الوعي الثوري والحس الثوري


جاسم ألصفار
2019 / 6 / 17 - 01:22     

الوعي الثوري والحس الثوري
مشكلة من يؤمن بقضية تستند الى تراث فكري هائل هي انه قد لا يجد مشتركات توحد الرؤيا والمسار مع من يؤمن بنفس ايماناته ويقف خلف نفس الرايات التي يقف هو خلفها. فبدون العمق المعرفي والادراك الواعي لن يتولد حس ثوري يحصن المناضل المبدئي من الانشداد الى الانتماءات الفرعية وافرازاتها الفكرية السياسية والسلوكية في بعض الاحيان.
نعم، قد لا نحتاج لعمق فكري أو ادراك فلسفي لكي نحدد موقفنا من قضايا، يترائى لنا انها بسيطة ومحددة كالموقف من فرانكو في اسبانيا او بينوشيت في جيلي او صدام حسين في العراق ولكن التفاصيل اللعينة ليوميات وسلوكيات وحتى اهداف النشاط الثوري الفردي يجعلنا نتوقف لنراجع دورنا في النشاط الاجتماعي سواء الثوري او التقدمي او الديمقراطي او اي من المسميات الاخرى.
جاء احدهم، لا أذكر ان كان اسبانيا ام فرنسيا، ليستشير المفكر الفرنسي الكبير جان بول سارتر في قرار اتخذه للذهاب الى اسبانيا فترة الحرب الاهلية في اسبانيا التي استمرت من عام 1936 إلى 1939 وكانت حربا بين الجمهوريين، الموالين للديمقراطية، والجمهورية الإسبانية الثانية ذات الاتجاهاليساري، والفاشيين تحت قيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكوللمشاركة في القتال الى جانب الجمهوريين ضد فرانكو.
وعندما سأله سارتر عن سبب اتخاذه لمثل هذا القرار اجابه اجابه السائل ببساطة انه قرر الانتقام لأخيه الذي اعدمته قوات فرانكو. لم يطل تفكير سارتر في الامر ومد يده لمحدثه شادا عليها تأييدا له على قراره. ليس الانتقام بالتأكيد هو ما شجع عليه المفكر الوجودي سارتر بل انه المشاركة في قضية عادلة، هي مقاتلة فرانكو.
في يوم، في ستينات القرن الماضي، وانا عائد من مجلد كتب يعمل في مكان ليس بعيدا عن محل سكني في محلة المحمودية في مدينة العمارة، التقيت، وانا أتأبط مجموعة من الكتب المجلدة حديثا، الشهيد كاظم طوفان (أبو ليلى)، وكنت اوده كثيرا لأنه من اسرة فقيرة ولأنه يملك تطلعات ثورية ولكن ما لم يعجبني فيه هو الخليط الفكري غير المتجانس الذي كان يهيمن وقتها على تفكيره، فهو ماركسي لم يقرأ ماركس واكتفى عنه بكتيبات سياسية للينين وريجيس دوبريه وبعض مما كتب عن الوجودية وما الى ذلك. والاكثر من ذلك هو انه كان يجد في نفسه مشروعا ثوريا يبحث عن فرصته في التجلي.
سألني ابو ليلى عن الكتب التي احملها فرحت افردها امامه، منها للمتنبي وغيرها لكتاب الادب الروسي والسوفيتي. ابتسم ابو ليلى وقال لي ببعض من السخرية "أبهذه الكتب نحقق الثورة" فاجبته صادما لسخريته ان هذه الكتب وغيرها لا تصنع الثورة فالثورة لها ظروفها وارهاصاتها التاريخية وادواتها الجماهيرية أما الكتب فهي للرقي المعرفي من اجل تلمس الطريق الصحيح على دروب هذه الثورة.
مرت السنين والتقيت بكاظم طوفان في موسكو عند التحاقه للدراسة في المدرسة الحزبية، فسألته عن اهمية الدراسة لشخص مثله، ولكنه كما حليمة التي عادت الى عادتها القديمة، سخر من جديد من كل من يحسب السياسة علما والثورة فلسفة حياة وانه يطمح لشيئ اخر.
وكان له ما اراد فقد ارسل الحزب الشيوعي العراقي رفاقه وكوادره للقتال ضد نظام صدام حسين انطلاقا من شمال العراق. وكان كاظم طوفان هناك كالسمكة التي رميت في الماء بعد ان يبست عروقها من جفاف الضفاف. وقاتل ابو ليلى في مفارز الحزب الشيوعي العراقي قتال الابطال الى ان استشهد هناك لتنتهي معه قصة جيفارا اخرى... لقد بحث عن المجد الثوري وحقق امنيته.
امس كتب احد الاصدقاء، عن ان فهم ما هو عميق وفلسفي قد يكون باسلوب بسيط، فالعلمانية كما كتب، قد تفهم من المقولة المعروفة "خير الناس من نفع الناس"، وقد يكون محقا. كما قد يكون الفهم الذي طرحه الكاتب المصري (أحمد عباس صالح) صائبا ايضا، على بساطته، في كتابه "اليسار واليمين في الاسلام" والذي يعتبر مقولات الامام علي بن ابي طالب وابو ذر الغفاري لبنات اولى لوعي يساري او "اشتراكي اسلامي".
نحن امام معضلة حقيقية، هل نكتفي بالمقولات العامة التي تطفو على سطح المعرفة ولا تلقي بجذورها الى عمق التراث الفكري ام بحسنا الثوري غير المعروف باسباب تكونه وملابساته. ام ان الاهم ليس التعميم الفارغ و "الفزعة الثورية" بل الوعي الحقيقي لحركة التاريخ وفلسفته؟ أم أن حركة التاريخ تحتاج لكل ما ذكرت وان لكل دوره دون تعالي حزبي او نرجسية ثقافية.
وانا اكتب اليوم، مجربا التمييز بين الحس الثوري وبين الوعي الثوري استذكر ما كتبه غيرشينزون في كتابه (تاريخ روسيا الفتية): " عندما يصبح اتخاذ قرار ما امر صعب، عندما تحتار بين حقيقتين متناقضتين، توقف عن التفكير وعش".