عن بعض خصائص الأزمة في مفهوم الدولة الأمة كهوية وطنية


رضا لاغة
2019 / 5 / 27 - 13:24     

إذا بحثنا عن تعريف عام للدولة الوطنية، فإنها تبدو، من زاوية ما، نقيضا لدولة الاستبداد. غير أن ذلك لا يغنينا عن مواجهة اعتراض خطير مفاده: وهل ينهار معنى الوطنية بغياب الشرط الديمقراطي؟
صدام حسين مثلا كان وطنيا ودكتاتورا في الآن نفسه. إن إهمال هذه النقطة الفاصلة يدخل كثيرا من اللخبطة في مستوى المناقشة. صحيح أن الدولة المستبدة قد تعمل لأجل غايات وأهداف وطنية، كأن تنخرط في معركة الانفكاك من التبعية وتحرير الثروةعلى نحو ما بيّنا سابقا، غير أن الاستبداد لا يؤهّلها لكي تجابه التناقضات الحاصلة في مجرى التطور الاجتماعي. إن الاستبداد يتحوّل، من وجهة النظر هذه، إلى مشكلة هيكلية لأن الدولة القطرية تدرك أن نظام وجودها الخاص مكوّن بمدركات مفروضة على الوعي المجتمعي. هنا تظهر وظيفة الديمقراطية كأساس لحل هذا التناقض لأن غياب الشرط الديمقراطي يعمّق أزمة الدولة القطرية رغم كونها تشدد على ما هو وطني لتعود لنقطة انطلاقها، أي بوصفها وجود غير شرعي مناقض لا فقط للوجود القومي وإنما أيضا للوجود القطري.
هذا الفرق بين الدولة الوطنية والدولة المستبدة يبلغ ذروته عندما يمتلك الشعب مقدرته الفعلية على ممارسة الثورة ضد الدكتاتورية. من هنا نعتقد أن ما حدث ذات 17 ديسمبر في تونس يمثّل إحدى الصفات الأكثر ألمعية في تاريخنا العربي المعاصر، لأنه جسّد الأصالة الأساسية للنموذج التصوّري لمفهوم الدولة الوطنية (لم أقل العياني) كوجود سياسي اصطدم بالأزمة الهيكيلية التي تعاني منها الدولة العربية الحديثة.
وفق هذا الطرح توجد علاقة وثيقة بين الدولة الوطنية ورهان المصالحة القومية. من المهم هنا أن نستحضر كتاب "نحن أمة " (1) لعلي البهلوان. ويتألف الكتاب من مقدمتان: الأولى للدكتور زهير الدوادي وهي بمثابة تعريف بالكاتب والكتاب (2)، والثانية للمؤلف (3). على إثر هذه المقدمة التي شكلت المحددات والثوابت الميدانية والمنهجية للأثر، شرع المؤلف مباشرة في تحديد شروط وعوامل تكوّن الأمة التي لا تعتمد على الجنس في تكوينها (4). ليستعرض بعد ذلك مفهومها (ماهي الأمة) (5) ومقوماتها (6). ثم لينتقل إلى طرح وجهة نظره حول وحدة المغرب العربي (7) وعرض مقوّمات الدولة التونسية (8) وخاصة استقلالها (9). لذلك نجده لا يتردد ليعلن مخاطر الاستعمار الذي يتسبب في تقويض مقومات الأمة (10).
يختار الكاتب من خلال حسّه الوطني والعربي والاسلامي على تأكيد التكامل بين هذه الأبعاد. ففي تعريفه لمفهوم الأمة التونسية يؤكد أن "الأمة التونسية وإن كانت لها جميع مميزات الأمم، ما هي إلا جزء لا يتجزأ من أمة المغرب العربي. كما أن المغرب نفسه جزء لا يتجزأ من الأمة العربية الكبرى. ومن الوطن العربي الأعظم".
ويتبين من هذا المقطع الغني بأفكاره القومية الوحدوية أن المؤلف قد ميّز بين:
– الأمة التونسية بوصفها جزءاً من أمة المغرب العربي.
– أمة المغرب العربي كجزء من الأمة العربية.
– الأمة العربية كمستوى نهائي وجامع لها.
وانطلاقاً من مخططه البحثي وضّح الكاتب العوامل التي تساهم في تشكيل الأمة فابتدأ بعامل الجنس. فأقره واعترف به كعامل أساسي في تكوين الأمة. إلا أنه رفض مقولة ((الجنس النقي)) أو الصافي على حد تعبيره. كما رفض أن يكون الجنس العامل الوحيد في نشأة الأمم.
ومن الجنس انتقل إلى الروح، وكأنه انتقال إلى وحدة شخصية الأمة. فهو يتحدث عن الأمة بوصفها روحاً أو مبدأ روحانياً له علاقة بالماضي والحاضر، وما دامت الأمة عنده روحاً فهي إذن عبارة عن وحدة تضامنية ناشئة عن الشعور الجماعي بوحدة التضحيات. ومن خلال تشابك هذين العاملين تظهر الجغرافيا بوصفها أحد العوامل في نشأة الأمم. وفي آخر كلامه عن العامل الجغرافي يخلص المؤلف إلى النتيجة الآتية: الوحدة الجغرافية هي الأساس المادي لكل عاطفة قومية عملية وركن من الأركان التي تقام عليها الأمم.
وتحت عنوان "وحدة اللغة والدين والعادات من مقومات الأمم "، يؤكد الكاتب ــــ دون مبالغة ــــ على أهمية اللغة والدين بوصفهما من العوامل المتينة في تكوين الأمة. وفي رفضه للاستعمار يستنكر قائلا:" هل وجدتم الشعب التونسي يعيش في فوضى لا حكم له، ولا حاكم، ولا أمير، ولا قضاة، ولا عدالة، ولا تعليم، ولا دين، ولا لغة. يا ترى هل لقنتموه دينه الإسلامي؟ أم علمتموه لغته العربية؟ أم وجدتم له جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية، أو المحكمة الشرعية بالديوان؟ هل أخذ الشعب عن فرنسا عاداته؟ أم كانت هي السبب في وجود الأغالبة والفاطميين وصنهاجة وبني حفص والحسينيين الذين تكوّنت الأمة التونسية على أيديهم؟".
ولعل ما يميز طرح علي البلهوان إقراره، ضمن طرحه لإشكالية وحدة المغرب العربي والأمة العربية، بإمكانية الاستقلال الوطني. من هذه الخلفية النظرية يسند الكاتب للإرادة الشعبية دورا مهما في الوحدة المغاربية أو القومية. يقول "أصبح هكذا في إمكاننا أن نربي الشباب المغربي تربية عربية إسلامية ووطنية تحبب في نفسه العزة والألفة، وتقوي فيه حمية قومية تجرّه إلى الدفاع عن نفسه وبلاده حتى تزداد روح الأمة المغربية العظمى وحدة تنضاف إلى الوحدة الطبيعية الموجودة. إذ ذاك يمكن لنا أن نطبق مبادئنا كلها".
على هذا الاساس يمكننا أن نعتبر علي البلهوان قد مهّد لصياغة مفهوم ((الوطن)) و((الوطنية)) في بعده القومي، وليس من منطق قطري انفصالي. وهو بذلك يعد من المفكرين الأوائل الذي وضعوا الأساسي الفكري لمفهوم الأمة بمستوياتها المتعددة، بل إنه يجوز لنا القول بأن جذور الفكر القومي كحقيقة تاريخية ذات منبت مغاربي تونسي وليس مشرقي مصري.
إن قراءتنا لكتاب "نحن أمة" تنبني على اعتقاد بأن أطروحة الكاتب لها علاقة حيّة بما يجري على الساحة الوطنية والعربية عموما. وعلى هذا الأساس سنعمل على تحليل حصيلة التجربة الثورية التي استجدّت في تونس لإدراك الاشكاليات المتعلّقة بإصلاح النظام السياسي وكاستجابة لمشروع عربي فريد يعمل على تذليل وحلّ الأزمة البنيوية للدولة العربية الحديثة. ومن ثم تطويرها بالشكل الذي يستجيب للتحدّيات الفعلية على صعيد وطني وقومي وعالمي.
المراجع:
1 -علي البلهوان (نحن أمة) إصدار دار الحرية-رقم 7-فنون الرسم والنشر-القصبة-تونس 1990 تقديم د. زهير الدوادي
2 – نفس المرجع، ص 3–31.
3 -نفس المرجع، ص37-38.
4 -نفس المرجع، ص39-41.
5 -نفس المرجع، ص 41-45.
6 -نفس المرجع، ص46-58.
7 -نفس المرجع، ص58-62.
8 -نفس المرجع، ص62-64.
9 -نفس المرجع، ص64-65.
10 -نفس المرجع، ص68-79.