مستقبل ثورة بلد المليون شهيد الثانية


رضي السماك
2019 / 6 / 6 - 20:17     

لا يمكن فهم معضلة مراوغة الجنرالات في مواجهة الحراكين السوداني والجزائري الجاريين ومحاولة المؤسسة العسكرية في كلا البلدين لأن يكون لها نصيب اليد الطولى في تقاسم السلطة مع قوى الحراك ينتهي بعودتهم من الشباك للإنفراد بالسلطة مجدداً ومن ثم الإجهاز على مكاسب الحراك - كما حدث مصر في أعقاب ثورة يناير مطلع العقد - من دون فهم طبيعة وتكوين وتاريخ المؤسسة العسكرية العربية وبخاصة بعد نيل بلدانها استقلالها الوطني . فعلى خلاف الأنظمة الديمقراطية الغربية المستقرة والتي حُيدت المؤسسة العسكرية دستورياً عن التدخل في العمل السياسي الداخلي بصفتها حامية للنظام الدستوري القائم وتتولى حماية حدود البلاد والأمن القومي أو أداة الدولة لتنفيذ سياساتها ومصالحها وتحالفاتها العسكرية الخارجية ، فإن بلداننا العربية مثلها في ذلك مثل معظم الاقطار الإفريقية وجل أقطار أمريكا اللاتينية عانت طويلاً من تعاقب الانقلابات العسكرية والحكم الدكتاتوري للعسكر تحت ذرائع ومبررات وشعارات شتى لم يكن بعيداً عنها المسألة الفلسطينية والوحدة العربية ، ولا سيما بعد نكبة 1948 التي هُزمت فيها جيوش سبع دول عربية أمام إسرائيل . ولم يكن انقلاب الضباط الأحرار في مصر يوليو / تموز 1952 الذي عُرف لاحقاً ب " ثورة يوليو " وتم بفضله جلاء قوات الاحتلال البريطاني اسثناءً ، وإن تمكن تحت قيادة جمال عبد الناصر الكاريزمية من اجراء تحولات اجتماعية مهمة ذات منحى إشتراكي . أما قبل هذا الإنقلاب فقد شهدت سوريا في عام 1949 ثلاثة انقلابات متوالية لحسني الزعيم ثم سامي الحناوي وأديب الشيشكلي ، ثم جرى انقلاب على هذا الأخير عام 1954 . وفي العراق وعلى الطريقة المصرية جاء انقلاب 14 يوليو / تموز 1958 على أيدي الضباط الأحرار الذي عُرف بثورة 14 تموز بقيادة عبد الكريم قاسم وتحقق بفضله أيضاً جلاء القوات البريطانية ومكتسبات اجتماعية هامة في فترة وجيزة . وفي نفس هذا العام وبعد عامين فقط من استقلال السودان وقع انقلاب إبراهيم عبود ، ثم جرى في عام 1961 انقلاب الإنفصال السوري عن دولة الوحدة المصرية - السورية المتسرعة بقيادة عبد الكريم النحلاوي ، تلاه انقلابه الثاني 1962 ، وفي عام 1963 وقع في العراق انقلاب التحالف البعثي - الناصري على حكم عبد الكريم قاسم بدعم من عبد الناصر ، وهو من أكثر الانقلابات العسكرية دموية حيث طال شرائح واسعة من المدنيين الحزبيين وغير الحزبيين ، وبخاصة في صفوف الشيوعيين والرموز والشخصيات الديمقراطية المستقلة ، وسرعان ما انقلب الناصريون على شركائهم في الانقلاب في نوفمبر / تشرين الثاني من نفس العام بقيادة عبد السلام عارف ، وقبل ذلك وتحديداً في عام 1962 وقع الانقلاب اليمني بقيادة عبد الله السلال ضد الإمام يحي بدعم من مصر الناصرية ، ولم يمض سوى عامان من انتصار ثورة الجزائر واستقلالها عن فرنسا حتى وقع انقلاب هواري بومدين على أول رئيس لدولة الإستقلال أحمد بن بيلا عام 1965 . وفي سوريا جرى انقلاب البعث السوري في مارس / آذار 1963 ثم تبعه انقلاب عسكري لجناح آخر من نفس حكم البعث في فبراير / شباط 1966 ، وبعد هزيمة 1967 ، وتحديداً في نوفمبر / تشرين الثاني من عام 1970 جاء إنقلاب وزير الدفاع حافظ الأسد على الرئيس نور الدين الأتاسي الذي عُرف بحركة التصحيح ، وقبله في العراق وقع انقلاب البعث العراقي الثاني في يوليو / تموز من عام 1968 ، وفي سنة 1969 وقبل رحيل الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعام واحد وبضعة شهور وقع انقلابان قوميان مؤيدان له في السودان وليبيا بقيادتي جعفر نميري ومعمر القذافي . وأخيراً جاء انقلاب عمر البشير في السودان على الحكومة المدنية المنتخبة برئاسة الصادق المهدي في 30 يونيو / حزيران 1989 . والذي أطلق عليه ثورة أو حكم الإنقاذ بالتحالف مع الشخصية " الإخوانية " القوية و زعيم الجبهة القومية الإسلامية المعروف حسن الترابي المخطط لسيناريو الإنقلاب .
ويلاحظ الباحث اللبناني السوسيولوجي فؤاد إسحاق الخوري إن محاولة الانقلابات العسكرية بعد استلام الضباط الأحرار في مصر في أعقاب إنقلابهم على النظام الملكي واستقرار الحكم في يد زعيم الإنقلاب جمال عبد الناصر بدت متعسرة مقارنة بتعدد الإنقلابات في سورية والعراق ( الخوري ، العسكر والحكم في البلدان العربية ، دار الساقي ، 1990 بيروت ، ص 10 ) ، وإن كان في واقع الحال تمكن جناحا حزب البعث في هذين القطرين من الإمساك بكل قوة بمفاصل المؤسسة العسكرية بحيث غدت فرصة أي انقلاب جديد مستحيلة ، وهو ما حدث فعلاً ، فلم يمكن إسقاط حكم صدام حسين ممكناً إلا بغزو اميركي خارجي ، أما النظام في سوريا فلم يعد له مستقبل يراهن عليه حتى لو استتب الوضع الحالي في صالحه بعد انتهاء كارثة تدخل الجماعات المسلحة الارهابية والتدخل الأجنبي الامريكي والايراني والتركي المباشر أو بالوكالة على خلفيات قمعه للإنتفاضة الشعبية السلمية لشعبه عام 2011 .
على أن المؤسسة العسكرية الجزائرية التي تحكم اليوم عملياً في الجزائر وتواجه أول ثورة شبابية مستقلة في تاريخ البلاد مطالبة بالتغيير والإصلاح والتغيير والديمقراطية بعد ثورة التحرر الوطني المسلحة ( 1954 - 1962 ) هي - المؤسسة العسكرية - وريثة جيش التحرير الوطني الجزائري وتختلف ظروف شرعية الحكم التي تحكم بإسمها منذ تحقق الإستقلال الوطني عن الجيوش والمؤسسات العسكرية العربية الآنفة الذكر التي اُنشئت أو اُسست في المشرق العربي ، ففي واقع الحال إذ اكتسبت هذه المؤسسة سمعتها الشعبية الداخلية وفي صفوف حركة التحرر الوطني العربية العالمية للدور الذي لعبته في خوض حرب التحرير ضد المستعمِر الفرنسي منذ نوفمبر / تشرين الثاني 1954 ، والتي عُرفت بثورة المليون شهيد ، فإن هذا الرصيد قد استنفد وتآكل بعد ولادة أكثر من جيل لم يسمعوا بالأجداد الذين حكموا دولة الإستقلال بعد تحررها من الإستعمار الفرنسي وانسدت أمامهم ، بسبب احتكار الطبقة أو النخبة السياسية الحاكمة للسلطة المزمن وتغييب إعادة بناء الدولة على اُسس دستورية ديمقراطية يجري فيها تداول السلطة والفصل بين السلطات الثلاث ، أية فرص للآمال للتعبير عن تطلعاتهم وحقوقهم المشروعة في الوظيفة والمشاركة السياسية وسائر حقوقهم المعيشية والسكنية والإجتماعية الاخرى .
ويعود جزء مهم في المعضلة الراهنة التي تتحملها الممؤسسة العسكرية إلى أنه في عز حرب التحرير تمكنت فرنسا من العمل على إيجاد ظهير لها من المتعاونين المدنيين والعسكريين الموالين لتتمكن من خلالهم ضمان استمرار نفوذها ومصالحها بعد إجبارها على الرحيل من أرض الجزائر الذي أضحى أمراً لامفر لها منه ، فقامت بالتسلل إلى جيش التحرير الوطني من خلال هؤلاء الفارين من جيش الاحتلال الفرنسي الملتحقين بجيش التحرير ، وعلى الأخص في أواخر خمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي وذلك بغرض أن تكتسب وجوههم الصفة الشرعية لصفة المجاهدين غداة استقلال الجزائر ، وبحيث يكون هؤلاء هم عماد تأسيس الجيش الوطني للدولة الفتية المستقلة .
ومع أن ثمة أعداداً أو نسبة من الفارين من الجيش الفرنسي أثبتوا شرفهم وضحوا من أجل استقلال بلادهم ، لكن ثمة نسبة اخرى لا يُستهان بهها من الفارين الفرانكوفيين الذين تم مسخهم عن هويتهم الوطنية واتسمت توجهاتهم بالنزعة التغريبية . وهذه الفئة لعبت على الدوام داخل المؤسسة العسكرية واذرعها داخل الادارة المدنية دوراً تخريبياً -كقوى مضادة للثورة - لعرقلة المشروع الوطني الجزائري لتحقيق التعريب وبناء المؤسسات الديمقراطية ، ولا سيما بعد انقلاب بومدين في يونيو / حزيران عام 1965 على الرئيس بن بيلا وحيث جرى إبعاد قوى اليسار الوطني والشيوعيين ، فقد استغلوا هذا الإنقلاب ليحلوا محل مايُعرف بالإطارات أو الكوادر المحسوبة على أحمد بن بيلا التي تم تطهيرها من مؤسسة الجيش والاجهزة البيروقراطية الجديدة . لكنهم وجدوا سانحتهم أو ضالتهم على وجه الخصوص غداة وقف المسار الانتخابي الذي فازت فيه الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة عباسي مدني وعلي بلحاج بأغلبية المقاعد البرلمانية في ديسمبر كانون / الاول من عام 1991 ، ما مكنهم من الأنقضاض على السلطة وممارسة سياسة القمع والتسلط والاقصاء بإسم مقاومة الجماعات الارهابية الاسلامية ، ودخلت الجزائر عندئذ في نفق مُظلم طويل من الارهاب الأسود والعنف الوحشي المتبادل طوال عقد كامل فيما عُرف ب " العشرية السوداء " حتى أواخر التسعينيات ؛ ولم يجد ضباط الجيش المتنفذون أمام انسداد مأزق التسوية سوى استدعاء عبد العزيز بوتفليقة ليترشح في انتخابات عام 1999 ودعمه بقوة مما اضطر المرشحون الآخرون الإنسحاب ومن ضمنهم حسين آيت أحمد ومولود حمروش وأحمد طالب الإبراهيمي بعدما أيقينوا بأنه يُراد إخراج مسرحية انتخابات صورية أشبه بالاستفتاء ليتربع بوتفليقة على سدة الحكم طوال عشرين سنة كاملة ، وهو كان من أبرز المؤيدين لإنقلاب بومدين على بن بلة عام 1965 ، وترددت شُبهات قوية بتورطه في الفساد بعد وفاة بومدين عام 1978 الذي خلفه الشاذلي بن جديد ، وصدر أمر بتوقيفه مطلع الثمانينيات مما اضطره لمغادرة البلاد واختياره الإمارات للإقامة فيها ، لكن سرعان ما أعفى عنه الرئيس بن جديد وطُوي ملف قضيته . لكن بدلاً من أن يثبت تجرده ونزاهته طوال ولايات حكمه الأربع المتعاقبة فتح المجال لحاشية فاسدة من عائلته والموالين له لبناء مراكز قوى وشبكة من المصالح واستمر في الحكم رغم أن حالته الصحية في الولاية الرابعة قد ساءت واُخضع لعدة عمليات في الخارج أجبرته لاستخدام كرسي متحرك ، وبات واضحاً ثمة عصابة متنفذة منتفعة من استمراره شكلياً في الحكم ودفعه للترشح لولاية خامسة حتى وهو على تلك الحالة الصحية الحرجة التي لا تمكنه من إدارة البلاد ، وقد أساء مشهده بالكرسي المتحرك مع الإعلان عن ترشحه لولاية خامسة إلى سمعة نظام جمهوري شُيّد بدماء ثورة المليون شهيد في ظل انسداد الاْفق أمام الشباب الذين يشكلون 45 % من تعداد السكان الذي تجاوز الاربعين مليون نسمة ، وهو ماأدى إلى تفجر غضبهم المكتوم في فبراير / شباط الماضي وأجبره أو حاشيته على التراجع عن الترشيح ، وبفضل حراك الشباب وحده سرعان ما تكشفت ملفات رموز حاشية الرئيس العائلية وتقرر القبض عليها وعلى رأسهم شقيقه سعيد والمتنفذون من حوله من رجال أعمال كالاخوة الثلاثة كونيناف ملاك أكبر مجموعة مقاولات ، ووزير الطاقة الأسبق شكيب خليل ، ورجل الاعمال علي حداد الذي يملك أكبر شركة مقاولات ، ولم يجد الحزب الحاكم الوحيد جبهة التحرير الوطني الجزائرية الذي ظل يحكم بإسم الشرعية الثورية طوال أكثر من نصف قرن مناصاً من تقديم الاعتذار للشعب لإصراره على دعم رئيس فقد كل مبررات استمراره في الحكم وقدرته على اداء مهامه .
وفي الوقت الذي بات الرهان على المراوغة يضيق على فلول حكم الدكتاتور عمر البشير ممثلاً في مجلس الحكم العسكري الانتقالي الذي أراد استثمار الحراك الجماهيري الشبابي ودور قوى الحرية والتغيير في مساندة هذا الحراك وقيادته أظهر نفسه صاحب الفضل في اقصاء البشير وكشف فساده فإنه لجأ إلى ارتكاب مجزرة فجر اليوم الأخير من رمضان لفض إعتصام الشباب العُزل السلمي أمام مقر الجيش وحرق خيامهم ورمي جثث قتلاهم برصاصه الغادر في مياه النيل ، وحيث جوبهت مجزرته بأشد الاستنكارات والتنديدات الدولية وأخذ يتخبط في تبرير حماقته الفاشية تارة بترحيبه باستمرار التفاوض وتارة باستهدافه مجموغة من المجرمين ؛ وأخيراً قام بتحديد موعد للانتخابات خلال تسعة شهور بالتزامن تماماً مع فشل هذه الدعوة من طرف واحد في الجزائر التي حُددت في 4 يوليو بعد أن قرر المجلس الدستوري الغاء موعدها مؤخراً .
والحال لم يعُد لحكم العسكر اليوم في الجمهوريات العربية الذين يحكمون بشكل مباشر أو غير مباشر من مستقبل سياسي فقد استنفذوا تاريخياً كل رصيدهم الشعبي وانكشف الوجه القبيح لحكمهم الاستبدادي ، وليس لهم من خيار سوى التجاوب مع إرادة وتطلعات شعوبهم في التغيير نحو إقامة أنظمة دستورية ديمقراطية حقة تكفل حقوق المواطنة والمساواة وكرامة المواطن التي طالت حقب استباحتها على أيدي هذه الأنظمة العسكرية الجمهورية التي جاءت بعد تحقق شعوبها الاستقلال الوطني .