6 آلهة وشياطين: : گلگامش 1


مالوم ابو رغيف
2019 / 5 / 26 - 17:13     

ملحمة گلگامش اول ملحمة شعرية عرفها التاريخ، آلفها شاعر بابلي مجهول، وقد تُرجمت الى 16 لغة في سنوات وفترات مختلفة تبدأ ببيت شعر يقول ( ذاك هو الذي رأى الاعماق).
لقد زاد الاهتمام بملحمة گلگامش بعد المحاضرة التي القاها الانجليزي جورج سمث سنة 1872 في الجمعية الاثارية للتوراة عن اسطورة الطوفان الموجودة في الملحمة والتشابه بينها وبين الاسطورة الموجودة في العهد القديم من الكتاب المقدس.
اثار هذا الاكتشاف ضجة وحماسا لمواصلة التنقيب عن الاثار لمعرفة المزيد حتى ان جريدة الديلي تليگراف اللندنية خصصت الف جنية استرليني لجورج سمث لمواصلة التنقيب، وبالفعل استطاع جورج سمث الحصول على عدد قليل من القطع الاثرية وقد نشر نتائج ابحاثة قبل ان يتوفى وهو في عمر 36 في سنة 1876.
اخترعت الكتابة المسمارية في مدن ما بين النهرين في حوالي 3000 قبل الميلاد عندما أصبحت إدارة المؤسسات الحضرية العظيمة مثل القصر والمعبد، معقدة للغاية بحيث لا يمكن للذاكرة البشرية أن تتعامل تفصيلاتها. لقد تطورت الكتابة ببطء شديد فمن المذكرة الخاصة بالمحاسب إلى نظام كتابة يمكن أن يعبر ليس فقط عن كلمات وأرقام بسيطة، ولكن عن إبداعات العقل الانساني المتعلم. ولأن الطين لا يناله الخراب بسهولة عندما يتم إلقاؤه أو دفنه في أنقاض المباني، استطاع علماء الآثار العثور على اعداد كبيرة(500,000) من ألواح الصلصال المنقوش عليها بحروف مسمارية، لكن المشكلة هي ان ضخامة هذا العدد من الالواح والقطع الاثرية يقابله عدد ضئيل من الذين يجيدون البابلية والاكدية، مما يعني ان Assyriology سيرافق الانسان مدة طويلة جدا. بالطبع هناك الواح مكتوبة باللغة السومرية وهي لغة غير سامية وليس لها اي علاقة باي لغة من اللغات المعروفة اليوم، لذلك يصعب جدا فك رموزها وقرآتها. اما اللغة الاكدية فهي سامية ولها قرابة مع الارامية والعبرية والعربية.
ولنا في هذا الخصوص ملاحظة، هي ان البلدان المعنية بالحفاظ على حضارتها وعلى تراثها التاريخي القديم مثل العراق، لا تبذل اي جهد يذكر لا في تعلم اللغات القديمة ولا في صيانة الاثار وانها لمهزلة العصر ان تتمكن عصابة اسلامية مثل داعش من احتلال نينوى فتدمر اثارا التي لا تقدر بثمن عن حضارة الانسان.
اسطورة گلگامش ليس نشيدا او شعر دينيا، على العكس، هذه الملحمة تصور لنا تناقضا بين ابطال الاسطورة وبين الالهة فـ گلگامش يقتل خمبابا الذي عينته الالهة لحراسة غابات الارز، ويهين الالهة عشتار ويصفها بالخائنة العاهرة ويقتل الثور السماوي الذي انزلته الالهة بناء على طلب من عشتار للانتقام من گلگامش ومن انكيدو.
ملحمة گلگامش تنقل لنا فزع الانسان من الموت الذي يطيح بمثل انكيدو العملاق القوي الوحشي ويجعله جثة هامدة لا حراك فيها ولا حياة. انها تنقل لنا ايضا خيبة الانسان في الحصول على حياة دون موت، حتى عشبة تجديد الشباب التي حصل عليها گلگامش من اتونبشتم، تاكلها الافعى فيتجدد جلدها كلما حل به القدم، والى يومنا هذا انشغل الانسان بأطالة سنوات الحياة وتجديد الشباب بعمليات التجميل او بالبوتكس او تناول اقراص الفياغرا.
تصور الملحمة گلگامش بانه كان عملاقا كما يظهر في التمثال التي عثر عليه حيث يقف منتصبا يخنق اسد من رقبته ويضغطه على جسده فيبدو الاسد وكانه قطة ميته، يبلغ طول گلگامش 11 ذراعا وعرض صدرة تسعة اشبار، لو نظرنا الى هندامه وتنسيق لحيته وغطاء رأسه وعضلاته وقوته التي يعكسها تمثاله، لعرفنا كم كان الانسان قبل 4000 سنة انيقا ومتطورا وفق المقاييس الجمالية لذاك العصر.
حسب الاسطورة كان گلگامش ملكا وسيدا لاوروك، ولقوته ولجبروته يصح ان نسميه Superman ذلك العصر، كان حكيما ومحنكا وبارعا بما لا يقاس. كان ثلثي اله وثلث انسان.
حكم اوروك بالظلم والقسوة والجبروت والقمع، لم يترك ابنا لابيه ولا عروسة لبطل او محارب اوشاب ان لم يفض بكارتها قبل زوجها، كان يجبر الشباب على عمل السخرة ويقرع الطبول ليوقظهم في ساعات الصباح الاولى ليعملوا دون اجر.
كانت الناس المعذبة دائمة الشكوى الى الاله آنو منه ليحد من غلواه ويقلل من ظلمه لهم. استدعى الاله انو الالهة الام ارورو Aruru التي خلقت جنس الانسان وامرها ان تخلق مماثلا بالقوة لگلگامش، اخذت الالهة اورورو حفنة طين والقت بها في البرية فاخلق البطل انكيدو من ذرية الصمت قويا متماسكا، ومن اجل غاية واحدة، ليمسك بزمام گلگامش ويحد من تجبره وطغيانه وظلمه لكي تحفل اوروك بالراحة والسكينة.
كان انكيدو مثل الوحش الهائج، شعر رأسه ينزل على كتفيه وكانه شعر امراة، جسده يغطيه الشعر وكانه حقل شعير، عاش مع الحيوانات في الحقول الكثيفة وكان مثلها يعتاش على الحشائش والاحراش ومثلها يعب الماء.
رآه الصيادون يجوب البراري فتجمدت قلوبهم في صدورهم من منظر هيئته المرعبة.
فذهب احد منهم الى ابيه مفزوعا يخبره عن الرعب الذي اصابه عند رؤية ذاك الرجل المتوحش الذي يرافق الحيوانات وينحدر قويا مدويا وكانه صخرة سقطت من السماء. ويذهب مع القطيع الى كل مكان، وانه قرر ان لا يعاود الاصطياد مرة اخرى اذ بقى هذا المفزع في البرية.
نصحه ابوه بالذهاب الى گلگامش ليترجاه ان يرسل معه المومس شامخات Shamhat لتغويه وتشغله بها عن مرافقة الحيوانات التي ستتركه وتهجره.
ذهب الصياد الى گلگامش شاكيا بان هناك رجل متوحش قوته مثل صخره حطت من السماء يجوب التلال مصحوبا بقطعان الحيوانات، لا يستطيع احد الاقتراب منه ولا يتجرأ على الاصطياد طالما كان موجودا.
ذهبت المومس شامخات مع الصياد الى حفر الاستسقاء حيث ياتي انكيدو مع الحيوانات لشرب الماء، وعندما جاء انكيدو مع قطيع الحيوانات خاطب الصياد شامخات:
هاو هو قادم فاطلقي سراح نهديك، اكشفي له عن جسدك وادهشيه بمفاتنك، لا تتكوري على نفسك بل استنشقي رائحته، سيقبل عليك فافرشي ثيابك ليستلقي على جسدك، افعلي ما يجب على المراة فعله للرجل ليشبع شغفه منك حضنا ولمسا، عندها ستفزع منه الحيوانات مع انه ولد ونشأ بينها.
سبعة ايام بلياليها بقى انكيدو منتصبا يدنس نقاوة جسدة بغلمته. لم يعد قادرا على الركض كالسابق ولم يستطع اللحاق بالقطيع عندما تركه وابتعد عنه سريعا. ، فرجع الى المومس يجلس بين قدميها حزينا فاشارت اليه بالذهاب الى اوروك للقاء ملكها گلگامش لان كلاهما الهة اكثر مما هم بشر.
وهنا اشارة غاية في الاهمية وهي ان المراة تذهب بهمجية الرجل وتروضه وتمنحه المتعة والهدوء. وهذا ايضا ما نراه في المجتمعات، فكلما ارتفعت مكانة المراة، كلما زاد تحضر المجتمع وزادت مدنيته، والعكس صحيح، كلما تدنت مكانتها تدنت حضارة المجتمع وكثرت فيه ميول التوحش كما هو الحال في المجتمعات الدينية او المنغلقة على نفسها.
عملت الموموس على تهذيب وتشذيب هيئة انكيدو المتوحشة وعلمته كيف يأكل الخبز وكيف يشرب المسكر القوي كما يفعل الرعاة، علمته طرق معاشرة النساء واحترام التنظيم والاصول.
فزع سكان اوروك وهربوا كالاطفال عندما شاهدوه وهو يجوب اسواق المدينة بهيئته وبنيته الضخمة القوية التي لا تقل عن جبروت هيئة گلگامش.
كل يوم في اوروك تقام الاحتفالات وتضرب الطبول فينهض الجميع حتى الطاعنين في السن ، كانت المومس تعيب على انكيدو جهله بالحياة، وتصف گلگامش بالمهابة وعدم الاكتراث والبهاء وحب الالهة والمومسات له. كانت تشعل في روح انكيدو نيران الغيرة . خامر االطموح مخيلة انكيدو بانه سيحل محل گلگامش ملكا على اوروك اذا صارعه وانتصر عليه.
وفي الطريق الى ساحة الاحتفال اخبر احد المارة انكيدو بان گلگامش يحظى دائما بـ droit de seigneur او حق السيد، اي فض بكارة الانثى قبل زوجها، غضب انكيدو وعرقل مراسيم الاحتفال واندلع صراع ضاري بين گلگامش وبين انكيدو واستمر حتى اعترف انكيدو بغلبة گلگامش وسيادته على اوروك واصبحا اصدقاء كما في الحلم الذي رآه گلگامش وقصه على امه قبل ان يلتقي بانكيدو.
ذهب انكيدو بصحبة گلگامش الى امه البقرة المتوحشة نينسون Ninsun التي باركت صداقتهما واتخذت من انكيدو ابنا لها.
گلگامش اخبر انكيدو بعزمه على قتل خومبابا الذي عينه الاله انليل حارسا على غابة الارز البعيدة. لكن انكيدو قال له:
صوت خومبابا زئير كهدير الطوفان
كلامه النار
وانفاسه الموت الزؤام
أي معركة ضد خومبابا معركة خاسرة
قال گلگامش
لماذا يا صديقي تتحدث كانك الضعيف
كلماتك مبعثرة تبعث اليأس والقنوط
كل انسان ايامه معدودة
مهما يعمل لا يبقى شيء وكانها الريح
لقد ولدت وعشت في البرية
كانت الاسود تخاف منك
كل الرجال امامك يهربون
وقد اختبرت قلبك في الصراع وفي النزال
فهلم بنا الى الحداد.
استمع گلگامش وانكيدو الى نصائح كبار السن ثم ذهبا الى الإلهة نينسون ام گلگامش ، فاستعانت بمساعدة إله الشمس، شماش، ومساعدة زوجته.
وقدم گلگامش الاوامر لحكم اوروك خلال غيابه وغادر الصديقان مدججين بالاسلحة باتجاه غابات الارز البعيدة الى معركة لا يعرفان عواقبها والى مصير مجهول. قطعا مشيا ما قيمته شهر ونصف بثلاثة ايام فوصلا الى اطراف غابة اشجار الارز، حيث يقبع حارس عينه خومبابا لمنع دخول اي انسان اليها.
ضعفت عزيمة گلگامش وخارت قوته، لكن انكيدو قال له الم تصمم على قتل خومبابا حارس الغابة، فلماذ التردد، في العادة يرتدي خومبابا سبعة معاطف حتحصنه من أي سلاح وتمنعه الوصول الى جسده، لكنه اليوم لا يرتدي سوى ستة معاطف، اليوم لم يعد منيعا على الاسلحة.
هجم انكيدو على الحارس فولى مولولا يستنجد بخومبابا، بينما طغى النعاس والتعب على گلگامش واستسلم للنوم.
يتبع في الحلقة القادمة