بين ثلاث معتقلات (الحلقة الثانية)...


جاسم ألصفار
2019 / 6 / 14 - 01:24     

بعد معتقل الامن العامة تم نقلنا انا وابي واخي وعدد من المعتقلين الاخرين الى معتقل الفضيلية الذي كان اشبه بمركز احتجاز لمعتقلين بتهم تنوعت بين الجريمة العادية والسرقة والاغتصاب وتهريب وترويج المخدرات وغيرها الى جانب المتهمين بممارسة النشاطات السياسية أو المغضوب عليهم من النظام السياسي القائم. وكما تنوعت التهم التي بسببها تم احتجاز مرتكبيها او المتهمين بارتكابها فقد تنوعت مباني المعتقل.
كانت هنالك الصالات الكبيرة او القواويش المنفصلة عن بعضها ببوابات صغيرة، وقد حشرت فيها فئة السجناء العاديين الذين لا نفوذ لهم ولا حظوة في المعتقل بينما خصصت غرف منفصلة صغيرة تتوفر فيها بعض وسائل الراحة للمعتقلين المتنفذين من امثال جبار كردي وعمار علوش وهما من كوادر البعث القديمة وشقاواته، وقد كانت لهم سطوة بعد انقلاب شباط الاسود في عام 1963 وكانوا من المسؤولين عن حمامات الدم ضد الشيوعيين في معتقل قصر النهاية السيئ السمعة.
جرى حشرنا في احد القواويش الذي كان اغلب المحتجزين فيه بتهم سياسية. وقد بدى لي بعد تعرفي الاولي على المعتقلين، بحسب طبيعة علاقتهم بنا، ان هنالك تصنيف للقواويش وفقا لنوعية التهمة، وأغلب الظن ان هذا التصنيف قد حصل حسب العرف وليس بتخطيط من ادارة السجن. اضافة الى القواويش والغرف الخاصة كانت هنالك زنازين السجن الانفرادي، وقد عرفت ان من بين المحتجزين هناك (كريم حواس) شقيق (مطشر حواس) عضو تنظيم القيادة المركزية والذي اصطدم بقوى الامن في ساحة الميدان وجرح بعضهم بطلق ناري قبل ان يقتل.
كما عند الكاتب الروسي فيودر دستيوفسكي في (ذكريات من بيت الموتى) التي يحكي فيها عن علاقة السجناء في سجن اومسك السيبيري به، والتي تميزت في البداية بالشك وبعض من الكراهية بسبب انحداره من طبقة النبلاء وعلاقته هو بهم كسجناء غلاظ النفوس، ثم تبدلت هذه العلاقة لتحل محلها علاقة ان لم تكن ودودة فهي طبيعية. فقد تغيرت علاقتنا بغيرنا من المعتقلين بغض النظر عن طبيعة التهم الموجهة لهم واصبحت اكثر ايجابية وودية.
توطدت العلاقة بجبار كردي الذي وجد في حضورنا متنفس له للحديث عن امور يهتم بها كالسياسة والتاريخ السياسي للعراق، وقد افاجئ البعض ان ذكرت بانه قد اظهر اهتمامات ادبية وخاصة بالادب السوفيتي مما اوجد ارضية للحوار في مجالات انسانية. وربما ان ما عزز العلاقة معه اننا قد تجاوزنا اي حديث عن تاريخه الشخصي الدموي. ومما لاحظناه عليه هو انفتاحه علينا (أنا ووالدي) بحيث انه كان يطرد وكلاء الامن في المعتقل من الاقتراب الى مجالسنا.
تفاجأنا يوما ان جبار كردي كان يجلس حزينا منهارا ويردد بانه سيكشف كل شيئ قبل ان ينالوا منه، وفهمنا منه انه قد سمع خبر صدور قرار بنقله من سجن الفضيلية الى قصر النهاية. أذهلني ان ارى جبار كردي الذي كان يظهر للجميع جبروته وقوته يخاف من الة التعذيب والقتل التي استخدمها بنفسه في زهق ارواح بريئة. وعلى اي حال فالخبر كان غير دقيق لان القرار الذي صدر بحقه هو اطلاق سراحه من سجن الفضيلية ليصفى فيما بعد خارج اسوار السجن.
أما عمار علوش فلم يكن سوى شخصية قميئة، كان جبار كردي يحتقره. وهو من جانبه كان يحسد جبار كردي على نفوذه وسطوته في معتقل الفضيلية ويتمنى ان يحضى باهتمام السياسيين به كما هم يهتمون بجبار، وكان عندما امر بغرفته يدعوني لتبادل الحديث معه ويفتخر كما جبار بانه قرأ "كيف سقينا الفولاذ" للكاتب السوفيتي نيكولاي استروفسكي اضافة الى كتابات مكسيم غوركي، ولكن شخصيته الى ان غادرت معتقل الفضيلية لم تولد عندي اي ثقة بانه يمكن ان يتمسك في ساعة بمفاهيم الانسان وهموم المجتمع.
الشخصية الاخرى التي بودي الحديث عنها في هذه الحلقة هي شخصية الشرطي (هتلر) الذي كان يعمل في مركز شرطة قريب من وزارة الدفاع. كان (هتلر)، وهذا هو اسمه الحقيقي، متزوج من قريبة له عضوة في الحزب الشيوعي العراقي وكانت تختزن في بيتها اسلحة وقنابل يدوية خاصة بالحزب. عند عودته في احد الايام الى بيته لاحظ وجود رجال امن امام باب بيته فسألهم عن غايتهم، ولكنهم حال ما عرفوا بانه صاحب الدار اعتقلوه واتهموه بخزن اسلحة في داره.
زوجة (هتلر) تمكنت من الفرار قبل وصول رجال الامن، أما هو فتعرض لصنوف التعذيب وهو لا يعرف اي شيئ عن الاسلحة التي في داره، وبعد ان يئس المحققون من الحصول على معلومة مفيدة منه قرروا احتجازه في سجن الفضيلية لحين الوصول الى زوجته. وفي احد الايام جيئ باحد اقارب زوجة (هتلر) الى معتقل الفضيلية. فتم فسح مجال له لوضع فراشه في نفس القاووش الذي كنا نحن فيه، وصادف ان يكون هذا المكان قريبا مني فاستمعت الى حديثه مع (هتلر) الذي كان يهدد بتطليق زوجته بينما قريبها يقنعه بالحفاظ عليها كونها قريبته واضاف الى حججه دعوى جعلتني اضحك طول اليوم وهي انها كانت تحتفظ بكل تلك الاسلحة لحمايته الشخصية فرد عليه (هتلر) بسذاجة " يعني شلون اذا فد يوم اتعارك ويه جاري تكوم هيه تضربه بقنبله...."
بهذه النهاية المرحة اختتم الحلقة الثانية من مذكراتي، متمنيا مواصلة كتابة الحلقة الثالثة غدا