تونى كليف ضد القضية الفلسطينية ؟


سعيد العليمى
2019 / 6 / 1 - 22:15     

ترجمة سعيد العليمى
حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة يوسي شوارتز
( التيار الشيوعى الاممى )
مايو 2013
مقدمة هيئة التحرير : الوثيقة التالية المقدمة من الرفيق يوسي شارتز تمثل اسهاما كبيرا فى جانبين . فهى تحدد اولا الموقف الماركسي من دولة الاستعمار الاستيطانى اسرائيل ، ظهورها وحربها الرجعية عام 1948 – التى يسميها الصهاينة بلغة اورويلية حقيقية " حرب الاستقلال " . يضاف الى ذلك ، ان الوثيقة هامة ايضا فى فهم تاريخ موقف الاممية الرابعة من الصهيونية والنضال من اجل التحرر القومى فى فلسطين . ويبين الرفيق شوارتز بصفة خاصة ان القوى التروتسكية الصغيرة فى فلسطين تحت قيادة تونى كليف ( الذى اصبح فيما بعد مؤسس التيار الاشتراكى الوسطى الاممى وخاصة حزب العمال الاشتراكى البريطانى ) لم تفهم ابدا المسألة القومية فى فلسطين واخفقت فى ان تتخذ موقفا ثوريا . لقد كان واحدا من تجليات عملية تحللها الوسطى ان الاممية الرابعة اخفقت فى ان تتخذ موقفا انهزاميا ثوريا ضد اسرائيل فى حرب عام 1948 وموقفا دفاعيا ثوريا مع البلدان العربية .
والمؤلف يوسي شوارتز ، هو بالتأكيد واحد من اكثر الاشخاص ملائمة لتناول هذه الموضوعات . فهو اسرائيلى – يهودى تروتسكوى معاد للصهيونية وقد كان نشطا لعدة عقود ودائما ماانحاز للنضال التحررى الفلسطينى بالكلمات والافعال . وهو قائد مخضرم فى العصبة الاشتراكية الاممية التى انضمت حديثا للتيار الشيوعى الثورى الاممى واصبحت فرعه فى فلسطين المحتلة / اسرائيل .
يعمل الرفيق يوسي شوارتز حاليا على موضوع الموقف الماركسي من حروب اسرائيل المتواترة فى التاريخ . وهذه الوثيقة هى الاولى فى سلسلة من المقالات المخطط لها حول الموضوع . ونحن نأمل ان تشجع هذه الوثيقة المناقشة وسط القوى الثورية الجادة فى كل من فلسطين المحتلة / اسرائيل وكذلك على الصعيد الاممى .
******************************
ان الحرب التى جرت عام 1948 من جانب القوى المسلحة الصهيونية ضد الفلسطينيين والدول العربية لم تكن حربا بين دولة امبريالية ( لم تكن اسرائيل دولة امبريالية بعد ) والمستعمرات او شبه المستعمرات . لقد كانت حربا بين اسرائيل التى كانت شبه مستعمرة بناها المستعمرون المستوطنون من جانب بينما كان الفلسطينيون شعبا مستعمرا مضطهدا ومعهم الدول العربية التى كانت شبه مستعمرة من جانب آخر . بالنسبة لهؤلاء الذين يستخدمون المنطق الشكلى لم يكن امرا سهلا بالنسبة لهم ان يختاروا جانبا . اليوم اغلب من يدعمون الفلسطينيين سوف يوافقون على انه كان من الضرورى الانحياز للفلسطينيين والدول العربية اثناء الحرب . وإن كانوا سيجدون بعض الصعوبة فى تفسير لم يتعين عليهم مساندة الدول العربية التى كان " يحكمها " الملوك الذين كانوا يخدمون السادة الامبرياليين البريطانيين والفرنسيين بوضوح .
ان حجة كثير من انصار قضية الفلسطينيين العادلة يطرحون انه كان من الضرورى الوقوف ضد اسرائيل فى الحرب لأن اسرائيل كانت مجتمعا مستعمرا مستوطنا قمعيا – وهى حجة معممة . حين حاربت بريطانيا ضد 13 مستعمرة امريكية فى حرب الاستقلال الامريكية ( 1775-- 1783) فقد كان القسم التقدمى والثورى من الانسانية فى جانب المستعمرين المستوطنين الامريكيين حتى عندما اضطهد هؤلاء المستعمرون الهنود الاصليين . لقد كان من الضرورى الدفاع عن الهنود ضد المستوطنين البيض والدفاع عن المستوطنين المستعمرين ضد الامبراطورية البريطانية لأن الامبراطورية البريطانية كانت العدو الأسوأ . ولايمكن لأحد ان يظن ان الامبراطورية البريطانية قد حاربت فى صف الهنود . وهؤلاء الذين رفضوا الوقوف مع المستعمرين الامريكيين ضد الامبريالية لم يساعدوا الهنود وانما الامبرياليين .
ترتبط مسألة هل كان من الواجب تأييد او معارضة اسرائيل فى حرب 1948 بالطبع بمسألة : هل يؤيد الماركسيون حق تقرير المصير للاسرائيليين ؟
يمكن فقط لنظرة الطبقة العاملة الاممية التى ترى وحدة العالم من خلال المنظور الثورى للعمال فى الاقسام غير المتساوية لكن المركبة - يمكن ان تقدم الاجابة النظرية على حرب 1948 .
وقعت حرب 1948 فى عصر انحلال الراسمالية . وهكذا بينما كانت حرب الاستقلال الامريكية المرحلة الاولى من ثورة ديموقراطية اكتملت بانتصار الشمال على الجنوب فى الحرب الاهلية 1861 – 1865 ، اما اسرائيل فمع انها دولة امبريالية ، فهى لم تمر ابدا ولم يكن ممكنا ان تمر بثورة ديموقراطية بسبب طبيعة هذه الفترة وطبيعة الصهيونية . واسرائيل لاتستطيع ان تعطى للفلسطينيين حقوقا متساوية لأنها لن تصبح دولة ذات اغلبية يهودية من المواطنين بعد ذلك . وسوف تفقد شرعية الوجود وسوف يتعرض كل جهاز دولتها السياسي والعسكرى للتهديد . سوف يعنى هذا انتحارا لإسرائيل وهو الامر الذى لن يقوم به الوحش . وهذا هو سبب ان مطلب اقامة جمهورية ديموقراطية واحدة من النهر الى البحر لايمكن ان يتحقق دون ثورة اشتراكية .
الهدف الصهيونى من حرب 1948
اذا كانت اسرائيل مجتمعا تقدميا واذا كانت تحارب حربا ثورية معادية للامبريالية فى 1948 كما ادعى الستالينيون فى هذا الوقت ، فقد كان الحاصل فى المنطقة سيكون اضعاف الامبريالية في الاقليم . وقد حدث العكس فى العالم الفعلى .
يكفى ان تقرأ المقالات ، واليوميات ، واحاديث القادة الصهاينة ، لتدرك ان الهدف الصهيونى من حرب 1948 كان تحطيم واجبار الفلسطينيين على ترك وطنهم . ويظهر ايضا ان الصهاينة قد صيغوا على شاكلة افريكان جنوب افريقيا . ويصبح هذا واضحا من كلمات القادة الصهاينة انفسهم .دعونا نقتبس اولا كلمات فلاديمير جابوتينسكى ، قائد الصهاينة التحريفيون .
" لابد أن ينتهى الاستعمار الصهيونى او ان يتحقق بدون اعتبار لارادة السكان الاصليين . يمكن لهذا الاستعمار من ثم ان يستمر ويتطور فقط تحت حماية قوة مستقلة عن السكان الاصليين – حائط حديدى لايمكن ان يخترقه السكان الاصليون . وهذه اجمالا سياستنا تجاه العرب وصياغة المسألة على اى نحو آخر سيكون نفاقا " ( 1 )
اعلن جابوتينسكى فيما بعد " القانون الحديدى لكل حركة استعمارية ، القانون الذى لايعرف استثناء ، القانون الذى وجد فى كل الازمنة وتحت كل الظروف . هو انه اذا رغبت فى ان تستعمر بلدا يتواجد فيه سكان بالفعل لابد ان تكون هناك حامية فى صفك . او – او عليك ان تتخلى عن استعمارك ، لأنه بغير قوة مسلحة تجعل من المستحيل ماديا اى محاولات لتدمير او منع هذا الاستعمار ، فإن الاستعمار مستحيل ، وليس " صعبا " ، وليس " خطرا " وانما مستحيلا ...الصهيونية مغامرة استعمارية ومن ثم تصمد او تسقط ارتكازا على مسألة القوة المسلحة . من المهم ان نبنى ، من المهم ان نتحدث العبرية ، لكن لسوء الحظ فإن الاكثر اهمية هو ان نكون قادرين على اطلاق النار – بخلاف ذلك أنت تعبث بالاستعمار " ( 2 )
قال جوزيف وايتز رئيس قسم الاستيطان بالوكالة اليهودية : " هناك البعض ممن يعتقدون ان السكان غير اليهود ، حتى وان كانوا بنسبة عالية داخل حدودنا فسوف يخضعون بشكل اكثر فعالية لرقابتنا ، وهناك البعض ممن يعتقدون العكس اى انه من الاسهل ان ننفذ المراقبة على انشطة جار اكثر مما لو كانوا مقيما . ( انا ) اميل لدعم وجهة النظر الاخيرة ولدى حجة اضافية (... ) وهى ان هناك حاجة لتعزيز طابع الدولة التى ستكون على ذلك يهودية ( ... ) ومعها أقلية غير يهودية لاتتجاوز 15 فى المائة . لقد سبق وتبنيت هذا الموقف الاساسي بشكل مبكر يعود الى عام 1940 ( و ) قد اثبته فى يومياتى " ( 3 )
لقد كتب دافيد بن جوريون ، رئيس الوزراء اللاحق لدولة اسرائيل فى 1937 فى خطاب لابنه عن الخطط الصهيونية لطرد الشعب الفلسطينى : " لابد ان نطرد العرب ونأخذ اماكنهم " ( 4 )
تشدد مقتطفات اخرى من بن جوريون على خطط التوسع الصهيونى : " لابد ان نستعد حتى ننتقل لمرحلة الهجوم . هدفنا ان نحطم لبنان ، عبر الاردن ، وسوريا . النقطة الضعيفة هى لبنان ، لأن النظام المسلم اصطناعى ويسهل ان نقوضه . سوف نؤسس دولة مسيحية هناك ، وحينئذ سوف ندمر الجيش العربى ونقضى على عبر الاردن وسوف تقع سوريا فى أيدينا . ثم نقصف ( ونواصل الاستيلاء على بورسعيد ، والاسكندرية وسيناء " ( 5 )
وقد ذكر اسحاق رابين فى يومياته : " لقد مشينا خارجا ، يصحبنا بن جوريون . وكرر ألون سؤاله ، ماذا سنفعل بالسكان الفلسطينيين ؟ اشاح بن جوريون بيده بإشارة تومئ الى ان " نلقى بهم فى الخارج " ( 6 )
وفيما بعد سوف يعبر رئيس الوزراء مناحم بيجن عن نزعته العرقية الصهيونية بصراحته الوحشية فى حديث للكنيست ( البرلمان الاسرائيلى ) : " عرقنا هو العرق السيد . نحن آلهة خالدون على هذا الكوكب اننا متميزون عن الاعراق الادنى مثلما يتميزون هم عن الحشرات . وفى الحقيقة فمقارنة بعرقنا ، فإن الاعراق الاخرى بمثابة وحوش وحيوانات وماشية فى افضل الاحوال . بل تعتبر الاعراق الاخرى بمثابة خراء . وقدرنا هو ان نسيطر على الاعراق الادنى . ان مملكتنا الارضية سوف يحكمها قائدنا بقضيب من حديد . سوف تلعق الجماهير اقدامنا وسوف يخدموننا كعبيد " ( 7 )
تبين الباقة الصغيرة من المقتطفات بجلاء الطبيعة الرجعية للصهيونية حينما كانت تخطط لانشاء دولة اسرائيل وحرب الاجلاء الضرورية لها . وبقدر رجعية الحروب الاسرائيلية ، بقدر ماتتمخض علن هزيمتها آثار تقدمية . نستطيع اليوم ان نرى هذا بغاية الوضوح مع هزائم اسرائيل الاخيرة فى لبنان عندما تعين عليها ان تهرب فى منتصف الليل فى عام 2000 ، وفى الحرب الثانية فى لبنان حينما هزمها حزب الله ، وفى حرب السلطة الفلسطينية التى ظاهرتها اسرائيل ضد حماس فى 2007 وفى الحرب الاخيرة ضد حماس فى 2012 والتى كانت جميعها عوامل مهمة فى نشوب الانتفاضة الثانية فى سبتمبر 2000 وكذلك فى الثورة العربية منذ 2011 . لقد اقنعت هذه الهزائم الاسرائيلية الجماهير العربية ليس فقط بأن اسرائيل يمكن ان تهزم وانما يمكن ايضا هزيمة الديكتاتوريين العرب . لو كان المجتمع الاسرائيلى مجتمعا تقدميا لأدى انتصار عام 1967 الى انتفاضة جماهيرية عربية . وفى الواقع ففى اعقاب حرب 1967 شعرت الجماهير العربية بالاذلال والضعف .

الموجة الثورية عقب الحرب العالمية الثانية
اندلعت حرب 1948 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة . ونحو نهاية ح ع ث وماتلاها ، خشت الطبقات الحاكمة الامبريالية من نشوب موجة ثورية جديدة مثل تلك التى انتشرت فى اوروبا وماوراءها عقب الحرب العالمية الاولى . وهى الموجة التى فتحت الابواب لإنتصار البلشفية . وقد عبر سياسي محافظ بارز فى بريطانيا وهو كوينتين هوج عن خوف الرأسماليين واستعدادهم لفعل اى شئ ممكن من اجل احتواء ثورة الطبقة العاملة ، فى عام 1943 بالكلمات الآتية : " لابد ان نعطيهم اصلاحات والا اعطونا الثورة " ( 8 )
وبالفعل فقد انفجرت موجة ثورية فى اوروبا وفى المستعمرات وشبه المستعمرات فى افريقيا وامريكا اللاتينية فى نهاية ح ع ث . لقد فهمت الاممية الرابعة الثورية التناقضات ومصاعب النضال الثورى فى اوروبا . وهكذا كتب جورج نوفاسك وهو احد القياديين التروتسكيين فى الولايات المتحدة .
" لقد ادت المرحلة الاخيرة فى الحرب لهجوم عات من الجماهير بدأ فى ايطاليا وامتد الى كل الاقطار المحتلة . لقد حاز عمال ايطاليا ، وفرنسا ، وبلجيكا ، واليونان الاسلحة وخلقوا تشكيلاتهم العسكرية ، وسيطروا فى اماكن مختلفة على المصانع ، ووسائل المواصلات الخ وانشأوا رقابة شعبية على توزيع الاغذية ، واقاموا العدالة ، واداروا الشؤون المحلية . هذه العناصر الجنينية للسلطة المزدوجة اذا كان قد جرى التنسيق بينها ، وجرى تطويرها وتوسيعها ، لأمكن لها ان تقدم ركيزة للاطاحة الكاملة بالنظام الرأسمالى وتأسيس سيادة الجماهير الكادحة فى هذه البلدان .
لقد حالت ثلاث عوامل اساسية دون اتمام انتصار انتفاضات العمال . اولا عرقلت القوى العسكرية المتفوقة للغزاة الامريكيين – البريطانيين فى تحالفها المضاد للثورة مع الكرملين بوزنها الكلى واعاقت نضالات الجماهير المنتفضة . تآمر الثلاثة الكبار على اقامة حكومات قراقوزية خاضعة لارادتهم . ثانيا ، ان الاحزاب الستالينية والاشتراكية التى والتها الجماهير العاملة تعاونت مع القوى المتحالفة لانقاذ النظام الرأسمالى بنزع سلاح العمال عسكريا وسياسيا . ثالثا ، كانت المجموعات والاحزاب التروتسكية غاية فى الضعف وغير ناضجة لتتدخل كقوة حاسمة وتحتز رأس هذا المرض .
لهذه الاسباب اخفقت موجة الثورة الاولى وقصرت عن تحقيق هدفها عبر كل اوروبا . وتضافر السحق الدموى للمقاومة اليونانية ايلاس – إيام فى اليونان مع الاستسلام المخزى لقيادتها الستالينية امام الثورة المضادة الملكية الرأسمالية التى يظاهرها البريطانيون ، ووسم نهاية الفترة الاولى . ومنذ ذلك الحين حدث هناك تراجع فى المد الثورى . لقد منح ارتداد الهجوم البروليتارى الحكام الرأسماليون فسحة للتنفس وشجعهم على ان يستعيدوا توازنا مؤقتا وغير مستقر .
استغلت بورجوازية اوروبا الغربية بمساعدة واشتراك القادة الستالينيين والاشتراكيين المضللين هذ التوقف لتقوى وضعها المتزعزع ، ولتقوض لمدى ابعد قوة البروليتاريا ، ولتستعد لشن هجومها المضاد الخاص . يوظف الرأسماليون ، والكنيسة ، والجيش قواهم ليحصنوا ويعيدوا تأسيس حكمهم الديكتاتورى . ويتآمرون فى بلجيكا حتى يعيدوا الملك ليوبلد . وهم يساندون نزوع ديجول فى فرنسا لاضفاء شرعية وتدعيم تطلعاته البونابرتية . ويبدى الملكيون والرجعيون الآخرون فى ايطاليا واليونان تحت الوصاية البريطانية وقاحة ونشاطا متزايدة . " ( 9 )
ان قمع الانتفاضات الثورية فى المستعمرات وشبه المستعمرات كان غاية فى القسوة . وقد استطاع الامبرياليون فى بعض الحالات هزيمة الانتفاضات الثورية للطبقة العاملة . وفى بلدان اخرى مثل الصين استطاعوا بمعونة القوميين والستالينيين من منع ثورة الطبقة العاملة ولكنهم لم يستطيعوا ان يهزموا الثورة كليا وهذا يفسر ظفر الثورة الستالينية ذات القاعدة الفلاحية فى عام 1949 .وقد قادت الثورة الظافرة فى الصين الى تكوين دولة عمالية متفسخة . وهذا يعنى انها دولة كان من الضرورى للطبقة العاملة ان تطيح فيها عبر ثورة سياسية بالستالينيين حتى تفتح الطريق الى الاشتراكية . ( وحيث ان هذا لم يحدث فإن الصين اليوم هى دولة رأسمالية امبريالية . )
لقد كانت الثمار الرجعية لحرب 1948 فى فلسطين جزءا من هزيمة المد الثورى فى "العالم الثالث ". واى محاولة لفهم هذه الحرب بمعزل وخارج سياقها التاريخى هى بمثابة طريق مسدود .
تأييد الستالينية لحرب اسرائيل الرجعية عام 1948
عرض الستالينيون الحرب الصهيونية زمن حرب 1948 بوصفها حربا مناهضة للامبريالية ومن ثم اعتبرت نشأة اسرائيل حدثا تقدميا . وفى الواقع فقد مثلت نصرا للامبريالية وحدثا مناهضا للثورة .
وقد كان الحزب الشيوعى الفلسطينى ( ح ش ف ) يتجه للتكامل مع المجتمع اليهودى ( ييشوف ) عام 1943 . حيث عارض التقسيم ودعا لدولة ديموقراطية مستقلة ، وتبنى بشكل متزايد رؤية ثنائية القومية ، مؤسسة على " مبدأ المساواة فى الحقوق بين اليهود والعرب من اجل تطور قومى واقتصادى وثقافى ، بدون عراقيل صناعية وتعاون متبادل استنادا لاخوة الامة " ( 11 ) . وقد سبب هذا التوجه نحو دعم الصهيونية سياسيا انشقاقا فى الحزب الشيوعى الفلسطينى والجناح اليسارى الذى ضم وطنيين فلسطينيين اكثر عرفوا بعصبة التحرر القومى وقد ظهروا فى مواجهة توجه ح ش ف .
وبالرغم من اختلافهما فإن كلا من القسمين قد وافقا على المبدأ الجوهرى لمقاربة ثنائية القومية : الحاجة لمعاملة اعضاء الجماعتين القوميتين بشكل متساو ، سواء كمواطنين فى دولة مشتركة او كأعضاء فى جماعيات قومية تتمتع بنفس الحقوق داخل دولة فيدرالية ، او كمجموعات تتمتع بحق قومى فى تقرير المصير .
اعترف الستالينيون السوفييت بحق تقرير المصير للصهاينة للمرة الاولى فى 1947 فى حديث القاه سفير اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية فى الامم المتحدة اندريه جروميكو .
" من الجوهرى ان نتذكر الحقيقة التى لاجدال فيها وهى ان سكان فلسطين ينطوون على شعبين ، العرب واليهود . وكليهما له جذور تاريخية فى فلسطين . لقد اصبحت فلسطين وطنا لكلا الشعبين ، حيث يلعب كل منهما دورا هاما فى الاقتصاد والحياة الثقافية للبلاد ( ... ) وهكذا ، فإن حل المشكلة الفلسطينية بتأسيس دولة عربية – يهودية واحدة ذات حقوق متساوية لليهود والعرب قد تعتبر احد الامكانات واحدى الطرق الاجدر بالاعتبار لحل هذه المشكلة المعقدة . ان حلا كهذا لمشكلة مستقبل فلسطين قد تكون اساسا معقولا للتعايش السلمى والتعاون بين سكان فلسطين من اليهود والعرب ، وفى صالح كلا الشعبين ولفائدة كامل سكان فلسطين وللسلام والامن فى الشرق الاوسط . ( ... )" واذا ثبت انه من المستحيل تطبيق هذه الخطة بالنظر الى تدهور العلاقات بين اليهود والعرب فسوف يكون من المهم معرفة رأى اللجنة الخاصة فى هذه المسألة – وسوف يكون من الضرورى حينئذ ان ننظر فى الخطة الثانية وهى مثل الاولى ، لها مؤيدوها فى فلسطين ، والتى تطرح تقسيم فلسطين الى دولتين مستقلتين ذاتيا ، واحدة يهودية والاخرى عربية " ( 12 )
من المثير للاهتمام ان نقرأ تقدير التأييد الستالينى لانشاء اسرائيل من قبل نورمان برديشفسكى ، وهو مؤيد متعصب لاسرائيل " لقد اصدرت اشد الشخصيات شهرة وجاذبية فى الجمهورية الاسبانية فى المنفى ، مندوبة اقليم الباسك الى الكورتيس ( البرلمان الاسبانى ) دولوريس ايبارورى ، التى ذهبت للاتحاد السوفييتى ، اصدرت اعلانا فى 1948 حيت فيه دولة اسرائيل الجديدة وقارنت الجيوش العربية الغازية بالانتفاضة الفاشية التى دمرت الجمهورية . وقبلها بشهور قليلة غنى بطل اليسار الامريكى المغنى الشعبى الامريكى الافريقى العظيم بول روبسون فى مهرجان موسيقى فى موسكو حيث صعق الجمهور بعزفه لاغنية بلغة اليديش للمحاربين الانصار .
ان قادة اليشوف ( الجماعة اليهودية فى فلسطين ) انتووا بالفعل فى صيف 1947 ، ان يشتروا اسلحة وارسلوا الدكتور موشى سنيه ( رئيس الفرع الاوروبى للوكالة اليهودية ، وهو عضو قيادى فى الوسط من الحزب الصهيونى العام الذى اوغل فى اتجاه اليسار واصبح قائد الحزب الشيوعى الاسرائيلى ) الى براغ حتى يحسن الدفاعات اليهودية . وقد كان مندهشا من سيل التعاطف نحو الصهيونية وبالاهتمام بتصدير الاسلحة من جانب الحكومة التشيكية .التقى سنيه مع نائب وزير الخارجية فلاديمير كليمنتيس الذى خلف جان ماساريك غير الشيوعى والموالى للصهاينة بشكل قطعى . ناقش كل من سنيه وكليمنتيس امكان توريد اسلحة تشيكية للدولة اليهودية وابدى التشيكيون موافقتهم .
فى يناير 1948 ، ارسل بن جوريون ممثلون يهود ليلتقوا بالجنرال لودفيك سفابودا ، وزير الدفاع الوطنى ووقعوا اول عقد للمعونة العسكرية التشيكية . استعملت اربع طرق للنقل الى فلسطين وكلها عبر البلدان الشيوعية ( ا – الطريق الشمالى : عبر بولندا وبحر البلطيق ، ب – الطريق الجنوبى : عبر المجر ويوغوسلافيا ورومانيا والبحر الادرياتيكى ج – عبر المجر ، رومانيا والبحر الاسود د- جوا عبر يوغوسلافيا الى فلسطين . )
فى البداية استؤجرت طائرة من طراز " سيدة السماء" من الولايات المتحدة لتساعد فى نقل الاسلحة الى فلسطين من اوروبا واضطرتها المباحث الفيدرالية الامريكية الى العودة الى الولايات المتحدة الامريكية . وحوالى نهاية مايو كان جيش الدفاع الاسرائيلى قد استوعب حوالى 20000 بندقية تشيكية ، 2800 مدفع رشاش وحوالى 27 مليون طلقة . وبعدها بأسبوعين وصلت 10000 بندقية اضافية ، 1800 مدفع رشاش وعشرون مليون طلقة . احدالمشروعات التشيكية الاسرائيلية التى ارعبت المخابرات الغربية كان مايسمى باللواء التشيكى ، وهى وحدة مؤلفة من المحاربين اليهود من حركة " حرروا تشيكوسلوفاكيا " التى حاربت مع الجيش البريطانى فى ح ع ث . بدأ اللواء تدريبه فى اغسطس 1948 فى اربع قواعد فى تشيكوسلوفاكيا . واشتملت المساعدة التشيكية لقوة اسرائيل العسكرية على ا – اسلحة صغيرة ب - 48 طائرة – الطائرات العتيقة اس 199 س ، قاذفات وطائرات من طراز ميسرشميدت التى لعبت دورا كبيرا فى اضعاف معنويات العدو ج – التدريب العسكرى والصيانة الفنية . فى 7 يناير ، 1949 اسقطت القوة الجوية الاسرائيلية التى تشتمل على عدة قاذفات وطائرات ميسرشميدت مقاتلات ب ف – 109 ( التى نقلت سرا من القواعد التشيكية الى اسرائيل ) اسقطت خمس طائرات بريطانية بطياريها كانت تطير لحساب القوة الجوية المصرية فوق صحراء سيناء مما سبب احراجا دبلوماسيا كبيرا للحكومة البريطانية .
حتى بالاسلحة التشيكية والمساعدة السوفيتية ، لم تكن اسرائيل قادرة بلاشك على ايقاف الغزو العربى بدون تفق ضخم للقوى البشرية . لم تقدم الولايات المتحدة وكندا واوروبا اكثر من 3000 متطوع ، وكثير منهم محاربون قدامى تمرسوا فى المعارك من مسارح الحرب الاوروبية والباسيفيكى اضافة الى بضع عشرات من الشباب المثالى المنتمى الى الحركات الصهيونية ولم تكن له خبرة قتالية ولم يتلقى تدريبا .
ولكن كان عددهم قطرة فى بحر مقارنة باكثر من 200000 مهاجر يهودى من البلدان التى يهيمن عليها السوفييت فى شرق اوروبا ، خاصة ، بولندا وبلغاريا ( 95 % تقريبا من اجمالى الجماعة اليهودية ) رومانيا ، يوغوسلافيا ، تشيكوسلوفاكيا ، دول البلطيق السابقة وحتى الاتحاد السوفييتى الذين هاجروا الى اسرائيل ووصلوا فى الوقت الملائم ليصلوا لخطوط الجبهة او ليسدوا النقص فى مراتب القوى البشرية التى استنزفت . وبدون كلا من الاسلحة والبشر المبعوثة من " المعسكر الاشتراكى " لمساعدة دولة اسرائيل الوليدة لكان قد تم سحقها .
فى عام 1947 ، حين كان ستالين مقتنعا بأن الصهيونية سوف تطرد البريطانيين من فلسطين تغير موقف الحزب كليا .عقب الاعتراف السوفييتى ومساعدة اسرائيل فى 1948 – 49 تسابقت كل من جريدة الديلى ووركر والجريدة الشيوعية اليومية الصادرة بلغة اليديش فى الولايات المتحدة ياسم فريهايت ( الحرية ) .... مع الاخرى لتفسر خط الحزب الجديد مبينة
" لقد اصبحت اسرائيل مستعمرة مهمة ل 600000 نفس ، بعد ان طورت اقتصادا قوميا ، وثقافة قومية نامية والعناصر الاولى لمقومات دولة فلسطينية يهودية وحكما ذاتيا
" ان قرار الحزب الشيوعى الامريكى المعنون " العمل وسط الجماهير اليهودية "ادان موقف الحزب السابق واعلن ان " الماركسيون اليهود لم يطرحوا دائما موقفا ايجابيا بشأن حقوق ومصالح الشعب اليهودى ولا بشأن الاحتياجات الخاصة ومشاكل الجماعة اليهودية فى فلسطين
لقد كان الواقع الجديد الذى خلق فى فلسطين هوظهور "امة يهودية " تستحق حق تقرير المصير . ومما يلفت النظر ان جهاز الدعاية السوفييتى امتدح حتى منظمات اقصى اليمين السرية مثل الارجون و" عصابة شترن " لحملتهم العنيفة ضد السلطات البريطانية " ( 13 )
وعلى ذلك فقد كان الاتحاد السوفييتى هو اول بلد يعترف قانونا بدولة اسرائيل .
لقد حددت السياسة الستالينية المعادية للثورة التى انطوت على تقديم دعم سياسي وعسكرى للصهيونية نتيجة الحرب النهائية .وقد ساعدت اسرائيل على ان تطرد معظم الشعب الفلسطينى من بلده بينما سلب الصهاينة ممتلكاته . والستالينية – برغم بلاغة لغتها " الشيوعية " اثبتت انها قوة مناهضة للثورة وعدو للطبقة العاملة العالمية والطبقات المقهورة . لقد افقدت الشيوعية مصداقيتها لعقود طويلة فى كل الشرق الاوسط . وبنفس المنطق الرجعى تؤيد اغلب القوى الستالينية ديكتاتورية القذافى فى ليبيا عام 2011 ومازالت تؤيد نظام الاسد فى سوريا الذى يشن حربا مضادة للثورة ضد الجماهير المنتفضة .ان حزبا للطبقة العاملة ثوريا حقيقيا وجزء من الاممية الخامسة سوف يتعين عليه ان يحارب بلا هوادة ضد السياسة الستالينية .
الوسطية اليمينية لأنصار شاختمان تؤيد حرب اسرائيل الرجعية فى 1948
ان البرامج السياسية لبعض الوسطيين الذين يسمون انفسهم تروتسكيين حول مسألة الثورة الاشتراكية فى فلسطين متجذرة فى مواقف الاممية الرابعة . وفى انشقاق انصار شاختمان عن الاممية الرابعة فى تلك الفترة . لقد حققت الاممية الرابعة اخفاقا وسطيا بالفعل فى 1941 قاده حزب العمال الاشتراكى خلال محاكمة مينابوليس حينما قدم كانون تنازلات للنزعة الدفاعية والوطنية الاشتراكية . ورغم ان الاممية الرابعة اتبعت على العموم مسارا ثوريا خلال ح ع ث ، الا ان تفسخها تزايد فيما بعد الى الحدود القصوى . اصبحت عملية التحلل هذه نحو الوسطية واضحة بقوة – اضافة الى الاخفاق المشين فى الحرب الاسرائيلية الفلسطينية فى 1948 – فى "الخطاب المفتوح" الموجه الى تيتو والتأييد السياسي لماوتسى تونج ، وفى شجب التروتسكيين الصينين فى 1948 .
لم تتخذ الاممية الرابعة موقفا من الحرب حينما اندلعت . وهذا فى حد ذاته من اعراض الانحلال . وقد انقضت عدة شهور قبل ان تحدد الاممية الرابعة موقفا سياسيا وماانتهت اليه كان خاطئا . من الواضح انه بسبب كونها منظمة تتفسخ سريعا ، منظمة تتحول الى منظمة وسطية ، فلم تكن قادرة بالفعل على تناول الحرب من منظور الطبقة العاملة العالمية . فقد دافعت عن حق تقرير المصير للاسرائيليين مع ذلك عارضت التقسيم واتخذت موقف الانهزامية الثورية لكل من اسرائيل والدول العربية .
من المستحيل فى العالم الحقيقى ان تؤيد حق تقرير المصير للاسرائيليين والفلسطينيين معا . وعلينا ان تختار جانبا اما المستوطنون المستعمرون او الفلسطينيون المستعمرون والمضطهدون . ان تؤيد حق تقرير المصير يعنى ان تؤيد الحق فى اقامة دولة . والدولة الصهيونية ان اقيمت حتى على اقسام من فلسطين لن تتحقق الا بسرقة اراضى الفلسطينيين . ليس هذا فقط بل وعنت اى دولة صهيونية ذات اغلبية يهودية طرد اغلب الفلسطينيين من الاقليم الصهيونى . كان هذا واضحا بالفعل فى 1937 مع توصية لجنة بييل التى دعت الى خطة تقسيم والتى دعت فى نفس الوقت لابعاد ربع مليون فلسطينى . وهؤلاء الذين يؤيدون اسرائيل اليوم يعارضون الحق الكامل فى عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردتهم اسرائيل فى 1947 – 48 . طور انصار شاختمان الذين انشقوا عن الاممية الرابعة موقفهم من الدولة الصهيونية الناشئة فى جريدتهم النظرية الاممية الجديدة ( التى استولوا عليها بعد الانشقاق عن الاممية الرابعة فى 1940 ) . لقد ايدوا حق تقرير المصير بالنسبة لاسرائيل وعارضوا الدول العربية فى الحرب . ومن ناحية اخرى عارضت الاممية الرابعة التقسيم واتخذت موقف الانهزامية الثورية للصهاينة والدول العربية .
دعونا نتمعن عن قرب فى مواقف الاممية الرابعة ، والتروتسكيين فى فلسطين – والعصبة الشيوعية الثورية ( ع ش ث ) وانصار شاختمان .
كتب هال درابر فى يوليو 1948 ، وهو من انصار شاختمان فى مطبوعة الاممية الجديدة التى كانت قد باتت وقتها لسان حال الجناح اليمينى الوسطى ، كان من الافضل ان ترفض خطة التقسيم . ويواصل درابر ،على اى حال مادامت لم ترفض ، فلابد من الدفاع عن حق اسرائيل فى الوجود كانعكاس لمبدأ حق تقرير المصير لكل الامم . وفى ضوء هذا الحق من الضرورى الدفاع عن اسرائيل ضد الدول العربية الرجعية التى تريد ان تمنع تطبيق هذا الحق . كان هذا – طبقا لانصار شاختمان – هو ايضا موقف السياسة البلشفية فى فنلندا . ثم استدار على الاممية الرابعة وكتب
" ماذا نقول ، على اى حال ، للاشتراكيين المزيفين الذين لايقدمون حتى على هذه البداية ؟ نحن نفكر فى مجموعة حزب العمال الاشتراكى ( انصار كانون ) ، التى كان لديها اخيرا كلمات قليلة لتقولها حول الوضع الفلسطينى فى عدد 31 مايو من مطبوعة المناضل . فهم يجادلون فى صالح عدم تأييد اى جانب . والنتيجة مثيرة للشفقة وجديرة بأخذها كدرس ماركسى على كيف ينيغى الا نتناول المسألة .
وهذا الدرس بسيط للغاية : لايقرر الماركسيون ان يؤيدوا او يعارضوا الحرب على اساس ماإذا كانوا يحبون او يكرهون سياسات قادة الدولة فحسب . لقد اوضحت الماركسية هذا غالبا بمافيه الكفاية ،: فى تأييد حرب الصين ضد اليابان ، والحكومة الاسبانية الموالية ضد فرانكو ، حرب النجاشى ضد موسولينى . ان السؤال الذى سألناه متبعين منهج لينين كان : اى سياسة تمثل هذه الحرب امتدادا لها ؟ الحرب – هكذا القول الشائع – هى امتداد للسياسة بطرق اخرى عنيفة . وفى حالة كل حرب عينية ، نحاول ان نحلل بشكل ملموس اى سياسات تمثل الحرب امتدادا لها .ان الحكومة الاسبانية الموالية كانت حكومة امبريالية ، وقد استغلت مراكش واضطهدت الفلاحين ( واطلقت عليهم النار حين ثاروا !) ولكن حينما حاول الفاشيست الفرنكويين ان يطيحوا حتى بهذه الحكومة البائسة ، دعونا للدفاع عنها – بطريقتنا ، بوسائل ثورية ودون ان ندعم ادنى دعم سياسي قادة جبهة الشعب البورجوازية لأن تحليلنا للاحداث بشكل ملموس اظهر ان الحرب المناهضة لفرانكو لم تكن امتدادا لطابع الحكومة الموالية الامبريالى وانما امتدادا للهجوم الفاشى على قاعدتها الامبريالية .
لقد كانت هذه هى الالف باء ذات مرة . ولكن وجهة نظر انصار كانون يبدو انها مؤسسة على دليل مبسط عن الطابع الرجعى للقيادة الصهيونية لليهود : " انها تهدد باثارة مذابح جديدة ضد اليهود وان تورطهم فى كوارث جديدة " و" لابد من ان تكون بشكل حتمى اداة للامبريالية " وهى " تصلب موقف الحكام العرب الرجعيين وتمكنهم من حرف الصراع الاجتماعى فى بلدانهم وتحويله الى صراع عمومى بين الشعبين اليهودى والعربى " كل هذا صحيح ، وتحديدا بسبب الدفاع عن حق اليهود فى تقرير المصير لايمكن ان يعنى تأييد القادة الصهاينة او سياساتهم . وقد كان من الحقيقي ان حرب شيانج كاى شيك ضد اليابان قد حاول استغلالها من اجل التمويه وتجنيب الصراع الطبقى وراء خطوطه .
ولكن اليس من حق الشعب اليهودى ان يتمتع ب " حق تقرير المصير وتكوين دولة مثله فى ذلك مثل الشعوب الاخرى ؟ " واجابتهم الكاملة – نعم – ولكن اذا جردنا هذا السؤال من واقعه الاجتماعى المذكور سابقا ، تبقى الحقيقة وهى انهم لايمكن ان ينالوا دولة على حساب الحقوق القومية للشعب الفلسطينى . هذا ليس حق تقرير المصير ، وانما غزو لمنطقة شعب آخر .
اجابة غير شريفة . ( 1 ) هذا يعنى ان لليهود حق تقرير المصير ولكن ليس لهم حق ممارسته . وهذا شئ لامعنى له . قد ننصح ، كما قلنا ، ضد ممارسته فى صالح مسار آخر ، لكنه تزييف خالص ان تمنح الحق وفى نفس الآن تشجبه بوصفه " غزوا لمنطقة شعب آخر " ( 2 ) اذا كان لليهود حق تقرير المصير ، اى منطقة يمكن ان "يقرروا فيها مصيرهم " دون تعد على حقوق الشعب العربى ؟ هل هناك اى منطقة ؟ من الواضح انها لاتوجد وهذا يبدو من الجدال ، ماذا تعنى " نعم " ؟
ستكون الاجابة الشريفة الوحيدة هى انكار ان اليهود لهم اى حق فى تقرير مصيرهم فى فلسطين – وتفسير لم يختلفون هكذا عن الشعوب الاخرى . وحزب العمال الاشتراكى لن يقدم هذه الاجابة وهكذا فهم بحكمة ان لم يكن بنفاق يستنكفون عن تأكيد الامر الاول .
اذا كانت اقامة دولة يهودية " غزوا لمنطقة شعب آخر " وهجوما على " الحقوق القومية " للشعوب العربية ، اذن ، من هم اصحاب الحق فى الدفاع عن انفسهم ضد هذا العدوان غير المبرر . كيف يمكن لنا تجنب هذا الاستنتاج ؟ بالتأكيد ليس بالجدال بأن قادة هذه الشعوب العربية ( المهاجمة ) ليسوا جيدين ! مع ذلك فهذه هى الطريقة بالضبط التى يتجنب بها هؤلاء مسؤولية الوقوف صراحة مع غزو عربى .
انهم ( الحكام العرب ) بحربهم المناهضة لليهود ( ماذا ؟ اليست حربا دفاعية ضد محاولة غير مبررة للغزو ؟ -- هال درابر ) يحاولون ان يحولوا الصراع ضد الامبريالية ، وان يستغلوا مطامح الجماهير العربية من اجل الحرية القومية لتخفيف المعارضة الاجتماعية لحكمهم الطغيانى
بالطبع ، بالطبع – ولكن فى حرب دفاعية ضد الغزو من " ادوات الامبريالية الامريكية " سوف يكون من واجب الاشتراكيين ان يحاربوا الحكام العرب بطلب ليس اخماد الحرب فحسب ، وانما اخماد متسق لامساومة فيه للحرب ... معارضة ااى مساومة عفنة مع الاسرائيليين ، على سبيل المثال ، معارضة لأى وقف للصراع قبل تحقيق اعادة غزو كل منطقة فلسطين ، حرب حتى نهايتها المريرة ... تماما مثلما دافع عن ذلك رفاقنا الصينيون ، بصدد عدم المساومة مع القادة البورجوازيين ، فى الحرب ضد اليابان .
واتباعنا ينفرون من هذه النتيجة لاسباب غير قابلة للتعليل . وهذا على اى حال ، البديل الوحيد المتماسك لسياستنا المتماسكة " ( 15 )
والسؤال الذي يمكن ان نسأله لمن يجادلون على نهج هال درابر فى غاية البساطة : من اين تأخذ المبدأ المطلق الرفيع لحق تقرير المصير لكل الامم ؟ هل يمكن ان تجده عند ماركس ؟ بالقطع لا . لقد سجل ماركس موقفه بمعارضة مطلب حق تقرير المصير لملاك العبيد فى الجنوب خلال الحرب الاهلية الامريكية . ورفض ماركس وانجلز فى عام 1848 ان يؤيد حق تقرير المصير للسلاف الجنوبيين لأنه كان سيخدم مصالح القيصر الروسى وقد كان مع الامبريالية البريطانية يمثلان عماد الرجعية . هل اخذته من لينين ؟ بالقطع لا . كان لينين مع سحق استقلال بولندا فى ظل هيمنة القوميين من الجناح اليمينى الذين التحقوا بالهجوم الامبريالى على الثورة الروسية عام 1920 . لايدافع الماركسيون عن حق تقرير المصير ( للامبرياليين الذين يضطهدون الامم وانما فقط الامم المضطهدة ( 16 )
اذا ما ازلنا الهراء عن المبدأ النبيل ونظرنا لكل مسألة من منظور اى سياسة هى التى تدفع قدما مصالح الطبقة العاملة فلابد ان نستخلص ان الموقف الصائب فى حرب 1948 كان هو الانهزامية الثورية لاسرائيل والدفاع الثورى للدول العربية . " تأييدهم فى المواجهة العسكرية بدون تأييد سياسي لاننا لا نستطيع ان نثق فيهم فى قيادة الصراع ضد الامبريالية وضد الصهاينة " كان هذا سيكون الشعار الصائب " يمكن للطبقة العاملة فقط ان تكون موضع ثقة فى تنفيذ تلك المهمة . وهذا هو الموقف الذى اتخذته ايضا كل من العصبة الاشتراكية الاممية والتيار الشيوعى الثورى الاممى ( 17 )
كان هال درابر محقا بالطبع حين جادل بأن الاجابة الوحيدة على موقفه الممالئ للصهيونية كانت موقفا ثوريا ينكر حق تقرير المصير للجانب الرجعى ، وقد كان انصار كانون غير قادرين فى هذا الوقت على ان يبقوا امناء للمنظور والموقف الثورى .
وسطية الاممية الرابعة وحيادها فى حرب 1948
بعد اكثر من عام رد مونييه ( جابرييل باير ) من العصبة الشيوعية الثورية والاممية الرابعة على هال درابر . لقد اصر وبصواب على انه من الوهم الظن ( 1 ) ان الامبريالية قد هزمت بخلق دولة مستقلة جديدة فى صراع مناهض للامبريالية او ( 2 ) ان وجود دولة يهودية له تأثير تقدمى على الطبقة العاملة والحركة العمالية فى البلدان العربية فى الشرق الاوسط ، و ( 3 ) انه من المهم ان نوضح لكل اشتراكى فى العالم انه لم يكن من الممكن تأسيس دولة اسرائيل بدون دعم الامبريالية الانجلو امريكية . ويكتب
لولا ان وفد الولايات المتحدة للامم المتحدة أثر فى / ورشى عددا معينا من وفود الدول الصغيرة ، هاييتى ، الفلبين وبلدانا اخرى ، ولو لم تسمح الولايات المتحدة لاسرائيل بالمال والعتاد وهو مامكنها من ان تدفع مقابل الاسحلة التشيكية بالدولار ، ولو لم تعترف بالدولة الجديدة خلال بضع ساعات من انشاءها ، لو لم يتسامح الجيش البريطانى وفتح الطريق الى القدس بالغزو واجلاء القرى العربية على طول هذا الطريق ( فى 2 مارس ، 1948 التحقت القوات البريطانية بقوات الهاجاناه لاقتحام حاجز عربى عند باب الواد ، وفشلت فى بواكير شهر ابريل فى ان تتدخل حينما بدأت الاعمال العسكرية على طول الطريق ، وبعد ذلك فى 6 ابريل اتى البريطانيون ببعض قطارات للتموين داخل المدينة ، الخ ) لو لم يأت الجيش البريطانى لانقاذ المستوطنات اليهودية : دان وكفار سزولد فى الجليل الاعلى فى التاسع من يناير واخيرا وليس آخرا ، لو لم تنقذ الهدنة الاولى التى فرضتها الامم المتحدة فى يونيو 1948 القدس اليهودية من المجاعة والانهيار العسكرى – لو لم يحدث كل هذا ماقامت لدولة اسرائيل قائمة " ( 18 )
وبعد ، بدلا من التنويه بالدور العسكرى للصهيونية التى تعمل لارهاب الجماهير العربية لاجبارها على الخضوع للامبريالية ، يجادل بدليل غريب وضعيف يعكس ضغط الصهيونية على العصبة الشيوعية الثورية : بدلا من رؤية كراهية الجماهير العربية الموجهة ضد الصهيونية بوصفها شكلا لمقاومة الامبريالية ، فقد رآها بوصفها شوفينية اسئ توجيهها تلاعب بها الامبرياليون
" كان هدف الامبريالية الانجلو امريكية خلق قوة تلعب نفس الدور فى اطار الشرق الاوسط ككل وهو الدور الذى لعبته الصهيونية لمدة 30 عاما فى فلسطين . بوصفها بؤرة للكراهية الشوفينية حيث تخدم فى تحويل النضالات الثورية للجماهير العربية فى الشرق الاوسط من كونها مناهضة للامبريالية الى مسارات دينية او عرقية "
ويواصل ويشير الى الضغط الجماهيرى المعادى للامبريالية فى الدول العربية
" ولكن شئ ما سار بشكل خاطئ فى الخطة فى مراحلها الاولى فى معظم البلدان العربية : توجهت المظاهرات بصفة اساسية ضد الشركات والمؤسسات الاجنبية ، بما فيه الاتحاد السوفييتى بسبب تأييده لقرار التقسيم ، والحزب الشيوعى الذى حطمت مكاتبه فى دمشق "
وضغط الجماهير العربية هذا كان سبب ذهاب حكام الدول العربية للحرب ضد اسرائيل . وهذا الامر يعترف به اليوم مؤرخون صهاينة مثل بينى موريس
" اضافت المذبحة والطريقة التى جرى بها النفخ فيها فى الاعلام العربى الى الضغط على قادة الدول العربية لمساعدة الفلسطينيين الذين يعدون للمعركة وشدد من عزمهم على غزو فلسطين . وقد اثارت الانباء سخطا عاما عظيما – لم يستطع القادة ان يتجاهلوه . " ( 19 )
من اجل تجنب هذه النتيجة يجادل مونييه :
فقط حيثما حكم البريطانيون مباشرة نجحوا وقتها فى تحويل هذه الاضطرابات ضد الاقلية اليهودية – على سبيل المثال – فى مستعمرة التاج البريطانى فى عدن حيث قتل المتظاهرون ضد التقسيم 75 يهوديا وجرحوا الكثيرين "
ويواصل ويدعى ان الدول العربية كانت ادوات الامبريالية ضد اسرائيل :
اظهر القتال بين اليهود والعرب فى فلسطين مبكرا عام 1948 بوضوح ، انه فى النطاق الفلسطينى ، كان اليهود اقوى عسكريا . لم يكن ضعف العرب راجعا فقط للبنية الاقطاعية للمجتمع العربى بصفة عامة ، وانما ايضا للقيادة الرجعية العربية التى منعت عمدا نمو اى حركة جماهيرية مماثلة لتلك التى قامت فى 1936 – 39 خوفا من الطبقة العاملة التى ظهرت خلال الحرب العالمية الثانية . كان السؤال الآن : هل ستتدخل الحكومات العربية للبلدان المحيطة ؟
فى 12 يناير ، 1948 اكدت مصادر بريطانية دبلوماسية فى لندن التقرير بأن بريطانيا العظمى كاتت تزود مصر بالاسلحة ، وكذلك العراق وعبر الاردن وفقا ل " معاهدات " ، ولكن ماتزال ارادة وقدرة هذه الحكومات على غزو فلسطين مشكوك فيها . لقد احتاجوا لتشجيع جديد اتى فى شكل اعلان امريكى فى الامم المتحدة فى مارس 1948 بشجب التقسيم مفضلا الوصاية . هذا الاعلان مع العجز الواضح لجهاز الامم المتحدة عن تطبيق قراره الخاص اغوى حكومات الشرق الاوسط ان تحاول الحصول على مركز الوكيل الوحيد للامبريالية الانجلو امريكية فى الشرق الاوسط واستبعاد القيادة الصهيونية . "
وحتى يتفادى كل ماتتضمنه روايته التى تؤدى الى الدفاع عن اسرائيل فى مواجهة العرب فإنه يلتف ويجادل :
" ولكن فى مسار غزوهم ، بعد 15 مايو حينما هدد اللواء العربى الاردنى ان يهزم القدس اليهودية ووصل الجيش المصرى الى مشارف المستوطنات اليهودية الجنوبية على ابواب تل ابيب ، فرضت الهدنة الاولى واتاحت لليهود مهلة كانوا فى حاجة اليها لينظموا جيشهم وان يستوردوا الاسلحة ويزودوا القس بالتموين . كان هدف الهدنة خلق توازن بين القوى ، لاخلق الفرصة من اجل انتصار يهودى حاسم على الجيوش العربية . واصل الضباط البريطانيون خدمتهم مع الفيلق العربى ، واستمرت مصر وسوريا فى شراء الاسلحة من بلدان خطة مارشال الاوروبية .
فرضت هدنات اخرى بقدر مادعت الحاجة للابقاء على توازن القوى . وقد فرضت الهدنة الاخيرة حينما تحركت القوى الاسرائيلية داخل الاقليم المصرى وهددت بالقضاء على كل القوى المصرية فى فلسطين ، الذى كان سيكون لانهيارها ارتدادات اجتماعية خطيرة فى مصر . فى نفس الوقت خلق مشكلة لاجئين ، مع منازعات حول الحدود ، اثمرت توترا كافيا بين اسرائيل والبلدان العربية حتى وقع على عاتق الدبلوماسية الامريكية ان" تهدئ " الشرق الاوسط فى الوقت الحالى ب " عقد هدنة دائمة " فى رودس . "
ونتيجة لهذا التحليل الخاطئ ، فقد تبنت العصبة الشيوعية فى فلسطين موقفا وبرنامجا خاطئا وبناء عليه استراتيجية وتاكتيكا خاطئين منذ البداية . واذا كانت هناك قوى داخل الاممية الرابعة قبل ح ع ث عارضت خطهم الموالى للصهيونية فلم تكن الاممية الرابعة قادرة على ان تفعل ذلك فى 1948
ميلاد التروتسكية الفلسطينية
كان لصعود هتلر الى السلطة عام 1933 تأثيرا عنيفا على الحركة العمالية ، فى المانيا وفى العالم . وترافق اخفاق الاشتراكيين الديموقراطيين فى مكافحته بجدية مع الرفض الستالينى العنيد لاستخدام تكتيكات الجبهة المتحدة للدفاع ضد الخطر الفاشى مما ادى لهزيمة مروعة . وفى اعقاب هذه الهزيمة تحولت الاممية الشيوعية فى ظل القيادة الستالينية من التطرف اليسارى البيروقراطى الى التعاون الطبقى من خلال – الجبهات الشعبية . واستجابة لاخفاق الاممية الشيوعية فى ان تتعلم من الكارثة الالمانية ، اعلن تروتسكى موتها فى 1933 كمنظمة ثورية ودافع عن فكرة بناء اممية جديدة ، اممية رابعة .
بالنسبة للعمال اليهود ، كان تأثير صعود النازية للسلطة على صالح وجودهم المادى ووعيهم السياسي حادا بصفة خاصة . وساعدت الهزيمة الدعاية القومية الصهيونية التى رفضها اغلب اليهود الواعين سياسيا : وقد كانت معاداة السامية وسط غير اليهود حتمية ولاطائل من مواجهتها . وبالنسبة لعدد اقل كثيرا فقد اثمر توقع تروتسكى للكارثة حال اخفق الشيوعيون فى تصحيح طرائقهم اهتماما اعظم بالتروتسكية وبتعاطف معها .
وقد كان لكلا الاتجاهين تأثير داخل فلسطين . فمن ناحية ، وسط الصهاينة المتطرفون اليساريون الذى جعلهم تعاطفهم مع الاتحاد السوفييتى سابقا يميلون الى الستالينية ، بدأ يكون من الشائع بشكل متزايد ان يقرأوا كتابات تروتسكى . وداخل احزاب مثل اليسار " بوألتسيون " ( عمال صهيون ) لم يكن من المستغرب ان تجد شبابا اعلنوا انهم تروتسكيون ومخلصون ، ومع ذلك يناقشون الصهاينة فيما بعد . ومع ذلك ، وعلى مدى هذا الاستقطاب ذو الاتجاه اليسارى ، فإن الهجرة والمستوطنات الصهيونية زادت بشكل درامى خلال 1930 .
من بين الشباب الصهاينة اليساريين الذين كسبتهم التروتسكية ، كان اكثرهم اهمية ييجايل جلوكوشتين . وقد عرف فى مطبوعات الاممية الرابعة الصادرة باللغة الانجليزية باسم " ل . روك " وسوف يعرف فيما بعد فى الحياة باسم تونى كليف ، مؤسس وقائد حزب العمال الاشتراكى البريطانى . وقد شارك كليف نفسه فى شوجيم ماركسيستم ( الحلقات الماركسية ) وهى منظمة شباب قادها زيف ابراهاموفيتش واسحاق اسحاقى ، المرتبطة بواليتسيون سمول ( عمال صهيون ) وكتاباته فى هذه الفترة تعكس هذه الحقيقة . حينما اخذ الحزب الشيوعى مسارا يساريا متطرفا بعد 1929 واصلت العصبة الشيوعية الثورية سياساتها التى تعكس الضغط الصهيونى على المنظمة ، وكان طريقهم للعمال العرب مسدودا . ان سياسة الحزب الشيوعى الخاصة بالجبهة الشعبية والتى ادت بهم الى التأييد السياسى للقيادة الرجعية لانتفاضة الجماهير الفلسطينية الثورية فى 1936 – 39 كان خيانة مفضوحة للطبقة العاملة .
على اى حال لم تكن العصبة الشيوعية الثورية قادرة على تحدى لينين مع " الامبريالية الاقتصادية " – اصبح واضحا بشكل كامل فى مقالة كتبها قائد العصبة الشيوعية الثورية تونى كليف فى نوفمبر 1938 . فى فصل معنون " النزاع العربى الاسرائيلى " كتب كليف
" ماهى اسباب هذا النزاع ؟ هناك اجابتان تطرحان فى فلسطين . تقول المجموعات الصهيونية ان النزاع هو ببساطة تصادم الاقطاع والرجعية مع القوى التقدمية للراسمالية . ويزعم القوميون العرب ومؤيديهم الستالينيين بأن هذا التصادم بين حركة التحرر العربى والصهيونية
ولكن التفسير الاول خاطئ لأن حقيقة النزاع بين الاقطاع والرأسمالية لايفسر الحركة القومية التحررية فى فلسطين . وهناك مظاهر مماثلة للقومية فى البلدان المتاخمة ( سوريا ومصر) . اضف الى ذلك فهو لايفسر كيف ان عصبة من الافنديات نجحت فى السيطرة على حركة قومية قوامها مئات الالاف . من الواضح ان سبب التناحر بين الجماهير العربية والسكان اليهود لاينشأ من حقيقة ان الاخيرين ينعمون بمستوى اعلى من المعيشة وقد خلقوا حركة عمالية متصلة . ان معارضتهم الرئيسية تنبع من حقيقة انهم يرون فى السكان اليهود حملة الصهيونية ، وهى كنظام سياسي قائمة على الاقصاء القومى ، والعداوة لمطامح الجماهير العربية فى الاستقلال ومقرطة النظام السياسي .
وجهة النظر الثانية ، دعوى القوميين العرب ، هى بالمثل خاطئة . فهى لاتأخذ فى الاعتبار ان هناك نزاعا فعلا بين الاقطاع والتطور الراسمالى ، ثانيا ، انه داخل الحركة القومية هناك بورجوازية عربية تتناقض مع الإقتصاد اليهودى المغلق مما يطور اتجاهات عربية اقصائية ، وثالثا ، ان السكان اليهود ليسوا جزءا من المعسكر الامبريالى
يترتب على ذلك ان التصادم فى النزاع العربى اليهودى هوبين حركتين اقصائيتين ( بين الصهيونية وبين القيادة العربية البورجوازية شبه الاقطاعية من ناحية ، ومن ناحية اخرى نضال الجماهير العربية ضد الصهيونية ) . ان الصراع الدائم من اجل تلطيف هذا النزاع ممكن فقط على اساس النضال ضد الصهيونية ، ضد النزعة القومية العربية الاقصائية والاعمال المعادية لليهود ، ضد الامبريالية ومن اجل مقرطة البلاد واستقلالها السياسي " ( 20 )
وهكذا نرى قائد العصبة الشيوعية الثورية يتبنى منهجا مثاليا ، غير مادى ولادياليكتيكى ، وهو يساوى بين القوميتين الصهيونية والعربية او " الاقصائية القومية " بدون فهم الاختلاف بين امة مضطهدة وامة مستعمرة مستوطنة مضطهدة .
على اية حال ، وكما اوضح لينين فى المؤتمر الثانى للاممية الشيوعية فإن ادراك هذا الاختلاف – وهو غاية فى الاساسية فى عصر الامبريالية – هو شرط مسبق لأن نفهم ونتصرف ماركسيا
اولا ماهى الفكرة المحورية التى تكمن وراء اطروحاتنا ؟ انها التمييز بين الامم المضطهدة والمضطهدة . وبخلاف الاممية الثانية والبورجوازية الديموقراطية ، فإننا نشدد على هذا التمييز " ( 21 )
ونتيجة لاخفاقها ، رأت العصبة الشيوعية الثورية فى انتفاضة 1936 – 39 بصفة اساسية انها مذبحة ضد اليهود وبقيت على هوامش التاريخ . لقد اخفقت فى ان تستوعب الموقف الثورى للاممية الرابعة حيث ايدت انتفاضة 1936-39
ان النضال ضد الحرب ومصدرها الاجتماعى ، الراسمالية ، يفترض مسبقا تأييدا مباشرا ، فعالا واضحا للشعوب المضطهدة المستعمرة فى نضالها وحربها ضد الامبريالية . واى" موقف محايد " يعادل تأييد الامبريالية . مع ذلك فضمن الانصار المعروفون لمؤتمر مكتب لندن وجد من يروجون لترك المحاربين الاشداء الحبشيون ضد الغزو الايطالى الفاشى فى مركز حرج على ارضية " الحياد " ، والصهاينة من العمال المنتمين الى " اليسار " الذين كانوا حتى فى هذه اللحظة يعتمدون على الامبريالية البريطانية فى حملتها الوحشية ضد نضال الفلاحين العرب الشرعى حتى وان كان مشوشا " ( 22 )
ولكن حين تحللت الاممية الرابعة بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها اممية ماركسية ثورية ، عنى هذا النهاية السياسية للعصبة الشيوعية الثورية . واذا لم تكن الاممية الرابعة قد تحللت ، لكان من الممكن للعصبة الشيوعية الثورية او لبعض منها ان يبقى من اجل ثورة الطبقة العاملة . مهما يكن من شئ فلم يكن هذا هو واقع الحال . فى 1948 رفضت الاممية الرابعة ، وذلك من ضمن اخطاء سياسية اخرى ان تقدم دعما عسكريا للجيوش العربية فى حرب 1948 . فى 1952 عبرت الاممية الرابعة الخط الاحمر حينما أيد القسم البوليفى الجبهة الشعبية وبلا اية معارضة تقريبا
مامن شك فى ان كليف ورفاقه حاولوا ان ينفصلوا عن الصهيونية ، لكنهم لم يستطيعوا ان يحدثوا القطيعة . واجهت المجموعة القمع من قبل الحكومة العسكرية البريطانية ، والنبذ الاجتماعى والاعتداء البدنى من قبل الصهاينة ، وعدم الثقة المفهوم من قبل العمال العرب ، وكانت النواة الاساسية للمجموعة الصغيرة اليهودية بكاملها من التروتسكيين الفلسطينيين قد نمت بشكل متواضع عبر السنين واصبح لها صوت مسموع لدى العمال العرب والمثقفين . وقد تركت ورائها وثائق تعكس جهود منظمة ماركسية شابة بلا خبرة تبذل جهدا فى ان تفهم وضعا سياسيا ، صعبا وغير مسبوق تقريبا . مع ذلك فان بعض اخطائهم سوف يجرى التقاطها وتضخيمها فيما بعد من المرتدين والمدعين مع نسبتها للتروتسكية . وهذا مايجعل النقد ضرورة .

تونى كليف : سيرة ذاتية
يمكن لنا ان نرى بكل وضوح فيما يتعلق بفلسطين واسرائيل وخاصة حول حرب 1948 التناقض بين البرنامج الثورى والبرنامج الوسطى . لذا دعونا نلقى نظرة على السيرة الذاتية لتونى كليف ، قائد ومؤسس الاتجاه الاشتراكى الاممى ( وهو يعرف اليوم بمجموعته الاقوى – حزب العمال الاشتراكى فى بريطانيا .
وفقا لسيرته الذاتية ، ولد تونى كليف فى فلسطين عام 1917 لأسرة رأسمالية تنتمى للجناح اليمينى الصهيونى الذى يرتبط بشكل وثيق بالقيادة الصهيونية .
" كان ابى مقاولا كبيرا اسهم فى بناء اقسام من سكة حديد الحجاز . وكان شريكه فى البناء حاييم وايزمان ، اول رئيس لاسرائيل . كان اصدقاء اسرتى من بين الصهاينة البارزين . وقد كان موسى شاريت ( وزير الخارجية فيما بعد ) زائرا دائما فى بيتنا وكان نوعا من معلمى السياسي . وحين اقمت مع عمى كالفاريسكى فى رحافيا ، كان بن جوريون يأتى اليه ليسأله عن شئ ، او الى باولا ( زوجته ) يسألها عن سرير مطوى . وكان دكتور هيلل يوفه ( وهو صهيونى بارز ) عما آخر لى . كانت عائلتى متجذرة فى قلب الجماعة اليهودية . وربما جعل هذا من الأصعب على ان انفصل عن الصهيونية " . (23 )
وقد اعترف هو نفسه بأن الامر اقتضى منه سنوات حتى يقطع اواصره مع الصهيونية .
"لقد تطلب الامر منى بضع سنوات لأنتقل حتى من وضعية الصهيونى الارثوذكسي الى وضعية نصف الصهيونى المتعاطف مع القضية الفلسطينية ثم لانجاز القطيعة الكاملة مع الصهيونية "
هذا التحول من شبه صهيونى متعاطف مع الفلسطينيين الى مناهض للصهيونية وإن لم يكن قوميا عربيا ، لم يحدث فى فلسطين وانما حينما ترك فلسطين فى 1946 فقط . والاسباب الاساسية لهذا هى الظروف العامة -- كان نظام الابارتهيد قد تطور بقوة بالفعل فى هذا الوقت حتى ان اليهود الاسرائيليين والفلسطينيين كانوا منفصلين بصرامة فى اماكن العمل وفى احياءهم السكنية . وعلى ذلك فللتخلص من اى تأثير صهيونى سوف يكون من الضرورى بالنسبة لكليف والتروتسكيين فى فلسطين ان يؤسسوا روابط وثيقة فى عملهم السياسي مع الجماهير الفلسطينية . كان يتعين عليهم ان يتبنوا برنامج الثورة الدائمة الذى يتضمن التحرر القومى للفلسطينيين ، والنضال ضد الاستعمار الصهيونى والعمل من اجل الثورة الاشتراكية . وكان عليهم ان يقطعوا ايضا مع الاستغراق فى الجيتو والوسط اليهودى – الصهيونى وأن يغرسوا جذورا فى اوساط الشعب الفلسطينى . وهذا يتضمن تعلم ثقافة الفلسطينيين وان يندمجوا الى درجة معينة معهم . ويعنى هذا ايضا ان يكرسوا حياتهم للنضال التحررى للجماهير الفلسطينية . وفى النهاية كان هذا سيعنى بناء منظمة ثورية مشتركة للفلسطينيين واليهود الاسرائيليين . وقد كان من الصعب اتخاذ كل هذه الخطوات خاصة لمن أتى من اسرة صهيونية ثرية مثل كليف – بصفة اساسية بسبب انها تقترن بقطيعة كاملة مع العائلة والمجتمع الاسرائيلى نفسه . يمكن فقط لشيوعى ثورى ذو عقيدة بروليتارية بلشفية ان ينجز هذه المهام .
ان المقالات التى كتبها تونى كليف بينما كان فى فلسطين عكست عدم قدرته على ان ينجز قطيعة حاسمة مع الصهيونية . طبقا لما ورد فى سيرته الذاتية فقد اصبح اشتراكيا بسبب التمييز ضد العرب
"ان الدافع الخصوصى الذى حفزنى لأن اصبح اشتراكيا هو بؤس اوضاع الاطفال العرب الذى شهدته . لقد رأيت اطفالا عربا يجرون حفاة الاقدام طوال الوقت . بينما كنت دائما انتعل حذاء . وامر آخر هو انه لم يكن هناك اطفالا عربا فى فصلى بالمدرسة . لقد بدا لى من غير الطبيعى ان تكون الامور على هذا النحو . بعد كل شئ ، فإن اولادى ولدوا وتعلموا فى انجلترا ، لم يأتوا ابدا الينا ليقولوا انه ليس هناك اولاد انجليز فى المدرسة ( رغم اننى لم اكن لأندهش لو قالوا انه لم يكن هناك اولاد هولنديين ، دانمركيين او فرنسين ) . بعد كل شئ نحن نعيش فى انجلترا . لقد كتبت مقالا مدرسيا حين كان عمرى 13 او 14 عاما ، مثل كل الاولاد الذين طلب منهم ذلك ، لكن كان موضوع مقالتى : " من المحزن للغاية الايكون هناك اولاد عرب فى المدرسة " . وقد كان تعليق المعلمة قصيرا وواضحا : فقد كتبت ، شيوعى " .
والقصة مشابهة للغاية للطريقة التى بدأ بها كثير من المثقفين فى روسيا فى ان يصبحوا ثوريين . لقد كتبت الكسندرا كولنتاى، على سبيل المثال ، فى سيرتها الذاتية عن الاطفال الذين رأتهم فى المصانع كأحد الحوافز الهامة للالتحاق بالحركة الثورية رغم انها اتت من اسرة ثرية . ( انظر على سبيل المثال الكسندرا كولنتاى : السيرة الذاتية لإمرأة شيوعية متحررة جنسيا ، وكذلك سيرة اخرى ذاتية لها : لقد عشت حيوات كثيرة ... سجلات سيرة ذاتية . ديتز، برلين ، 1981 ، ص ص 90 – 97 .) ان معرفة شروط عيش العمال والمضطهدين لاستخلاص الاستنتاجات الصائبة منها – اى الانفصال عن طبقته او طبقتها والانضمام لمعسكر النضال التحررى للطبقة العاملة – هو واحد من اكبر التحديات لكل من لم يأت من الطبقة العاملة او ذو خلفية من شريحة مضطهدة ، و يريد ان يصبح شيوعيا .
كتب كليف كذلك :
" ان اقصاء العرب لم يكن مقصورا على التعليم . لقد كانوا مستبعدين ايضا من البيوت المملوكة لليهود . وقد عنى هذا الانفصال اننى وخلال 29 عاما عشتها فى فلسطين لم اعش ابدا فى بيت مع العرب . والحقيقة ان المرة الاولى التى عشت فيها مع فلسطينى عربى كانت فى بيت مغتربين فى دبلن " .
لقد كان متأثرا بشكل كبير بعمه حاييم مارجاليت – كالفاريسكى ، وقد كتب عن ذلك بتعاطف شديد :
" كان هناك عامل آخر ركز انتباهى على موضوع ابعاد الاطفال العرب من المدرسة . كانت هناك مدرسة صغيرة واحدة فى البلاد تواجد فيها الاطفال العرب واليهود معا .انشأ هذه المدرسة ومولها عم لى هو حاييم مارجاليت كالفاريسكى . كان غاية فى الثراء ، حيث انه ترأس منظمة روتشيلد فى فلسطين . وقد اسس ايضا مجموعة صغيرة من اليهود والعرب الليبراليين تسمى بريت شالوم ( عصبة السلام ) . كان عمى هذا موضع سخرية ابى وامى وقد ظنوا انه مجنون . لقد كان احادى الفكر لحد بعيد حتى انه لم يكن ليتحدث عن اى شئ بالكاد عدا عن السلام مع العرب . حين قابل شانى لأول مرة فلم يسألها عن اى شئ وانما دخل مباشرة فى موضوع السلام مع العرب . ظنت شانى ( زوجة تونى كليف ) ان هناك تشابها عظيما بينه وبينى – كلاهما مخبولان بعض الشئ . قالت لى " لابد ان هناك صلة دم تفسر ذلك " فقلت لها ان علاقتنا لاتقوم على صلة الدم وانما على المصاهرة ، فقد تزوج عمتى . ومن المحتمل ان اعماله ركزت انتباهى على موضوع استبعاد العرب من المدرسة وماهو اكثر . وقد طابقت بينى وبين الضحايا .
ان من يعرف تاريخ حاييم مارجاليت كالفاريسكى ( 1868 – 1948 ) لابد وان يكون عالما بحقيقة ان هذا العم كان اخصائيا بالزراعة وقد تضمن عمله شراء الاراضى لحساب جمعية الاستيطان اليهودى : وقد اعتقد انه يمكن ان يقبل الفلسطينيون باستعمار فلسطين دون صراع من خلال رعايتهم . كان قد اتى لفلسطين عام 1895 ، معاونا المستوطنة الزراعية للورد روتشيلد . وقد كان واحدا من اوئل الصهاينة الذين اسسوا روابط قوية مع بعض العرب . وقد اسس بريت شالوم ( عصبة السلام ) فى 1925 وكيدما ميزراها ( عصبة التقارب والتعاون العربى اليهودى ) فى 1936 واصبح رئيسا لعصبة التقارب والتعاون العربى اليهودى منذ 1939
اقترح حاييم مارجاليت كالفاريسكى حين كتب للجنة التنفيذية فى 5 مارس 1939 زيادة فى السكان اليهود تصل الى 50% خلال عشرة سنوات وبعدها سوف تمنح فلسطين استقلالها . وبمجرد ان يتشكل اتحاد فيدرالى سوف تنضم فلسطين اليه كجزء مستقل . ( 24 )
ان سيرة ذاتية لواحد يدعو نفسه تروتسكيا كان لابد ان يكون قادرا على ممارسة النقد على اشخاص مثل حاييم مارجاليت كالفاريسكى بشكل واضح بعيدا عن المشاعر الشخصية التى تكونت لديه بسبب الروابط العائلية . لقد خيضت الحرب ضد الفلسطينيين وتخاض ليس فقط بالبنادق على المكشوف وانما ايضا بالحلول " السلمية " المنافقة مثل استراتيجية مارجاليت كالفاريسكى التى ليست سوى ستراتيجية ازاحة الفلسطينيين .
كان تونى كليف واعيا فى سيرته الذاتية بحقيقة ان المشروع الصهيونى كان مشابها للغاية للاستعمار الابيض فى جنوب افريقيا . لقد كتب :
" ان الصهاينة الذين هاجروا لفلسطين فى نهاية القرن التاسع عشر ارادوا ان يكون كل سكانها يهودا . فى جنوب افريقيا ، على النقيض ، كان البيض هم الرأسماليون والعالة عليهم بينما كان السود هم العمال . فى فلسطين ، مع مستوى المعيشة المتدنى للعرب مقارنة بالأوروبيين ، ومع البطالة الظاهرة والمقنعة ، تمثلت وسائل اقصاء العرب فى اغلاق سوق العمل اليهودى امامهم . وقد كان هناك عدد من الطرائق التى استخدمت لتحقيق ذلك "
اضف الى ذلك ، وفقا لسيرته الذاتية ، كان مدركا لحقيقة ان البريطانيين واليهود كانوا عميقى العنصرية تجاه العرب من اهل البلاد .
وبينما حفرت الصهيونية خندقا لتفصل العرب عن اليهود تواطأت الامبريالية مع ذلك . حينما وظفت الادارة البريطانية فى فلسطين العرب واليهود للقيام بنفس العمل ، فقد كانت تدفع للعمال العرب حوالى ثلث مايدفعونه للعمال اليهود . هيمنت " سياسة فرق تسد " على كل شئ حتى فى السجن . وقد شهد كليف بأنه كان للعمال اليهود فى فلسطين مصلحة مادية فى تأييد استعمار فلسطين . وقد كتب هو نفسه :
" كانت الطبقة العاملة فى فلسطين منقسمة بعمق بين العرب واليهود . استخدم العرب واليهود لغتين مختلفتين – قلة ضئيلة من العمال اليهود فقط هى التى فهمت العربية ، واقلية اكثر ضآلة هى التى فهمت اللغة العبرية . وفى اماكن عمل قليلة اجتمع اليهود والعرب . وهكذا من بين حوالى 5000 عامل بالسكك الحديدية فى بداية الاربعينات اربعة اخماس كانوا عربا والخمس يهودا . وظف معمل التكرير فى عكا عربا ويهودا ، ومرة اخرى كانت الاغلبية من العرب . الدرجات الدنيا من الخدمة المدنية وظفت ايضا عمالا من الجماعتين . ولكن هذه كانت استثناءات . كان حوالى تسعة اعشار العمال منفصلين فى اماكن العمل . "
لابد لنا ان نتوقع من كليف ان يعرف مدى اهمية ان يكافح داخل الطبقة العاملة الاسرائيلية اليهودية وللانفصال عن الصهيونية والالتحام بالمقاومة الفلسطينية . وليست هناك فرصة اخرى لتحرير الطبقة العاملة فى اسرائيل غير طريق القطيعة مع روابط الصهيونية والدولة الاسرائيلية نفسها .
لقد كتب حتى :
" لقد وقع الاشتراكيون الصهاينة فى فخ ايديولوجى . لقد اعتقدوا ان المستقبل للاشتراكية ، واننا يمكن ان نرى فى الكيبوتزات جنين المجتمع الاشتراكى المقبل ( اكثر من وحدة جماعية من المستعمرين ) . ولكن فى نفس الوقت كان ينبغى قهرالمقاومة العربية للاستعمار الصهيونى وهكذا تعاونوا مع اثرياء الصهاينة والمؤسسات الغنية وكذلك الجيش البريطانى والبوليس . لقد قبض الاشتراكيون الصهاينة على البيان الشيوعى بيد وبندقية المستعمر فى اليد الاخرى "
وهكذا فإن كل شيوعى حقيقى سوف يقول : اعط الاثنين – البيان الشيوعى والبندقية للفلسطينيين ! اطلب ممن يسمون انفسهم اشتراكيين والذين يعتبرون انفسهم صهاينة ان ينفصلوا عن الصهيونية حتى يصبحوا اشتراكيين حقيقيين !
لقد عرف كليف ان الصهاينة اعتمدوا على حراب الامبريالية البريطانية وقد كتب :
" اذ علموا انهم سوف يواجهون مقاومة من الفلسطينيين فقد كان الصهاينة دائما واضحين بشأن الاحتياج لمساعدة القوة الامبريالية التى كان لها النفوذ الاعظم فى فلسطين فى هذا الوقت "
تأسيسا على كل هذه المعلومات كان يمكن لنا ان نتوقع من كليف ، بوصفه اشتراكيا يعتقد انه تروتسكيا ، ان يصطف مع العرب والفلاحين ضد الامبريالية والصهاينة المستعمرين . مع ذلك كانت سياساته فى فلسطين مختلفة . لقد وازى بين المستوطنين المستعمرين الذن تساندهم الامبريالية البريطانية والمقاومة العربية للامبريالية والصهيونية . لم يكن كليف خلال نشاطه السياسي فى فلسطين ، قادرا ابدا ولا مستعدا لينفصل بشكل متسق عن النفوذ الصهيونى . وذلك واحد من الادلة الاشد اهمية على افتقاد الطرائق الثورية اللاحقة ومن ثم ارض تغذية التحلل الوسطى .
وحتى فى سيرته التى كتبها بعد ذلك بسنوات بعد ان غادر فلسطين لام العمال العرب . وكم يبلغ بك السخف حين تلوم الجماهير المضطهدة بأن ذنبها انها لم تؤثر فى العمال الاسرائيليين وتدفعهم لموقف ايجابى ! اذا كانت هذه هى الطريقة الماركسية اذن فإن ماركس نفسه وكل من يتبنى تراثه ليس ماركسيا . مامن شيوعى حقيقى سوف يلوم نساء الطبقة العاملة لانهن لم تكن مناضلات بما فيه الكفاية فلم يساعدوا بما يكفى لتبصير رجال الطبقة العاملة باضطهاد النساء ! مامن شيوعى حقيقى سوف يلوم شباب الطبقة العاملة او المهاجرين من الطبقة العاملة ويعتبرونهم مدانين لانهم لم يوضحوا لمستغليهم ضرورة وقف اضطهادهم فى مراتب الحركة العمالية ! ان العناصر الشوفينية ، والتأثيرات غير البروليتارية هى التى تلام وليس المضطهدين انفسهم ! من المخجل ان يضطر المرء لأن يشرح هذا لقائد بارز لحركة ترى انها نصير شرعى لليون تروتسكى ! لقد كان تونى كليف ابعد من ان يفهم دور الشيوعيين فى مقاربتهم للجماهير المضطهدة بلوم العمال العرب .
وقد كتب حول هذا فى سيرته الذاتية مايلى :
" لقد اشرت سلفا للصهيونية بوصفها فخا للعمال اليهود فى فلسطين . كان يمكن لطبقة عاملة قوية وديناميكية فى فلسطين ان تتخلص من المسار المغلق الذى وضعت الصهيونية الطبقة العاملة اليهودية فيه . وياللأسف ، لقد كان نفس التوسع الصهيونى ( الذى هدد العرب بما سمى فيما بعد "التطهير العرقى " ) الذى منع العمال العرب من ان ينفصلوا عن اشد القادة العرب رجعية .
لقد اخاف الاستعمار الصهيونى الكتلة العربية . وقد وضعت معارضتها للصهيونية على قمة اولوياتها ، وجعلها مستعدة لأن تتحد مع الملاك الاقطاعيين والاحزاب الدينية التى بشرت بالتوافق مع الامبريالية بينما استهدفت وقف التوسع الصهيونى . ومن الطبيعى ان تكون لدى الجماهير العربية صورة شاحبة فقط لتأثير المستقبل على هذا التوسع . كان مايزال على التطهير العرقى للعرب الذى تلى ( ... ) تأسيس دولة اسرائيل ان يأتى .
لقد شعر جمهور البروليتاريا الفلسطينية بأنه قد اوقع به فى شرك مواجهة توسع الاستيطان الصهيونى بمعونة وتحريض الامبريالية البريطانية . لقد كانوا معرضين من ثم لتأثير الرجعية الاقطاعية .
وقد تزعم هذا الاتجاه الرجعى مفتى القدس ، الحاج امين الحسينى ، اعلى منصب دينى بين المسلمين ، وكبير عائلة ثرية مالكة للاراضى . لقد عين فى منصبه بموافقة السلطات البريطانية . فى 1936 – 39 قامت انتفاضة عربية ضد توسع المستوطنات اليهودية . وقد قمعها بوحشية الجيش البريطانى والمتطوعون الصهاينة . فى وقت هذه الاضطرابات ، كتبت جريدة اللواء ، وهى جريدة الحاج امين الحسينى ، فى مقالة افتتاحية " انه النفوذ اليهودى الذى تسرب لصميم السياسات البريطانية فى فلسطين ، الذى اضر السلطات ومنعها من اداء واجبها الذى يمليه عليها الشعور الانسانى .
يقول الاعلان رقم 3 لقيادة الانتفاضة العربية الذى صدر فى 4 سبتمبر 1936 ، " " من المؤسف ان تبتلى بريطانيا بهذا العدد من الضحايا فى قسم مقدس من البلدان العربية ، حلفائهم فى الامس واليوم (!) ، بسبب خدمة الصهيونية واقامة وطن قومى لها فى فلسطين العربية ... لم تستطع الحكومة ان تخمد التمرد وتستعيد النظام بالقوة ، حيث كان الشعب العربى وراء المتمردين ... ولم يقاتل الجنود الانجليز طوعا ، لكنهم كانوا مضطرين للدخول فى حلبة الصراع . فقد عرفوا انهم لم يكونوا يقاتلون من اجل مصالح بريطانية ، كما ان العرب لايقاتلون بريطانيا ، ولايرغبون فى تدمير مصالحها ، وانما يقاتلون ضد الاستيطان اليهودى والسياسة الصهيونية فقط . لولا هذين ، لعاش العرب فى صداقة وسلام مع الانجليز . "
ان القادة البيروقراطيين للحركة العمالية فى اسرائيل هم من ينبغى لومهم على هذه التطورات ! لقد كانت ومازالت مهمة الطبقة العاملة الاسرائيلية هى ان تنظم نفسها ضد دولة الابارتهيد اسرائيل حتى تربى كل العمال بروح التضامن الاممى الحقيقى . وهذا يعنى انه بالنسبة للعمال الاسرائيليين فإن شعار " العدو الاساسي فى الوطن ! " وقف ويقف على رأس اجندتهم حتى يحاربوا الصهيونية . وهذا يعنى ان المهمة الاساسية لكل الشيوعيين فى اسرائيل والعالم العربى بالطبع هى بناء حزب ثورى متعدد الجنسيات منقوش على رايته : فلتسقط اسرائيل دولة التمييز العنصرى ! ومن اجل جمهورية عمالية فلاحية من النهر الى البحر ! من اجل فلسطين حرة حمراء ! بدون حزب كهذا ، بدون النضال من اجل توجه ثورى لحركة العمال ، فإن قوى رجعية مثل القوميين والاسلاميين سوف تظهر بوصفها الامكان الوحيد لقتال المعتدين الاسرائيليين ! يلام الكثيرون على هزيمة المقاومة الفلسطينية ولكن ليس العمال العرب من بينهم ! ويفضل تونى كليف هذه الطريقة السهلة فى لوم المضطهدين لقبولهم القادة الرجعيين ضمن صفوفهم نظرا لعدم وجود بدائل
وهكذا يواصل
" فى 13 ديسمبر1931 طبعت الجامعة العربية جريدة المجلس الاسلامى للحسينيين قسما من التزييف الشهير المسمى بروتوكولات حكماء صهيون الذى " اثبت " ارتباط اليهود بالشيوعية . وطبعت وثائق مماثلة مرارا بواسطة ( ... ) نفس الجريدة والصحافة العربية فى فلسطين بصفة عامة
بالنسبة للاقطاعيين العرب والبورجوازية كانت الصهيونية هى المصدر الوحيد للنزاع مع الامبريالية . لقد جاهد القادة العرب بلا توقف من اجل البرهنة على انهم يمكن ان يكونوا حلفاء للامبريالية ويمكنها ان تستغنى بأمان عن الصهيونية كركيزة فى الشرق ودوما رددوا بلا كلل : ان السياسة البريطانية فى تأييد الصهيونية ترجع لنفوذ اليهود غير انها ضد مصالح الامبراطورية .
لقد كان يمكن تجاوز المأزق الذى واجه العمال العرب والعمال اليهود فقط بحركة طبقة عاملة عربية قوية وديناميكية . للاسف كانت الطبقة العاملة الفلسطينية صغيرة الى حد بعيد وضعيفة حتى تحقق ذلك "
يثبت هذا بالطبع ان النخبة العربية الرجعية قد خانت نضال العمال العرب والفلاحين فى انتفاضة 1936 – 39 على اية حال ، ليس التاريخ اعمال الملوك والقادة الدينيين الرجعيين . لقد كانت المشكلة السياسية فى 1936 – 39 ان الحزب الشيوعى الفلسطينى وقد اشتغل على سياسة الجبهة الشعبية قد اخضع العمال والفلاحين العرب للقيادة الرجعية . كانت مجموعة كليف تقود ، العصبة الشيوعية الثورية ، وبدلا من النضال مع الجماهير العربية من اجل التحرر الوطنى والثورة الاشتراكية ( مع فضح الدور الرجعى للنخبة العربية ) اعتبر الانتفاضة مذبحة موجهة ضد اليهود . وهذا فى النهاية تفسير صهيونى لانتفاضة جماهيرية فلسطينية كانت مبررة تماما .
ناقش كليف فى سيرته الذاتية كيف كان من الصعب بناء حزب تروتسكوى فى فلسطين : مجموعة صغيرة مكونة من 30 ، اغلبهم يهود ، يناضلون ضد العزلة والاضطهاد .
" كانت حقيقة اننا لم نحقق شيئا مثيرة للاستفزاز اكثر فأكثر . لقد قلنا الاشياء الصائبة من الناحية الشكلية : لابد وان يكافح العمال العرب الصهيونية والامبريالية وأن ينفصلوا عن القيادة العربية الرجعية ، وعلى العمال اليهود ان ينضموا للجماهير العربية فى نضالاتها . لقد كررنا كلمة " يجب " مرة بعد اخرى . وكان تعبيرا عن هذا سلسلة من ثلاث مقالات كتبتها للمجلة الشهرية التروتسكية الاممية الجديدة : السياسة البريطانية فى فلسطين ( اكتوبر 1938 ) ، النزاع العربى اليهودى ( نوفمبر 1938 ) والسياسات الطبقية فى فلسطين ( يونيو 1939 ) وقد استخدمت الاسم المستعار ل . روك .