تولستوي وطريق الخلاص من الحرب والعنف


محمد وهاب عبود
2019 / 5 / 25 - 03:28     

بحجم اراضيها الشاسعة تمتلك روسيا نخبة ادبية وفكرية واسعة شقت طريق الابداع والتجديد لكن القلة القليلة من اعمدة الثقافة الروسية ابحر في فضاء العالمية ولعل اشهرهم هو الكاتب والمفكر ليف نيكولاييفتج تولستوي الذي ما ان ذكر اسمه حتى يتبادر الى الاذهان رواية "الحرب والسلم" التي وصفت بالعمل الملحمي ومن روائع الادب العالمي .
لقد توغلت انتاجات تولستوي في عمق النفس البشرية وتعرضت الى قضايا انسانية لطالما شكلت معول هدم لاحلام الجنس البشري بحياة هادئة وهانئة ومن بينها قضية الحرب والعنف. وقد تصدى "ليف" لهذه المأساة عبر تبنيه فلسفة وافكارا الهمت الكثيرين واضحت فيما بعد مبادئ عامة واساسية لمنظمات حقوق الانسان وللناشطين السلميين .
انتقد تولستوي -في حياته واعماله - مؤسسات الدولة والمحاكم والاقتصاد بإدانة أخلاقية لاذعة. أنكر الثورة كوسيلة لحل الاشكاليات والقضايا الاجتماعية اذ يعتقد مؤرخو الفلسفة أن هذا كان تجسيدا لبعض المفاهيم الاشتراكية خاصة على صعيد رفضه القاطع للملكية والدولة البوليسية ومناصرته للفلاحين ومطالبته بالعدالة المساواة . الهيكل الاساسي لافكار تولستوي عن العالم كانت مثالية ونظر للحياة بأبوة والى المسيرة التاريخية من زاوية "المفاهيم "الأولية" للوعي الأخلاقي والديني للبشرية.

اعتقد تولستوي أن الخلاص من العنف الذي يفتك بالعالم الحديث ممكن عن طرق عدم مقاومة او التصدي للشر عن طريق العنف ومن خلال التخلي التام عن كل اشكال الصراع العنفي ، وكذلك على أساس التحسن الذاتي الأخلاقي لكل فرد وأكد: "فقط عدم مقاومة الشر بالعنف هو الذي يدفع البشرية إلى استبدال قانون العنف بقانون الحب"

ونظرا الى صلابة قوى الشر ، دعا تولستوي إلى إنكار الدولة لكن إلغاء الدولة ، في رأيه ، لا ينبغي أن يتم عن طريق العنف ، ولكن عن طريق التهرب والانسحاب السلمي والسلبي لأفراد المجتمع من أي نوع من الواجبات والمناصب العامة ومن المشاركة في الأنشطة السياسية. وقد تم تعميم أفكار تولستوي على نطاق واسع.
في الوقت نفسه وعلى اثر ذلك واجه تولستوي موجة انتقاد عالية من اليمين واليسار. من قوى اليمين بسبب انتقاده للكنيسة اما من قوى اليسار فقد اعتبروا افكاره محاولة لتخدير الفقراء والعمال ودعوتهم لطاعة الدولة التي تنمو فيها ثروة الحكام بينما ترزح الجماهير العاملة تحت البؤس والشقاء , اذ يشير لينين إلى أن تولستوي انتقد بقوة الاستغلال الرأسمالي ومهزلة المحاكمات لكن من ناحية اخرى وصف افكاره بانها اشبه بالوعظ الديني "بعدم مقاومة الشر" بالعنف .

رفض الثوريون أفكار تولستوي خلال الثورة ، لأنها كانت موجهة لجميع الناس ، بما في ذلك أنفسهم. وبينما كان العنف الثوري يُمارس ويتجه نحو النجاح والنهاية تجنب قادة الثورة تأثير مفاهيم تولستوي على الروح المعنوية للثوار والخشية من تضاؤل زخم الجماهير المحتجة لذلك لم تنشر اعماله الا بعد اقل من عشر سنوات على الثورة فيما ساهمت افكار تولستوي عمليا في نزع سلاح المناوئين للثورة.

ومع ذلك ، فإنه ليس من الانصاف إدانة الكاتب على رؤيته للسلم. فقد الهمت تلك الرؤية الكثير من الناس بينهم المهاتما غاندي كما اشاد الكاتب الأمريكي ويليام هاولز بافكار تولستوي التي وصفها ب"الموهبة الفذة" قائلا: "تولستوي هو أعظم كاتب في كل العصور لأن اعماله مشبعة بروح الخير وتجسيدا لاتحاد الضمير بالفن"