مسار امرأة صينية ثائرة: جيانغ جينغ (الحلقة الثامنة والأخيرة)


8 مارس الثورية
2019 / 6 / 15 - 13:50     

(الحلقة الثامنة والأخيرة)
 
"لنا الحق في الثورة! فليسقط التحريفيون من أمثال دينغ كسياو بينغ! أنا مستعدة للموت" (جيانغ جينغ)

"ساعدوا جيانغ جينغ على التلويح بالعلم الأحمر" (من رسالة لماو إلى زوجته قبل وفاته)

جيانغ جينغ والتحريفيين: من يحاكم من؟

"كل يوم مع صياح الديك كنت أخرج سيفي من غمده"
 
تمثل محاكمة جيانغ جينغ، إحدى أشهر المحاكمات السياسية في القرن العشرين، فلمدة أربع سنوات تم سجن جيان جينغ و رفيقها شانغ شون شياو دون توجيه أي تهمة لهما، و قد حاول هوا كيو فينغ أن يجعل جيانغ جينغ تعترف بأخطائها المزعومة، لكن جيانغ الحذرة كانت ترد عليه باستمرار: "أتحداك أن تفرج عني"، و في سنة 1978 تم استبدال هوا كيو فينغ بقائد آخر في الحزب، هو في الحقيقة من يحرك الخيوط ، إنه التحريفي حتى النخاع، دينغ كسياو بينغ، الذي كان هاجس الانتقام مسيطرا عليه بشكل تام، فهو من أجل الانتقام من جيانغ جينغ، التي ظلت تلك الثورية التي تقض مضجعه كلف هذا التحريفي بنغ شن، الرئيس السابق في لجنة بلدية بكين (و هي لجنة تمت الإطاحة بها خلال الثورة الثقافية) باستجواب جيانغ جينغ قبل محاكمتها سنة 1980، و كان ذلك من مكر التاريخ .
جاء في إحدى التعليقات لهذه الثورية العظيمة، أنها كانت حريصة على أن تكون في كامل اللياقة الصحية الممكنة أثناء سجنها للدفاع عن الثورة الثقافية قدر الإمكان.
"كل يوم مع صياح الديك كنت أخرج سيفي من غمده"، كما قالت، في الإشارة إلى عبارة معروفة جدا لجنرال كان يقولها عندما كان يستعد للمعركة، والحال أن معركة جيانغ مع التحريفيين ليست ككل المعارك.
كان أول تكتيك للتحريفيين، هو إسقاط الحكم الذي كان قد صدر ضد لين بياو، فقد تم منحه صفة يساري متطرف، مما مهد الطريق لإدانة المتهمين العشرة باعتبارهم جزءا من زمرة.
لقد التجأوا إلى الجنرالات اليمينيين القدامى، اللذين تآمروا ضد ماو في أوائل سبعينات القرن العشرين، وذلك من أجل جعل الخطوط السياسية أكثر تشويشا، والتي يجب فكها. ويبدو أن الدعوة إلى المحاكمة، التي تم تصويرها، قد استئنفت ثلاث مرات، لأن الاعتراضات غير المتوقعة لجيانغ جينغ جعلت الفيلم "غير مناسب" للبث التلفزيوني، وقد حرص التحريفيون أن يتابع كل الصينيين في كل أنحاء البلاد محاكمة جيانغ و رفاقها الثلاثة إمعانا في الانتقام و الشماتة.
كان لجيانغ من القدرات ما يجعلها محامية نفسها، فعندما سئلت عما إذا كانت تريد محاميا للدفاع عنها، لم تتردد في إدانة هذه المحاكمة، باعتبارها محاكمة زائفة : "أريد خدمات محامي فقط إذا كان يعتمد على المؤتمرين التاسع و العاشر للحزب للدفاع عني!". وقد تم رفض الطلب، ثم أعلنت جيانغ جينغ أنها ستدافع عن نفسها.
كتبت جيانغ وثيقة من 181 صفحة تدين فيها الاتهامات المشينة، التي أنزلها التحريفيون عليها، و مما جاء فيها قولها: "إذا كان، وفقا لكم أنه من المفترض أن يكون اليسار قد قام بسجن قادته لمدة طويلة بأدلة ملفقة، فإني أتساءل كثيرا عن ماذا تفعلون الآن أنتم انفسكم؟ ما الخطأ في أن الثورة الثقافية أطاحت بالمقر العام الرأسمالي ليوشا وشي و شركائه، و إعادة الحزب إلى طريق مهمته التاريخية؟". لقد ذهبت إلى لب السؤال و صلبه عندما قالت: "لن اعترف بأنني ارتكبت جرائم، ليس لأني أريد عزل نفسي عن الشعب، بل لأنني بريئة. إذا أردت الاعتراف بأي شيء، إذن فقد حصرت المعركة في صراع من أجل السلطة. أنتم اللذين توجد في يدكم السلطة اليوم، لذلك من السهل جدا اتهام أي شخص بارتكاب جرائم، و تلفيق أدلة زائفة في هذا الصدد. لكن إذا كنتم تعتقدون أنكم تستطيعون خداع الشعب الصيني أو شعوب العالم، فإنكم لا تخدعون إلا أنفسكم، لست أنا، بل زمرتكم الصغيرة هي من يخضع للمحاكمة، إنها محاكمة سيكون التاريخ فيها هو القاضي الوحيد". و قد كانت مرافعتها في إحدى أطوار المحاكمة، التي بدأت في 20 نونبر1980 و انتهت في يناير 1981 تسير بالتحديد في هذا الاتجاه. وعلى عكس وانغ هونغ ون و ياو ون يوان، اللذين فضلا الصمت أثناء المحاكمة وعدم الدخول في المواجهة، فبالنسبة لشانغ شون شياو، فقد التزم صمتا مليئا بالتحدي (ما عدا عندما يرفض الاتهامات الموجهة إليه) رافضا الاعتراف بالمحكمة، التي ترأسها 35 قاضيا، و قاعة محكمة مليئة بجمهور مهيأ مسبقا للعب أدوار معينة، تمثلت في إطلاق الإهانات و كل أنواع السخرية اتجاه القادة الثوريين. أما من جهة جيانغ جينغ، فقد قابلت القضاة بازدراء و ثقة في النفس، و حولت الاتهامات، التي جرموها بها ضدهم بالإجابة "إن معظم الحاضرين اليوم، بمن فيهم رئيسكم ليانغ هوا، قد تنافسوا على انتقاد ليو شاوشي، فإذا كنت أنا مذنبة فماذا عنهم؟"، و أوضحت العلاقة بين أفعالها و الخط الثوري لماو، الشيء الذي أسكت قضاتها مرة أخرى، و اللذين لم يتمكنوا من مناقضتها أو معارضتها، و اتجهوا إلى ترديد عبارة "إلزمي الصمت!"، فأجابت جيانغ "بما أنكم لا تدعوني أتكلم، فلماذا لا تضعوا مكاني بوذا من الطين، الذي يمكنكم مقاضاته ... لقد كنت زوجة ماو لمدة 38 سنة، و قد اتبعت خط ماو و خط الحزب. إن ما تحاولون القيام به، هو جعل أرملة تدفع دين زوجها المتوفى، لذلك أقول لكم، إنني سعيدة، و يشرفني أن أدفع ديون الرئيس ماو!". و في أجواء مشحونة، كررت عبارة مشهورة لماو التي تقول، إن الثوري الحقيقي لم يعد له ما يجيب به على السماء أكثر من القوانين.
لم تستطع السلطات أن تتحمل، و بينما كانوا يخرجونها من القاعة صاحت قائلة: "لنا الحق في الثورة! فليسقط التحريفيون من أمثال دينغ كسياو بينغ! أنا مستعدة للموت!".
لقد صدم التحريفيون بكل هذا، و ما كان عليهم إلا أن يراجعوا خطة عملهم و محتوى مقلبهم، لقد أفحمتهم المرأة، و وجدوا أنفسهم أمام خصم يحاكمهم و ليس هم من يحاكمونها.
لقد ألهمت أعمال جيانغ و أفعالها الشعب الصيني، و شعوب العالم أيضا، بل و حتى الرجعيين الصينيين أجبروا على الاعتراف بذلك. لقد عمت المظاهرات و أقيمت التجمعات، من سيريلانكا، حيث تعرضت السفارة الصينية لهجوم، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، و من باريس إلى لندن، ففي فرنسا تم نشر إعلان في "جريدة لوموند الفرنسية" و قعه 2000 شخص، بهدف "إنقاذ جيانغ جينغ"، و تشكل تضامن في مؤتمر الأحزاب و المنظمات الماركسية – اللينينية و الحركة الشيوعية العالمية، الشيء الذي أطلق العنان لعملية تقارب أنصار فكر ماو تسي تونغ.
ماطل نظام دينغ لمدة تجاوزت شهرين قبل الإعلان عن وفاة جيانغ و شانغ شون شياو. و كان التحريفيون يتساءلون عما يمكن أن يلحق بهما المزيد من الضرر، هل هو إعدام هذين الثوريين، أو السماح لأكثر السجناء شهرة على وجه الأرض بمواصلة العيش، و الحال أن الحل الأول هو ما كان في مصلحتهم، و قد سمح لهما بسنتين ل"الاعتراف بأخطائهما"، و يوم سمعت جيانغ جينغ كلمة "موت" صرخت "إنها ليست جريمة صنع الثورة!".
أقدم التحريفيون على كل الممارسات الحقدية، من أجل تمريغ أنف جيانغ في التراب، و إلحاق كل أشكال الإهانة بها، فقد تم حبسها في سجن كوين شنغ، و قضت عددا كبيرا من السنوات في الحبس الانفرادي، و عندما رفضت التعاون مع السلطات، حرمت من الطعام و ممارسة الرياضة، و كانت تتعرض للضرب من طرف الحراس. و خلال معظم ذلك الوقت، سمح لها بالتحدث فقط عندما يطرح عليها السؤال، و كان الشخص الوحيد، الذي سمح له بالتحدث إليها هو ابنتها لي نا. و قد كانت السلطات تفرض على السجناء السياسيين كتابة نقد ذاتي شهري، غير أن جيانغ جينغ رفضت الانقياد إلى تعاليم الحكام الجدد و رفضت كتابة النقد الذاتي، فالخط الثوري الذي سارت عليه كان نهجا صحيحا بالنسبة لها، و ظلت متشبتة بهذه القناعة إلى آخر رمق في حياتها. و كما ورد في مقال في النيويورك تايمز لسنة 1983، فإن جيانغ تحدت سجانيها بكتابة الشعارات على جدران زنزانتها داعية ل "قطع رأسها"، و هي بذلك تريد إحراج التحريفيين أمام شعوب العالم. و قد حدث أن طلبت لقاءا مع دينغ كسياو بينغ، رأس الأفعى، إلا أنه رفض، لأنه على ما يبدو غير قادر على رفع التحدي في مواجهتها، لأنه يعرف أنه متورط حتى النخاع في خيانة الثورة البروليتارية الصينية.
استنفرت جيانغ جينغ كل طاقتها من أجل الاستمرار في فضح التحريفيين، فقد كتبت داخل السجن عدة مقالات تدين فيها التحريفيين لتسليط المزيد من الأضواء على حقيقتهم، و قد طلبت المشاركة في مؤتمر الحزب الثاني عشر، الذي كان من المقرر عقده في صيف 1982 حتى تتمكن من عرض آرائها السياسية، لكن أنى لها ذلك، فلن يسمح الخط اليميني أن يحاكمه الخط الثوري لأنهم يعرفون أنها ستفحمهم و لها صولات في ذلك، و في ذلك قامت جيانغ بتفعيل الشعار الماركسي- اللينيني لماو تسي تونغ القائل : "علينا السباحة ضد التيار" و هو المبدأ، الذي يجب أن يتحلى به كل ثوري ماركسي- لينيني داخل الحزب من أجل الدفاع عن مواقفه.
في السنة الموالية تم تخفيف عقوبة الإعدام إلى السجن مدى الحياة، فقد أبقوها على قيد الحياة، لكن في حقيقة الأمر فهم يهيئون لاغتيالها داخل السجن، و هو إعدام تم تحت جنح الظلام، فبقاء جيانغ حية، حتى وإن كان السجن مدى الحياة هو أمر مزعج للتحريفيين، ويجب قطع دابر هذا الخط الثوري، الكابوس الذي يجب التخلص منه.
ظل الشعب الصيني مساندا لجيانغ في محنتها رغم كل الآلة الجهنمية الدعائية التي وظفها الانقلابيون ضدها،  من أجل تشويه سمعتها و تسويد صفحاتها البيضاء في القتال من أجل الدفاع عن الخط الثوري، خط ماو، إذ يقال أن هناك منشورات كانت تتداول في بكين، و شانتونغ مسقط رأسها تدعم الثورة الثقافية و تدين السلطة الموالية للرأسماليين، كما يحكى أنها منشورات كتبت بخط يدها، تم تهريبها من السجن سنة 1980، و في نهاية هذه السنة طبعت رسالة في الصين، و أرسلت سرا إلى الماركسيين – اللينينيين خارج البلاد، أشادت فيها جيانغ بالموقف المدافع بشجاعة عنها وعن شانغ شون شياو، و شرحت بعض الصعوبات في الخط السياسي، الذي حال دون قيام الثوار بالعمل بسرعة لاستعادة السلطة بالقوة بعد انقلاب 1976، إنها مناشدة من طرفها للشعب للحكم على السنوات الأربع تحت دكتاتورية البورجوازية، و في وقت لاحق أكدت مصادر يابانية، أن هذه الرسالة تعممت عبر العديد من المنشورات في جميع أنحاء الصين، و أنه كانت هناك حتى دعاية تحريضية مفتوحة في الشوارع (و هذه مؤشرات تدفع التحريفيين إلى التسريع بالتخلص من جيانغ عن طريق الاغتيال).
كان ماو يدرك تمام الإدراك أن رفيقته جيانغ ستكون محط انتقام من طرف الانقلابيين، و هو انتقام موجه إليه في المقام الأول، ما دام ذنب جيانغ ليس إلا أنها اتبعت خط ماو، الخط البروليتاري، إنهم ينتظرون بكل شغف اختفاء ماو عن مسرح الحياة لكي يعملوا بكل راحة.
قبل وفاته في 9 شتنبر 1976، قام ماو بمهمتين، الأولى، أنه ذهب إلى المكتب السياسي، و الثانية، كتب رسالة إلى جيانغ في شهر يوليوز. في اجتماع المكتب السياسي، ألقى اللوم على اليمين، الذي كان يتمنى موته القريب لمواصلة تنفيذ مؤامراته، و بنفس النبرة ذكر أن الاتحاد السوفياتي و الولايات المتحدة الأمريكية كانوا أعداء. و بالنسبة لرسالته إلى جيانغ، فتعبر عن حالة من التحدي في ما يأتي، رسالة لا تخلو من النقد الذاتي الحاد، و يحث جيانغ على القتال من أجل استعادة السلطة المغتصبة.
"لقد خدعت، منذ اليوم سننفصل، كل منا سيكون في عالم مختلف، و يبقى كل واحد منا في سلام. من المحتمل أن تكون هذه الكلمات القليلة آخر رسالة سأخبرك بها. الحياة البشرية محدودة، لكن الكفاح الثوري لا حدود له. خلال كفاحي في هذا العقد الماضي، حاولت الوصول إلى قمة الثورة، دون أن أستطيع الوصول إليها للأسف، و الأمر متروك لك لتسلقها إلى أعلى مستوياتها، إذا فشلت فستغرقين في هوة لا قرار لها، سيتم سحق جسمك، و سيتم كسر عظامك". لقد كان استشراف ماو في محله، لأنه يعرف ما يستطيعه التحريفيون، لقد سحق حقا جسم المرأة و تم كسر عظامها، عندما اغتالوها، و لا أحد يدري كيف كانت طريقة الاغتيال.
هذه الكلمات الأخيرة من ماو كانت في الواقع موجهة ضد التحريفيين، اللذين احتفظوا بالسلطة، و الذين سعوا إلى خلق انشقاق بين ماو و زوجته، و كان هذا هو السياق، الذي أطلق ماو فيه النداء التالي: "ساعدوا جيانغ جينغ على التلويح بالعلم الأحمر".
إذا كان ماو قد حث في نهاية حياته الثوار على مساعدة جيانغ على التلويح بالعلم الأحمر، فذلك لأنه كان يعلم أنها الوحيدة، من المستويات العليا في الحزب الشيوعي الصيني القادرة على القيام بذلك.
إنها رسالة تطوق عنق جيانغ، و ما عليها إلا أن تكون في مستوى هذه المهمة الجسيمة، و قد كانت حقا وفية لما جاء في الرسالة، و محاكمتها كانت خير دليل، فقد دافعت باستماتة عن خط ماو، و هي بين القضبان و أفحمت جلاديها من التحريفيين، حتى أنهم كانوا في عجلة من أمرهم للتخلص من كابوس يقض المنام اسمه جيانغ جينغ.
و إذا كان ماو قد دعم جيانغ، فإن هذه الأخيرة قد دعمت ماو خلال كل هذه السنوات التي كانت فيها رفيقته و زوجته، و التي تربو عن 38 سنة، عندما قاتلا سويا لصنع الثورة، لكن هل كان هذا الاتحاد في النضال مفروشا بالورود، بكل تأكيد فالجواب بالنفي، ففي سيرورة هذا النضال كان لابد من حل بعض الخلافات بين الرفيقين الشيوعيين البروليتاريين.
إذا كان لجيانغ أي ذنب ارتكبته، فتساقطت عليها الاتهامات كالمطر، فذنبها الأول و الأخير، أنها امرأة تجرأت على الكفاح من أجل بلوغ مرتبة في السلطة داخل الثورة، فحسب من ما زالت المبادئ الكونفوشيوسية تسري في دمائهم، على جيانغ ان تكون في هامش السلطة لا في معمعانها، والأحرى أن تكون قائدة فيها.
حرص الأعداء السياسيون لجيانغ جينغ على إبراز المرأة أمام  الشعب و أمام العالم، أنها هي فقط امرأة و زوجة رئيس تبحث عن إثبات الذات و إبراز شخصها، فحرصوا كل الحرص أن تظل خارج دائرة الشأن العام، لكن المرأة ما لبثت تبرهن عن ثوريتها و شيوعيتها منذ أن حلت بيانان، و قد وجدت كل الدعم و المساندة من طرف ماو، منذ أن تعرف عليها لأول مرة، إلى آخر رمق في حياته، فالخط الصحيح الذي سارت عليه لم تخطئه عين ماو، لذلك عندما قادت الثورة الثقافية الصينية، فقد أهلها لذلك ثوريتها التي أبانت عنها لأكثر من38 سنة، و لم تبدل تبديلا.
لم يكن غائبا عن ذهن ماو أن رفيقته في النضال و الثورة ستجد الطريق سالكة، فقد كان متأكدا أنه ستلاحقها الهجمات الشخصية، و لم يكن غائبا عن ذهن جيانغ أنه سيكون عليها خوض معارك نارية و نضالا شرسا ضد كل اشكال الاضطهاد، لقد ناضلت ضد الاضطهاد الإقطاعي، و ضد التقاليد البالية، و ضد الاضطهاد الجنسي، الذي يحدد للمرأة المكان الذي يجب أن تشغله داخل المجتمع.
لقد تعامل التحريفيون مع جيانغ جينغ بالمنطق الكونفوشيوسي حول المرأة و الأسرة، و بما أن الكونفوشيوسية تؤمن بمبدأ تحمل المرأة لكل أخطاء زوجها، فعلى جيانغ جينغ أن تتحمل كل أخطاء زوجها ماو.
بكل تأكيد، فقد أثرت الشائعات البغيضة و الهجمات الحقيرة الصادرة من أعداء ماو على حياتها الشخصية، لكن لم يكن لها تأثير على حياتها العامة، فقد كانت جيانغ تعرف كيف تفصل بين الاثنين، و هي التي تعرف كيف أن هزيمتها هي انتصار للأعداء، لكن الشيوعية حتى النخاع التي كانتها فوتت عليهم هذا الانتشاء بالنصر، كانت جيانغ تحارب على جميع الجبهات و تصارع في كل مكان، ففي حياتها السياسية، دأبت جيانغ دائما على حث النساء على التمرد ضد القمع الجنسي، و قاتلت في مجال الفن، كي لا  يبقى تحت هيمنة الذكور، وكم سطرت من الملاحم في هذا الشأن قبل الثورة الثقافية و في معمعانها. في المسرحيات التي كانت تنتجها، كانت نساؤها البطلات هن أولئك النساء اللواتي كما تقول"خلصن أنفسهن من النير الخانق للماضي ليتولين دورا ثوريا"، و في السناريوهات التي كان تكتبها كانت تحرص على أن تكون البطلات نساء ثوريات، و ذلك في محاولة لتخليص الفن من طابعه الباترياركي، و كان هذا واحدا من أهداف الثورة الثقافية، التي كانت رائدتها. و لجيانغ أيضا معارك مشت بذكرها الركبان فيما يتعلق بالقيادة داخل الحزب، فرغم ان الحزب الشيوعي الصيني كان يجسد التحرر الشامل، فمع ذلك لم ينج من تأثيرات مجتمع شبه إقطاعي، شبه استعماري، و بالتالي كان الحزب صورة مصغرة عن المجتمع الصيني، فبحكم أنه منبثق من اضطهاد قديم، فلا زال هناك الكثير يستوجب محاربته من أفكار متخلفة فيما يخص النساء، و قد كانت جيانغ جينغ من قاد هذه المعركة بكل الصلابة الممكنة و الصراع الذي كان بلا هوادة.
كان لزاما على الحزب و هو الذي يتبنى المبادئ الشيوعية، أن يحارب العادات القديمة، و طرق التفكير التي كانت سائدة، و كان لزاما عليه أيضا أن يجند النساء لشن حرب التحرير ضد كل ما هو عتيق. وبعد التحرير قام الحزب بعمل كثير من أجل كسر الحواجز التي تواجه النساء، و تمكينهن من المشاركة في الإنتاج على قدم المساواة مع الرجال، كما تم تشجيعهن على الانضمام للحزب.
كما خاض الحزب صراعا إيديولوجيا من أجل تمكين النساء من التحرر، لكن لإحداث التحويل المنشود في التباينات بين الرجال و النساء بشكل عميق، فلا يمكن الزيادة في سرعة ذلك، إلا في سيرورة البناء الاشتراكي، ولن يتحقق ذلك إلا بانخراط النساء في صراع حقيقي يقضي على النظام القديم، و بإحداث ثورة في إيديولوجية الشعب، و لن يسمح ذلك إلا بالسلطة في أيدي البروليتاريا، و هذا ما ناضلت من أجله جيانغ جينغ، نضال من أجل التحرر حتى أخر نفس، فكانت هذه القائدة الشيوعية الثورية مصدر إلهام لنساء الصين، و ذلك لانتزاع "نصف السماء" كما يقول ماو تسي تونغ.
موت جيانغ جينغ : اغتيال عن سابق إصرار و ترصد
سيظل موت جيانغ جينغ مشبوه طالما لم يثبت العكس، فكل المؤشرات تدل على أن أيدي التحريفيين ملطخة بالدماء، و أنهم متورطون حتى النخاع في جريمة الاغتيال، التي حولوها ادعاء و بهتانا إلى قضية انتحار، إنه الخداع الذي يتقنه التحريفيون بكل براعة، فليست جيانغ جينغ، البروليتارية الثورية، التي واجهت العواصف، التي كانت تحيط بها من كل صوب، بكل شجاعة الشيوعيات الثوريات، من يقدم على الانتحار، فالانتحار لغة الجبناء، و كانت جيانغ جينغ تلك المرأة القوية، التي لا تهزها أية ريح مهما كانت عاصفة، و لا تهاب خوض المعارك الكبرى، و كانت في سجنها لا يلهج لسانها إلا بضرورة الاستيلاء على السلطة، و بالتالي كان عندها أمل أن تعيش هذا الحدث، فكيف لها أن تنتحر كما يزعم جلادوها .
كان الانقلابيون في عجلة من أمرهم للتخلص من هذا الكابوس الذي يدعى جيانغ جينغ، فقد أدانت المجازر في تينانمن، و قالت أن النظام لا يمكن أن يعيش طويلا، فهي مصرة على إجهاض مخططات التحريفيين، فكان لزاما عليهم أن "يتغذوا بها قبل أن تتعشى بهم"، و أن يسرعوا القتل قبل أن تحشد المزيد من التعاطف من الشعب الصيني و شعوب العالم، هي التي ما فتئت تحظى بالحب وسط الشعب الصيني و شعوب العالم.
لم يصدق الشعب الصيني فرضية الانتحار، و هو أمر كان محط شك أيضا من طرف علماء الحضارة الصينية، فالمرأة كما تحكي ابنتها التي زارتها آخر مرة، كانت بصحة جيدة و تتمتع بمعنويات مرتفعة، كما يكون دائما الشيوعيون الثوريون، و كيف يمكن لمن كان مقبلا على كتابة سيرته الذاتية أن يوقف مشروعه فجأة؟ و من جهة أخرى هل كان غائبا عن السجان ما يدور في الزنزانة، و هي التي تتعقبها الكاميرات ليل نهار؟
لقد ظن الانقلابيون أنه بتصفية جيانغ جينغ، سيصبحون مطمئنين إلى حسن المآل، و أنهم أقنعوا الصينين و العالم بصحة رواية الانتحار، وأن ما سيقدر عليه الشعب الصيني أنه سيبكي قائدته البروليتارية و يرثيها و ستهدأ الأمور، غير أنه حدث ما لم يكن يتوقعه القادة الجدد للنظام، حيث ستخلق وفاتها مشكلا عويصا لهم، فقد امتلأت بكين بملصقات الاحتجاج، و شعارات تقول "عاش الخط الثوري لماو تسي تونغ! الموت للحزب الشيوعي المزيف لدينغ كسياو بينغ!"، بل علقت صور بزي عسكري لجيانغ جينغ، كتب فيها "الرئيس ماو تسي تونغ لن ننساك أبدا!"، كل هذا من شأنه أن يربك القادة التحريفيين، و حتى لا تخرج الأمور عن سيطرتهم، و ينقلب كل شي ضدهم، حظر دينغ كسياو بينغ بيع أي كتب و مستندات حول جيانغ جينغ، بل حتى صورها القديمة تم حظرها، كما لم يعد مسموحا عرض الأوبرا و البالي الثوري على أجهزة التلفزيون و الراديو، كل ما من شأنه أن يذكر بجيانغ جينغ تم منع تداوله، لقد نهجوا سياسة المحو للمرأة، كأن لسان حالهم يقول الاشتراكية كانت قوسا فتحناه، و نحن اليوم نغلقه بتصفية أهم ما يذكر به، جيانغ جينغ، كان هذا أملا في إسقاطها من ذاكرة الصينيين و كل شيوعيي للعالم، لكن شبح جيانغ جينغ سيظل يطاردهم .
لقد دفعت جيانغ جينغ بالثورة إلى أعلى قمة عرفتها البروليتاريا العالمية، لقد أرادت أن تسير بالثورة حتى النهاية، و كانت واعية بالعقبات التي ستعترضها، و كانت تعرف مدى شراسة خصومها و حقدهم عليها، و أن جريمتها الوحيدة هي انها رافقت ماو على درب الثورة و كانت عضده، الذي لا يلين، لكن كان عليها أن تستمر في صناعة التاريخ الصيني جنبا إلى جنب مع الجماهير البروليتارية الصينية، فقد آمنت بصحة الثورة الثقافية البروليتارية و التجربة الصينية الاشتراكية ككل، لذلك لم تبدل تبديلا، لقد انبرت للدفاع عن العلم الأحمر، و صممت على رفعه فوق الوحل، وحل التحريفية .
لقد كتبت جيانغ جينغ فصلا رائعا من تاريخها، و استطاعت أن تلهم بفضل حزمها وإصرارها ملايين الأشخاص عبر العالم، لقد كانت صرامتها الإيديولوجية مثار إعجاب، لم يستثن حتى التحريفيين أنفسهم.
لقد فضحت الطبيعة الحقيقية للتحريفيين أمام الشعب الصيني و شعوب العالم، و استهزأت بسجانيها، و لم تسع إلى تبييض اسمها، فهو أبيض لامع عند الشعب الصيني.
خلاصة
"لقد نجحت فيما قمت به!" هكذا صاحت جيانغ جينغ و كلها ثقة بنفسها بعد محاكمتها، تلك المحاكمة، التي ظلت وصمة عار تاريخية على جبين التحريفية، لقد حاولوا تدمير بطولتها الثورية، و لم يجدوا من صفة يلصقونها بها سوى اتهامها بالتطلع إلى أن تصبح امبراطورة .
كانت حياة جيانغ تعكس التزامها الثابت بالبروليتاريا و ثقتها في الجماهير و انتصار القضية الشيوعية، لقد ظلت تلوح بالراية الحمراء، ولم تتعب من التلويح بها إلى آخر نفس، و إذا كان لابد من وضع عنوان لمسار امرأة ثورية بروليتارية فذة، فإنه يمكن القول :
جيانغ جينغ، الشيوعية الثورية البروليتارية : قضية عادلة أمام محكمة التاريخ.