الدولة هوية


معتز حيسو
2019 / 6 / 7 - 13:38     


مدخل:
شرائح وفئات اجتماعية واسعة، ينظرون إلى السلطة على أنها الدولة. أي أنهم يدمجون الدولة بالسلطة، ولا يفرقون بينهما. وذلك لأسباب يتعلق بعضها بالوعي السياسي، وأخرى بآليات عمل السلطة السياسية المسيطرة على كامل تفاصيل الدولة ومستوياتها. لدرجة يمكننا القول أن السلطة تبتلع الدولة وتتقيأها أدوات قهر تستعملها ضد الفرد والمجتمع والدولة. وحكَّامنا عموماً يستخدمون مؤسسات الدولة وظيفياً لتأبيد سلطتهم. ما يؤدي في حالات كثيرة لتحويل الدولة لدولة سلطة، وأيضاً إلى ساحة صراع على السلطة «ضدها ومن أجلها» ومن يخرج عنها أو يخالف رموزها فهو من وجهة نظرهم معاد للدولة، وخائن للوطن الذي يتم اختزاله وكذلك الدولة والمجتمع بشخص الحاكم. ويتساوق ذلك مع اشتغال من يسيطر على السلطة ويحتكر المجال العام على إبقاء الدولة برحم السلطة. ما يستدعي التركيز على تجفيف المجتمع من نخبه الثقافية ـ السياسية المعارضة، وإغلاق أبواب المجتمع أمام حركة التطور والتغيير. وجميعها عوامل أدت إلى عدم إنوجاد الدولة في الضمير العام للأفراد. فكانت دولنا وما زالت فاقدة للشرعية أمام شعبها. وكما هو معلوم فإن انفتاح المجتمع وتخلّص النخب الثقافية والأكاديمية من قيود السلطة، يشكل الأساس المعرفي والعلمي والسياسي للدولة. وهو بذات اللحظة يحصّن الدولة والمجتمع من تغوّل الفكر السلفي المقترن بحركات جهادية تتمدد في غير بلد عربي. لكن أوضاع الدولة بتركيبتها وبنيتها الراهنة يشير إلى عجزها عن تمثّل تعدد الهويات الثقافية للمجتمع. ويتزامن ذلك مع إشكالية في الوعي السائد، وبشكل خاص وعي النخب السلطوية. ويتجلى ذلك بعرقلة أو منع نشوء دولة حديثة تعبّر عن هوية مواطنيها ومصالحهم. ويتقاطع ذلك مع اشتغال الليبرالية الجديدة على تحويل رأس المال المالي لقوة غيبية تسحق المجتمع، وتجعل من الأفراد مجرد أدوات له، والمال قوة سلطوية مادية.
من جانب آخر، تجلت أزمة النظام العالمي النيو ليبرالي، في سنوات أزمتنا المتمددة، من خلال تمكينها هويات قبلية، وأخرى سلفية جهادية، وتحويلها إلى أدوات للقتل والدمار. ويفاقم من مخاطر تجذير تلك الهويات. أنها تشتغل على تقليص شأن الدولة وتضخيم ذواتها الأنوية. وسهّل من ذلك أن هوية دولنا ما زالت تعبيراً عن هوية حكامها.
ــ الأوضاع السورية: نظرة من الداخل:
تشكل مآلات هوية الدولة السورية المستقبلية، والسياق الذي يتم فيه إعادة تشكيلها سياسياً واقتصادياً، أحد أسباب قلق السوريين. ولا نقصد هنا بنية السلطة، أو تركيبتها فقط. فالعلاقة التي تربط بين بنية السلطة وآليات اشتغالها، وبين هوية الدولة وبنية السلطة الداخلية،عميقة جداً. وكذلك هي العلاقة بين الأجهزة السلطوية والدولة والسياسات العامة والكلية.
نشير بداية إلى أن المدخل لتحديد هوية الدولة السورية التي يتم الاشتغال على إنتاجها، يستدعي التدقيق بكافة العوامل المؤثرة. وجميعها يقع في سياق تحولات مترابطة ومتداخلة وأحياناً متناقضة. وليس أدل على ذلك من التداخل بين المستويين السياسي والاقتصادي من جانب،
وبينهما وبين عوامل إقليمية ودولية حولت الأزمة السورية إلى نقطة صراع واستقطاب عالمي إقليمي ودولي.
لذا فإن معالجة إشكالية إعادة تشكيل هوية الدولة السورية يحتاج لوضعها في السياق العام، وأيضاً فكفكة تعقيدات الأزمة السورية وتداخل مستوياتها الداخلية مع مستويات إقليمية ودولية تشكل أحد مستويات الأزمة السورية الأساسية.
المنطلق الأول: يرتبط المستوى الاقتصادي مع العوامل والمستويات الاجتماعية كافة، وبشكل خاص المستوى السياسي. وهو يحددها ويتحدد بها.
لقد بات واضحاً أن تحولات الاقتصاد السوري تتجه إلى تعميق أسوء نماذج النيو ليبرالية. هذا في لحظة تتوالى فيها الموجات الاحتجاجية في غير دولة ضد تغوّل النيو ليبرالية المتناقضة مع المعايير الديمقراطية وقيم العدالة الاجتماعية التي وضعت مداميكها الليبرالية بمرحلتها الثورية. ويتساوق ذلك مع تنامي حركات اليمين المتطرف، وتجدد الخطاب القومي الشعبوي، وتراجع دور الدولة الرعائي أمام زيادة حدة الاحتكار والاستقطاب المرتبط بتغوّل أثرياء العالم والشركات العابرة للحدود والجنسية. بهذا المعنى فإن العالم يقف على أعتاب أزمة بنيوية عامة وشاملة تهدد النظام العالمي بمزيد من التناقضات والتصدع.
معلوماً أن تجار الحرب السورية، ومن يرتبط معهم من أصحاب القرار، لا يعملون فقط على توظيف ما غنموه من الحرب السورية، أو غسيل أموالهم القذرة في مشاريع وهمية. لكنهم يشتغلون على تمكين نموذج ريعي يستطيعون من خلاله توظيف أموالهم القذرة واستثمارها بمشاريع تحاكي مصالح الشرائح الأغنى من المجتمع السوري. ويتزامن ذلك مع الاستيلاء على أملاك مهاجرين، أو من لا يستطيع إثبات ملكيته، إضافة إلى استغلالهم خوف المهاجرين السوريين من العودة إلى مناطقهم المحررة نتيجة عوامل متعددة.
إن سيطرة حيتان المال السوريين وشركات الاستثمار الخارجية على مستقبلنا، يقترن بتعميق علاقتهم الحميمية مع> أصحاب القرار السياسي<. ويتزامن ذلك مع استمرار احتكار جهات نافذة لمصادر الثروة، والامتناع عن الاستثمار بمجالات التنمية الاجتماعية والبشرية والإنتاجية، وإنهاء دور الدولة الاجتماعي والتنموي، مقابل حماية مصالح المستثمرين والشركات ورجال المال. ويكشف عن ذلك الاستمرار بتحرير الاقتصاد. ما يُنذر بمزيد من البؤس والإفقار والتهميش والإقصاء وارتفاع مستوى الاستقطاب الاجتماعي وازدياد شدة التناقض الطبقي. وجميعها يفضي لاتساع وتفاقم حدة الاحتقان الاجتماعي، وأيضاً حصول مزيد من الانهيارات والتصدعات المجتمعية. بالمقابل يرى أصحاب القرار إن الدمار والقمع والخوف والتهجير الذي يعني منه السوريين، سيدفعهم للخضوع.
وإذا كانت غير دولة وشركة استثمار، ينتظرون استقرار الأوضاع السورية لمباشرة استثماراتهم. فإن معطيات متعددة تشير إلى أن غير دولة، إضافة لشركات استثمار، يستثمرون فعلياً في البنى التحتية الاقتصادية والعمرانية، ومصادر الطاقة..... مع ذلك يستمر التنافس الإستثماراتي المعلن وأيضاً المخفي. وجميعها يشير إلى أنه سيتم تمكين نموذج اقتصادي نيو ليبرالي يفتح سورية أمام التدخلات الخارجية بأشكالها المختلفة. وذلك يفاقم من التخلع البنيوي والهيكلي للاقتصاد السوري، ويهدد بتفاقم أزمة السوريين واستمرار غياب العدالة الاجتماعية، ومن تداعيات الحرب وعمليات النهب والاستغلال... علماً أن الأغلبية المطلقة من السوريين تقع بين خطي الفقر الأدنى والأعلى.
المنطلق الثاني المستوى السياسي:
أولاً: أوضاع السلطة: من الواضح أن مجمل التحولات الدولية والإقليمية المتعلقة بالشأن السياسي والميداني تصب لصالح النظام السوري. لكن ذلك لا يمنع من التساؤل عن مدى استقرار أوضاعه، ودرجة استقلاليته، ودوره في الأزمة السورية، وعن جديته في الاشتغال على معالجة أسبابها وتداعياتها. علماً أن رموز النظام وأبواقه في الداخل والخارج وأيضاً حلفاءه يؤكدون انتصارهم على المعارضة السورية، والتحالفات الدولية الداعمة لها. لكن ذلك لا يعني نهاية المطاف. فواشنطن قادرة على التأثير المباشر وغير المباشر. ويتزامن ذلك مع كثير من الخلافات والتناقضات التي تعاني منها الدول الضامنة. ويكشف عن ذلك اختلاف آليات اشتغالها ومصالحها، وميولها السياسية.
وذلك يستدعي الإشارة إلى هشاشة أوضاع النظام الذاتية. وتأثير التكتلات السياسية والاقتصادية المتعايشة بكنف السلطة، وجميعها يعمل لتمكين وجوده بإطار الخارطة السياسية المقبلة. علماً أن مستقبل أياً منها يتحدد من منظور فاعليتها الذاتية. وبدرجة اندماجها بأصحاب القرار الفعليين، والفاعلين الإقليميين والدوليين. وجميعها يشير إلى صعوبة التوصل إلى استقرار حقيقي.
ثانيا: أوضاع المعارضة السياسية: فيما يتعلق بالمعارضة المدعومة أمريكياً، أو التي تستمد حضورها من التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن. سيكون مألها مزيد من التصدع وانعدام الفاعلية. ويفاقم من تردي أوضاعها انسحاب واشنطن المحتمل والمزعوم من شرق الفرات وباقي المناطق المتواجدة فيها. ويتقاطع ذلك مع تراجع غير دولة عن دورها الداعم لتلك المعارضات. وأيضاً عن سياساتها العدائية للنظام. أما الدول الضامنة للنظام وأطراف من المعارضة، فإن تأثيرها سيكون الأبرز. لكنه سيبقى متأثراً بتباين مصالح أطرافها من النظام والمعارضة. وأيضاً بمواقف دول التحالف. وجميعها عوامل تفاقم من إشكالية الأوضاع السورية، ومن تأزم الوضع الكردي وإشكالية مستقبلهم السياسي المرتبط بتناقض المواقف الدولية.
إن طبيعة علاقة واشنطن ومن يصطف خلفها، مع الدول الضامنة، سيؤثر عميقاً بهوية الدولة السورية وطبيعة النظام السياسي المقبل. ورغم الاضطراب الظاهري الذي يكتنف العلاقة بين تلك الأطراف. فإن ثمة تنسيق وتعاون براغماتي تسووي بينها. ما يضفي على المشهد السوري مزيداً من الالتباس والغموض. تحديداً في ظل تزامن الأوضاع المذكورة مع غياب فاعلية أطراف المعارضة وارتهانها مع السلطة الحاكمة للخارج. وليس جديد أن غير دولة مؤثرة في الأوضاع السورية تتعامل مع الملف السورية بكونه موضوعاً للاستثمار.
ثالثاً: أما فيما يتعلق بأوضاع المواطنين السوريين بشكل عام، ودرجة تأثيرهم السياسي. فإن الحرب السورية حولتهم لأرقام مجردة لا علاقة لهم بقضاياهم. وتم احتجازهم عن الممارسة السياسية. وفي حال استحضارهم للمشهد السياسي فإنه يتم في سياق إعلامي وظيفي. فأطراف الصراع أخرجت منذ البداية، العقلانيين والموضوعيين وأصحاب المصلحة الحقيقية بالتغيير السياسي السلمي من دائرة الفاعلية السياسية. والأكثر كارثية تمثل بتحويل المواطن السوري إلى وقود للحرب. والمتطرفين بغض النظر عن انتماءاتهم إلى أدوات للصراع.
من جانب آخر يمكننا ملاحظة انكفأ كثير من السوريين عن التعبير عن ذاتهم وعن المشاركة بصناعة مصيرهم. تحديداً بعد إدراكهم حجم المشاريع الخارجية المتناطحة على أرضهم، ومدى القمع الذي يمكن أن يتعرضوا له. لكن، وبفعل استفحال أزمتهم الاقتصادية. فإن ثمة أشياء مستبعدة حالياً يمكن أن تحصل. منها الاحتجاج ضد سياسات الإفقار الناجمة عن تحرير الاقتصاد، وفتح البلاد للخارج، تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي والتنموي. وبحال تمكنت المعارضات الوطنية من إعادة إنتاج ذاتها من منظور عقلاني، يمكن أن نشهد متغيرات واسعة على المستويات كافة، وبشكل خاص السياسية منها والاقتصادية. ونؤكد أن ميول السياسات العامة للدولة وكيفية تعاملها مع ملف إعادة الإعمار الذي ستشارك به غير دولة. سيكون له بالغ الأثر على أوضاعنا. كذلك فإن درجة الإفقار والإقصاء السياسي والتهميش والهشاشة سينعكس على طبيعة وشكل ومستوى مشاركة السوريين السياسية. علماً أن الأوضاع السورية ستبقى محكومة بالأوضاع الإقليمية والدولية الحاكمة لسياقات الحل السياسي ومآلاته.
ــ أي دولة يريد بناءها السوريين؟
يطمح السوريون لبناء دولة تمثل إرادتهم الحرة وتضمن عيشهم المشترك. دولة يكون فيها المجال العام مفتوحاً على الحرية. ومجالاً للتنافس والتعاون المدني السلمي الديمقراطي. فهوية الدولة تتعلق باستقلال قرارها وسيادتها غير المنقوصة على كامل مساحتها الجغرافية، ويحددها دستور يريده السوريين أن يكون ضامناً لحقوقهم الأساسية والسياسية والمجتمعية، ومدخلاً لبناء مجتمع مفتوح للسوريين كافة، وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، الإثنية، العرقية، والعشائرية، ويحدّ من تحويل الدولة لدولة سلطة، أو إلى دولة فئوية، حتى لو كانت تلك الفئة تمثل أكثرية عددية. وأن تكون السلطة تحت إشراف المجتمع، وأحد أدوات المحافظة على كرامة المواطن وحريته. فبناء الدولة من منظور حقوق المواطنة والحريات والعدالة الاجتماعية يرتبط بالمشاركة السياسية وتحرير طاقات المواطن الإبداعية وقدراته التعبيرية الكامنة. وأيضاً بإعلاء قضايا المواطنة كهوية قائمة بذاتها ولذاتها وفي ذاتها، وفوق كافة الهويات الأخرى.