النخب المالية من أجل اشاعة البؤس المعاناة تحت اسم التقشف , إنهم على دراية بضرورة التخلص من هذه العبودية والمأساة المسماة بالراسمالية.

يعاني العمال الفقراء اليونانيون والأمريكيون -على حد سواء- من نفس المصاعب لأنهم يتعرضون للهجوم من قبل نفس النظام - رأسمالية الشركات. رأسمالية الشركات ليس لها حدود اذ تقوم رأسمالية الشركات ، من خلال التحكم في المؤسسات الأكثر نفوذاً في العالم ، بما في ذلك منطقة اليورو والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك الاحتياطي الفيدرالي ، وبما ترى الشركات مناسبًا - تستغل كل شيء ، بما في ذلك الناس والحياة والطبيعة إلى حدود الهلاك والتدمير.
وفي الوقت نفسه ، يتم تهميش النقابات العمالية ، وإضعاف الهيئات التنظيمية ، وصياغة القوانين من قبل جماعات الضغط في الشركات لإضفاء الشرعية على الاحتيال ، وإعطاء السلطة للاحتكارات العالمية ، وخصخصة الخدمات العامة.
تسمح اتفاقيات التجارة السرية - التي يُمنع التحدث عنها حتى للمسؤولين المنتخبين الذين يعرفون ان الشركات والأوليغارشيين يمارسون المزيد من السلطة وتحقيق المزيد من الأرباح على حساب العمال. من خلال تجميع أرباح ضخمة ، تقوم الشركات بنهب وتحييد وإفلاس الأشخاص البسطاء ويطال هذا النشاط حتى المدن والحكومات. وفي النهاية سينهار كل شئ وسيدمرون بايديهم اركان نظامهم الراسمالي لكن موت الراسمالية سيكون له تبعات ومعاناة لا حصر لها على الكوكب فهذا الموت لن يكون هادئا بل اشبه بانفجار عظيم نتيجة الالغام التي زرعها الراسماليون في اركان واساسات النظام الراسمالي.

لقد ركعت الحكومة اليونانية أمام المصرفيين الأوروبيين ، وبتوسل طلبت منهم الرحمة ، لأنها تدرك أنه إذا غادرت اليونان منطقة اليورو فإن النظام المصرفي الدولي سيفعل مع اليونان ما فعلته بشيلي الاشتراكية في عام 1973 . ان تصدي اليونان للمصرفيين الاوروبيين يعني تدمير اليونان فلن يكون هناك المزيد من الأدوية في اليونان (تدين اليونان لمصنعي الأدوية الأوروبيين بمليار يورو). (تستورد اليونان آلاف الأطنان من الأغذية سنويًا من أوروبا) . (تستورد اليونان 99٪ من النفط والغاز). سيشن المصرفيون حربًا اقتصادية إلى أن تتم تصفية الحكومة اليونانية الحالية لحين الاستيلاء على الحكومة من قبل الدمى السياسية الخاضعة للشركات.

لقد تم إنشاء الرأسمالية لاستحصال المال من أكثر الفئات ضعفا ونقله إلى النخب. وهذا يتجلى في زيادة الغرامات والرسوم ، والتي تستخدم لتغطية العجز في الميزانيات المحلية. تسعى رأسمالية الشركات إلى خصخصة جميع خدمات الدولة: من التعليم إلى جمع المعلومات الاستخبارية اذ يدفع الآباء مئات الدولارات مقابل نقل أطفالهم إلى المدارس العامة على متن حافلات أو لتعليم الموسيقى أو الرسم أو المشاركة في الأنشطة الرياضية وغيرها وكذا الحال في اقسام الإطفاء والإسعاف ونظام الحدائق الوطنية - كل هذا مخصص ومسخر لتحقيق أرباح الشركات وهذا يعني الموت للمجتمع المدني.

اما القضاء فقد اضحت مهمته الاولى هو التعامل مع تدفقات الإيرادات لحكومات المدن وحكومات الولايات في الولايات المتحدة فبدلاً من العدالة وإعادة التأهيل. يتم إلقاء القبض على الفقراء وتغريمهم لارتكابهم جرائم بسيطة كما حدث في فيرجسون والمدن الأخرى ؛ لعدم تقليمهم الحدائق .
اما الذين لا يستطيعون دفع الغرامة فالسجن بانتظارهم. في السجن عليهم دفع ثمن الغرفة والطعام والذين لا يستطيعون دفع ثمنها يجلسون على الارض , هذا هو الابتزاز الدائري للفقراء. وبالنسبة للغرامات غير المدفوعة ، يتم تعيين الفائدة ، ثم يتم إصدار أوامر التوقيف. غالبًا ما ينتهي الأمر بالفقراء إلى ديون تقدر بعدة آلاف من الدولارات بسبب مواقف غيرمنضبطة أو لكسر قواعد المرور.
في كثير من الأحيان يذهب المال إلى الشركات الخاصة التي تملك السجون اذ يجب أن يدفع الضحايا مقابل استخدام الأسلحة الصاعقة ضدهم (26 دولارًا) ، لفترة تجريبية (35-100 دولار شهريًا) ، لأساور التحكم الإلكترونية (11 دولارًا شهريًا) - كل هذا امتصاص للأموال من جيوب الفقراء وتجميع الثروة على حسابهم.

وكتبت كارين دولان في تقرير صادر عن معهد الدراسات السياسة "يُرسل الفقراء إلى السجن": "نحن دولة حولت نظام الضمان الاجتماعي الخاص بها إلى نظام إجرامي" "نحن نُجرم الأنشطة التي تدعم حياة أفقر الناس الذين لا يستطيعون حتى العيش في ملجأ"." نحن نسجن أشخاصاً أكثر من أي بلد آخر في العالم". ونحن نتبع سياسة تفصلهم عملياً عن الحياة في المجتمع ." لقد أنشأنا نظام تعليم عام من الدرجة الثانية - للأطفال الفقراء والأفريقيين وأمريكا اللاتينية ، الذي يجرم سلوكهم بشكل غير متناسب ، ويوجههم منذ سن مبكرة الى طريق السجن ويتم حرمانهم من المساعدة والفرص"

نحن تماما مثل اليونانيين ، ضحايا لحرب سياسية أطلقها القلة العالمية. لا أحد ينتخبهم. إنهم يتجاهلون الرأي العام. وإذا كانت الحكومة ، كما في اليونان ، تعارض النظام المصرفي الدولي ، تصبح هدفًا لهجمات البنوك والشركات التي لا ترحم .

إن تدمير راسمالية أمريكا سيكون على غرارالتجربة اليونانية ، والمدمرون هم البنوك الكبرى والشركات المالية والصناعية العظمى. فالاقتصاد لا يمكن إنعاشه عن طريق تدابير التقشف أو عن طريق إنشاء نفقات محدودة وميزانيات مضغوطة ، كما يدعي المصرفيون. فقط حكومة عمالية اشتراكية مسؤولة يمكنها التعامل مع هذه الازمة.
نحن نعيش في حالة حرب طبقية معادية للديمقراطية بطبيعتها فالقضية هي تشكيل أمة من العبيد الفقراء والضعفاء من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، ثمة نخبة ارستقراطية من القلة وبدعم من أجهزة أمن الدولة والشرطة العسكرية ومكافحة الشعب الذين يطلقون النار على المواطنين دون تردد.

الإيديولوجية الاقتصادية والسياسية التي أقنعتنا بأن السلوك البشري المنظم يجب أن تحدده إملاءات السوق العالمي هي أيديولوجية احتيالية مخادعة. لقد تحول الازدهار الموعود من الاقتصاد المتدفق والسوق الحرة إلى كونه خدعة - تركزت الثروة في أيدي القلة القليلة من الناس ، ودمرت حياة الطبقة العاملة والطبقة الوسطى كما انهارت المفاهيم الديمقراطية.
لقد ساهمت الحكومات الفاسدة في هذه السرقة من خلال تجاهل المصلحة العامة ورأي المواطنين وتم السماح لصناعة النفط والغاز بتدمير النظام البيئي مما يهدد بقاء الإنسان ويفتك بجمال الطبيعة.
لا يمكن للدمى الذين يحكمون هذا النظام أن يستجيبوا بعقلانية للأزمة الحالية حيث يتم تعليمهم فقط كيفية جعل النظام يستغل الناس. إنهم عميان بسبب جشعهم وأيديولوجيتهم الليبرالية الجديدة الهادفة الى خصخصة أصول الدولة وإزالة الحواجز التجارية أمام أولوياتهم الاقتصادية الرئيسية. أنها ايديولوجية تقودنا إلى حافة الهاوية.
ولن نتمكن من تشكيل اقتصاد رشيد ولن يتم احياء الديمقراطية حتى يُسحَب بساط السلطة من تحت هؤلاء المضاربين العالميين. لن يحدث هذا إلا عندما تغص شوارع المدن الرئيسية في أوروبا والولايات المتحدة والعالم بالاحتجاجات الجماهيرية. إن طغيان النخب المالية بلا حدود وخطوط فسوف تستمر ادوات فرض المعاناة والقمع والاستغلال حتى ننهض وننتفض قبل ان يقطعوا الشجرة ان لم يبيعوا ظلها كما قال ماركس .