دعه يعمل دعه يمرّ، ولكن!


علي عامر
2019 / 6 / 9 - 15:50     

دعه يعمل دعه يمرّ، ولكن!

مدخّل مبسّط:

تنقسم المدارس الاقتصاديّة بشكل عام من حيث دور الدولة في الاقتصاد، إلى ثلاثة مدارس رئيسية،

المدرسة الأولى: التطرّف في إلغاء دور الدولة،
أفضل مثال هنا هي مدرسة شيكاغو، التي ترى أنّ أي تدخّل للدولة في شؤون السوق والاقتصاد لا بد وأن يأتي بأضرار وخيمة، وأنّ تدخّل الدولة والحكومة وسياساتهما الاقتصاديّة والماليّة في السوق هو منبع كل الشرور والأزمات الاقتصاديّة.
تصل هذه المدرسة في رفضها لدور الدولة حداً غريباً وكوميديّاً من التطرّف، فهي ترفض على لسان بعض منظريها، أن يكون للدولة دور في إصدار تراخيص المهن للأطباء والمحامين، أو دور في تنظيم حركة السير، وغيرها.
تعود جذور هذه المدرسة، إلى أطروحات آدم سميث، أبو الاقتصاد الحديث، كما يحلو للبعض تسميته.
اعتقد آدم سميث بوجود يد خفيّة أو إلهيّة تدير وتنظّم السوق نحو التوازن، فمحرّك الناس الأساسي هو المصلحة الفرديّة، وأنّ تحرّك كل فرد نحو مصلحته الضيّقة، سيقود نحو تحقق المصلحة الجماعية للجميع (ارتفاع معدلّات النمو والإنتاجيّة وانخفاض البطالة والفقر) مما يعزز الانسجام والاتساق في المجتمع.
يستند آدم سميث في تطوير نظريته الاقتصاديّة إلى الفلسفة الطبيعية التي تبلورت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والتي تفترض أنّ الطبيعة قادرة على تحقيق التوازن بين جميع الكائنات والممالك، وعليه نظر سميث للاقتصاد نظرة طبيعيّة، تفترض أنّ قوى السوق (العرض والطلب وغيرها) قادرة على تحقيق التوازن والمصحلة بشرط عدم تدخّل الدولة. مكثفّاً نظريته في مقولة (دعه يعمل دعه يمر) وهي مقولة تعبّر عن الدعوة لفتح الأسواق ورفع القيود عنها.
يعتبر آدم سميث الأب الروحي لليبراليين، الذي يدعون إلى تحرير الأسواق وتقويض دور الدولة، إلّا أنّ الليبراليين المحدثين أو المتأخرين، أغفلوا ثلاثة مكوّنات مهمّة من نظرية سميث.

المكوّن الأوّل:
مطالبة سميث بدور للدولة في الدفاع عن الحدود، وإنشاء البنية التحتيّة (طرق، كهرباء، شبكات مياه، مدارس، مستشفيات وغيرها) وتطويرها. في بعض الأحيان يتم ذكر هذا الجزء وتداوله.

المكوّن الثاني:
مطالبة الدولة بمنع أي شكل من أشكال الاحتكار، لحماية التنافس الكامل والعادل بين جميع المكوّنات الاقتصاديّة في المجتمع، حيث تنبأ سميث أنّ نمو الاحتكارات من شأنه أن يقوّض التنافس وبالتالي يقوّض الأسس التي بنى عليها نظريته، ونتائجها، أي الانسجام والتوازن بين الجميع.
هذا الجزء المتعلّق بدور الدولة في منع الاحتكار يتم إغفاله بشكل متعمّد ودائم عن باقي أفكار سميث.

المكوّن الثالث:
البعد الأخلاقي لسميث، حيث كان من أشدّ معارضي الفقر والبطالة والاستعمار، ووضع نظريّته على اعتبار أنّها حلّ لهذه المشاكل، لذا إن ثبت عدم قدرة نظريّته على حل تلك المشاكل، فهي مرفوضة بنظر سميث نفسه، على اعتبار أنّ أساسها وسببها لم يتحققا.

المدرسة الثانية: المطالبة بدور محدود ومؤقت للدولة،
أسطع مثال تاريخي على هذه المدرسة، هي الكينزيّة، التي جاءت نقداً للنظريّة الليبراليّة التي أثبت الكساد العظيم لعام 1929 فشلها بشكل حاسم.
طالب كينز بدور مدروس ومحدد ومؤقت للدولة، خاصّة في فترات الكساد أو الركود، ممثّلاً بتعزيز الانفاق الحكومي لتعزيز الاستثمار والاستهلاك وتسريع الخروج من الكساد أو الركود.
تغفل هذه المدرسة حقيقة اقتصاد-سياسيّة مهمّة،
وهي أنّ الدولة في النظام الرأسمالي، ليست جهازاً محايداً، بل على العكس، فهي أداة إداريّة تخضع لمصالح الطبقة الأقوى والأكثر سيطرة،
يتفّق آدم سميث مع هذا التعريف للدولة الذي تبنّاه لاحقاً ماركس وإنجلس ولينين ومعظم الماركسيين بعدهم.
أيّ أنّ تدخل الدولة دائماً سيكون لصالح الطبقة الأكثر قوّة، وعادةً ما تكون طبقة الأقليّة المتنفّذة في كلّ نظام، أي أنّ تدخل الدولة لن يأتي بأي حلول للأزمات والمشاكل الاقتصاديّو السياسيّة والاجتماعية، بل سيعززها ويعمّقها.

المدرسة الثالثة: المطالبة بدور مركزي للدولة في التخطيط وتوجيه وادارة الاقتصاد (رأسماليّة الدولة)
تغفل هذه المدرسة أيضاً تعريف وطبيعة الدولة ودورها في تنفيذ مصالح طبقة النخبة المتنفّذة في الاقتصاد،

لذلك، كان أحد أهم ركائز الماركسيّة (التي طالبت بدور مركزي للدولة في المرحلة الانتقاليّة من الاشتراكيّة إلى الشيوعية)، أو بدقّة أكبر النظرية الاشتراكيّة العلميّة، ضرورة استحواذ الطبقات المسحوقة على الدولة، وتوظيف جهازها للقضاء على الاحتكارات والملكيّات الخاصّة ووضع وتنفيذ الخطط الاقتصاديّة والسياسيّة والتربويّة والعسكريّة وغيرها نحو التحوّل الاشتراكي، وعند القضاء على آخر ملكيّة خاصّة ينتهي دور الدولة التاريخي، فيتحوّل المجتمع تدريجيّاً من النظام الاشتراكي (دكتاتوريّة البروليتاريا) الانتقالي نحو النظام الشيوعي، باضمحلال دكتاتوريّة البروليتاريا نفسها.

من الجيّد ذكره، أنّ دور الدولة في السوق، اختلف عبر التاريخ الحديث باختلاف الزمان والمكان، فعلى سبيل المثال، تأرجح النظام السياسي في الولايات المتحدّة بين تعظيم دور الدولة أو تقزيمه باختلاف الحقبة الزمنية، ونرى أنّ ترمب ليس إلّا تجسيداً لمحاولة الاقتصاد الأمريكي منح دور أكبر للدولة في السوق، جاء هذا التوجّه كرد فعل على الأزمة الماليّة العامّة لعام 2008.
وبشكل عام وبكثير من التبسيط، زاد تدخّل الدولة أم انخفض، لن تستطيع الرأسماليّة الخروج من أزماتها إلّا نحو أزمات جديدة أكثر عمقاً وأشد اتساعاً.