مأزق الدولة الأمة ومعالم التمييز بين الهويات


رضا لاغة
2019 / 5 / 23 - 17:42     

إن الخوض في اشكالية أزمة الدولة ـــ الأمّة ومعاينة تجلّياتها على الصعيد الوطني أو القومي أو الإسلامي ومقاربتها علميّا يطرح من الناحية الموضوعية تحدّيا معرفيّا ومفاهيميّا. لأن الإلمام بتفاصيل هذه الأزمة وجدليّة وقوعها تاريخيّا في زمننا المعاصر، يطرح مخاطر السقوط في القراءة الايديولوجية التي لا توفّر لنا حيزا موضوعيا لتحليل الظّاهرة في مختلف أبعادها. فإذا كان مفهوم الدولة القومية يشير بالأساس إلى عاطفة الولاء نحو الأمّة، ومفهوم الدولة الوطنية يشير بالأساس إلى عاطفة الولاء نحو الدولة نفسها؛ فإن مفهوم الدولة الاسلامية يشير إلى عاطفة الولاء نحو دولة الخلافة.
لذلك سنتابع في هذا الطرح نقدا جريئا لمأزق الدولة ـ الأمّة ضمن وجهات نظر قد تتعارض في الكثير من جوانبها مع ما طرحه هابرماس.خصوصا عندما اختارت بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، فيما أطلق عليه بـ"البريكست"، وظهر جليّا التهديد المترتّب عن تنامي الحركات الانفصالية في بعض الدول الأوروبية، من ذلك زلزال استفتاء كاتالونيا وتداعياته. إن هذا التهديد على ما يبدو مرتبط بمرجعيات قومية متطرّفة وتيّارات يمينيّة متشددة تنادي بالخروج من الاتحاد الأوروبي. فالدعوة الانفصالية تناقض جوهر الفكرة الاوروبية الهادفة الى أوروبا موحّدة وبالتالي الذهاب إلى ما بعد الدولة ــ الأمة. إنّ حدثا كهذا يثبت أن مسألة الدولة ــ الأمة لا تزال تفرض ذاتها لا فقط على صعيد ما هو عربي بل وأيضا على صعيد الحداثة الغربية.
وسيكون مجالنا المحدد حصاد القرن الماضي واستشراف المستقبل. ولكن أيّ مستقبل؟ مستقبل الدولة ـــ الأمّة للمجتمع التونسي أم العربي أم الإسلامي؟
إن الكتابة عن المفهوم الدولة ــ الأمّة من هذه الخلفية التاريخية يثير ابتداء مشكلا أساسيّا، فالتّعامل مع الماضي والمستقبل يتطلّب اختلافا في الزّوايا وتباينا في مناهج التفكير وأدوات التحليل.
ألا يمكن أن يكون السؤال الذي نطرحه اليوم مجرّد صورة مكرّرة لما طرح في الماضي؟ هل نحسن حقّا اليوم الإجابة عن سؤال من نحن؟ كيف نخرج من حرج الوقوع في ثقافة إيديولوجية وقوالب تدمّر طريقة تفكيرنا عن نظرية الدولة ــ الأمّة لنقع في أدلوجة الدولة بتعبير عبد العروي؟
هذا الأمر يمهّد تفحّص خصوصيات التمثّل التاريخي لمفهوم الدولة ـــ الأمّة بما هو تمثّل تتشكّل بداخله رؤى متناقضة تجعلنا نميّز بين الحقيقة العقلية للمفهوم والحقيقة التاريخية.
يتساءل عبد الله العروي: عن الأسئلة التي يمكن أن يطرحها المرء، "عندما يتعرّض لقضية الدولةـ الأمّة، أكان بهدف التّبرير أو بهدف الكشف والتعرية؟" (1) . ومع أنه لا ينكر أصالة هذه الأسئلة وعمقها ولا أثرها التحرري على الفكر السياسي العربي المعاصر، إلا أنه يشير إلى التناقض الذي ينخرها من الدّاخل؛ إذ " انها أسئلة تنبع من تجربة الحاضر وفي نفس الوقت تعبّر عن تجربة الماضي" (2). والنتيجة الحتمية لذلك أننا ما زلنا نتحرّك ضمن مجال أدلوجة الدولة ــ الأمّة أو ما يسمّيه أرنست كاسيرر " أسطورة الدولة ـــ الأمّة ".
يمكن أن نقول مبدئيّا أن التّباين بين التصوّر العقلي والتاريخي يقوم على تمييزنا بين الحقيقة الفلسفية المعاصرة ضمن الحضارة الغربية والواقع التاريخي العربي والاسلامي. فهل أن تمثّل مفهوم الدولة ـــ الأمّة عندنا كمجتمع تونسي أو عربي أو اسلامي، يتمّ من العقل الصرف أم انطلاقا من الواقع التاريخي؟
هذا الجدل معقّد للغاية، بدليل أن الدعوات لتنوير عربي إسلامي، إنما تصدر " إمّا عن انكار واع أو غير واع بوجود تجربة تنويرية عربية إسلامية، وإمّا عن أزمتها. إن لم يكن تشخيصا كوارثي لحالتها الراهنة بالفشل الذريع" (3). فالصعوبة هنا تكمن في تدفّق معاني متداخلة بين مقاربات ذهنية متنافسة. لذلك تبدو عبارة " مابعد " حمّالة لأوجه متعددة. ونعني بـ "ما بعد" في كلمة ما بعد كولونيالي المعنى الزمني (ما بعد الاستعمار) والمعنى التقويمي (التقدير وفق معايير الاستعمار) ومعنى الوضع المعيشي والسياسي. وقد اضفنا ما بعد " لا" لنشير لتعقيد علاقة التنوير العربي بالتنوير الغربي" (4). هناك إذن رؤى تنازعية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة لا يمكن فصلها عن أزمة الواقع العربي نفسه موضوعيا و تاريخيا: أزمة التبعية ، أزمة العلاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني .لأن النموذج الفكري في الوعي العربي و الاسلامي تشكّل على نحو مغاير، فالعلاقة بين العقل والدولة أخذت في الواقعية السياسية الغربية بعدا تحرريا؛ إذ أنّ الشعوب الأوروبية تمرّدت ضد التاريخ السياسي للقرون الوسطى باعتباره متعارضا مع العقلانية، وفي المقابل كان العرب يؤسسون لمفهوم الدولة ــ الأمة لا باعتباره مستمدا من إرادة العقد الاجتماعي والعقلانية بل كنتيجة لمصالحة بين مقتضيات العصر والإسلام (5).
تاريخيا لم يتناول التراث السياسي العربي والاسلامي مفهوم الدولة ـــ الأمّة بوصفها كيان سياسي جغرافي متضمّن لعناصر الأرض والشعب والسّلطة، بل إنّ التّنظير لفكرة الدولة ــ الأمّة، حمل قدرا كبيرا من الرؤية الأخلاقية والرومانسية. لذلك بقيت جلّ الكتابات حول الدولة ــ الأمّة مثقلة بعبء التجربة التاريخية ولم تستطع الانفكاك عنها وتجاوزها. ومن الملفت للانتباه هنا أن مفهوم الدولة ــ الأمّة ولد من رحم حركات التحرّر التي قامت على رفض الاستعمار من جهة وفصل الدين عن السياسة من جهة ثانية. وهو فصل جاء وليد عصر النّهضة الأوروبّية التي عرفت فصلا بين الزّمني والرّوحي، أي بين الحياة الدنيوية والحياة الدّينيّة لأنّ لكلّ منهما فضاءه الخاص.
إن منظومة القيم التي دعا إليها مارتن لوثّر غيّرت مجرى التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في أوروبا فتحقّق لأوّل مرّة في التاريخ فصل الدين عن الدولة أو ما يطلق عليه بمفهوم " العلمانية".
فما هي العلمانية؟
العلمانية بفتح العين، مشتقّة من كلمة العالم، بفتح العين. وهي مفهوم ليبرالي يشير إلى فصل الدين عن الدولة والمجتمع المدني عن المجتمع السياسي، بمعنى ألا تمارس الدولة أيّة سلطة دينية وألا تمارس الكنيسة أيّة سلطة سياسية. هذا التعريف يحيلنا إلى القولة الشهيرة لمحمد عبده: "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين".
من هذا المنطلق فإن الدولة الدينية هي التي تجعل الحاكمية لله وحده. وهي النواة الأساسية التي يقوم عليها المشروع الاسلاموي، أي الدولة الدينية التي تطبّق الشريعة وليس القانون الوضعي الذي يصوغه العقل البشري. وبالتالي فالدولة المدنية هي دولة القانون والمجتمع المدني. إنها الدولة الحديثة التي تقوم على أساس مفهوم المواطنة. فهي لا تمنع المواطنين على أن يكونوا مؤمنين ومتديّنين بل تعطيهم الحرية الكاملة في اعتناق العقيدة وممارسة الشعائر والطّقوس الدينية التي يعتنقونها.
ونحن نعتقد أن انطلاق حركات التحرّر العربي كانت انتصارا للدولة ـــ الأمّة، غير أن هذا التحرّر يؤسّس في الواقع على منظوريات تخضع لمحددات إيديولوجية مسبقة تتخذ مسارات ثلاثة: الدولة ـــ الأمّة على الصعيد الوطني، الدولة ـــ الأمّة على الصعيد القومي والدولةـــ الأمّة على الصعيد الاسلامي.
1. الدولة المدنية والاسلام السياسي
يفضّل البعض استخدام مصطلح الأصوليّة أو الاسلاموية كتعبير على الحركات الاسلامية لكونها تنشط فى الساحة السياسية وتنادي بتطبيق أحكام الشريعة في الحياة العامة والخاصة على حد سواء. وهو ما يبرّر معاداتها، في سبيل تحقيق هذا المطلب،الحكومات و الحركات السياسية الأخرى التي ترى أنها توانت في الامتثال لتعاليم الاسلام و خالفتها. وهي تنصّب نفسها كسلطة تضطلع بمهمّة الدّعوة والاكراه والتّصحيح. وفي كتابه "الإسلام والحداثة" يميّز عبد المجيد الشرفي بين ثلاثة مستويات للإسلام: يتّصل المستوى الأول بكون الإسلام مجموعة من القيم التي نصّ عليها القرآن، وهي مجمل القيم الدينية والأخلاقية والوجودية. والمتعارف عليها بأنها تتجاوز الزّمان والمكان وتمثّل جوهر الإسلام. يتناول المستوى الثاني الممارسة التاريخية للإسلام وما نتج عنها من قيام مؤسّسات صاحبت مرحلة التطوّر والتوسّع، وهو ما يستدعي سنّ تشريعات تتناسب مع الأوضاع السياسية والاجتماعية المستجدّة. يدخل في هذا المجال مستوى ثالث تحوّل فيه الإسلام إلى مؤسسة لعب فيها رجال الدين دور السلطة الدينية والسياسية، أو ما يمكن أن نسمّيه نظرية الدّمج بين الدين والسلطة واعتبار الإسلام دين ودولة.
وبالتالي يرفض الاسلاميون (تاريخيا) القبول بالدولة المدنية لأنها تستند إلى الأساس الفلسفي التشريعي الذي يحتكم إلى قرار الأغلبية (الشعب) كمرجعية في اصدار التشريعات واختيار نظام الحكم. وباعتبار أن الفكر الفلسفي السياسي ونظرية العقد الاجتماعي التي انطلقت منها فكرة الدولة المدنية، تقوم على فكرة الحق بوصفه ينشأ ضمن حدود الوجود الاجتماعي ليتساوى بذلك المواطنون فيما بينهم، فهم أصحاب الحق في التوافق على شكل الحق الذي تقوم عليه الدولة وليس الحق الإلهي في الحكم والتشريع. من هنا يتّضح لنا مبرر رفضهم القبول بالدولة المدنية باعتبارها نقيضا للدولة الاسلامية.
ومصدر الاشكال ليس في الإسلام وما إذا كان ينطوي على طابع مدني. فالله عز وجلّ يقول في محكم تنزيله:"يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات 13)، المشكل يمكن في التأويل ومشروعية استخدام مصطلح الأمّة الإسلامية كنقيض أو بديل للوجود الوطني أو القومي. في حين أن الدولة ـــ الأمّة هي بناء سياسي وهي مصدر السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية من خلال ما يسمّى بوكلاء الدولة. في هذا الإطار يطرح عبد الله العروي السؤال التالي: ماذا نعني بالدولة الاسلامية؟ على أيّة مادّة سنعتمد لنتصوّر واقعها التاريخي ونحلّل آليتها وجهازها؟"
إن هذا السؤال يحيلنا حسب الكاتب الى تخيّلات الدولة النموذجية أو ما يسمّيه الطوباوية الاسلامية.
وعليه يجب تمييز الأساس النظري بين الشريعة والقانون، فالشريعة أحكام ملزمة دينيا للفرد المؤمن، بينما القانون وضع بشري ملزم دنيويا بحكم طبيعة الدولة التي تمارس السلطة بتفويض من المجتمع.
إن الشريعة " تخاطب الدولة بصفتها وسيلة لتبليغ الدعوة إلى الفرد" (6). وعليه فإن الارتكاز على نظرية مفهوم الدولة لدى حركات الاسلام السياسي يحيلنا الى مفهوم الخلافة بوصفه مدخلا أساسيا في فهم مفهوم الدولة ـــ الأمّة.
ويقوم مفهوم الأمّة على الدعّوة لمشروع الدولة الاسلامية، ومن أجل أن يتحقّق هذا المشروع يجب استدعاء مفهوم الإمامة أي الرّجل الصّالح والمؤمن لتصبح بذلك الدولة ــ الأمّة مرادفة لأمّة القرآن. لا مجال اذن للحديث هنا عن مفهوم الدولة ــ الأمّة كما يطرحها الفكر السياسي الغربي، لأنه مفهوم يدور على يوتوبيا الخلافة.
يعرّف الكاتب اليوتوبية على نحو فريد: "انها تخيّل نظام أفضل خارج الدولة القائمة" (7)، لنقع بذلك ضحية أدلوجة الدولة المستقبلية.
إن الطوبى الاسلامية تكمن في انتظار دولة الخلافة بالهام رباني. قد تقودنا هذه النظرة الى طوبى التغيير المبني على نقض الكيان القائم. إن تحليل الدولة الاسلامية عند عبد العروي يظهر تمازج السلطة كواقع والخلافة (الامامة الشرعية) كطوبى. وهو ما يبرّر استحالة تجسيد شرعية السلطة واجماع المواطنين.
والغريب أن هذا اللا تناسب بين تصوّر دولة الخلافة والتّجسيد الشّرعي للسلطة ينبني على لا تناسب ثان بين الماضي والحاضر، أي بين الطوبى الاسلامية (الماضي) وتصور الدولة العربية الواحدة (الحاضر). وهو ما يفضي إلى سحب الشرعية من الدولة القومية والدولة الوطنية أو الاقليمية على حد سواء.
فأية علاقة تبدو اليوم بين مفهوم الدولة ـــ الأمّة مع نظريات الدولة في الفكر القومي العربي؟
و لأن الفكر القومي وفق تعبير عصمت سيف الدولة يعتبر "أن الأمة العربية ولدت مع الإسلام و شبّت معه و تكوّنت حضاريا من خلال تفاعله في ظله دينا ودنيا" ، لا يكون ملزما لنا تبنّي ما طرحه عبد الله العروي ، على وجاهة ما ورد فيه تحليل، كما لا يكون مفهوما على أيّ وجه إعادة نسخ الطرح السياسي الغربي كما هو دون اجتهاد و تدبير للدفاع عن الإسلام من موقف عروبي. وهو ما يتطلّب إيضاحات قدّمت بداية لزمن حديث في الفكر القومي ولكنه تجمّد لأنه لم يترك ذكريات حيّة تكفي لوضع أهداف ووسائل نضال جديدة. هنا تكمن الأصالة الفريدة لكتاب العروبة والإسلام.
المراجع:

1ـ عبد الله العروي،مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي،ط 9، 2011، ص 7
2 -نفس المرجع، ص 7
3 –نفس المرجع
4-أنظر مقال: التنوير العربي المعاصر.ملاحظات أولية من منظور "ما بعد لا كولونيالي". www//:faroukit.blogspot.com.
5 -يؤكد برهان غليون أن تمثّل إطار الدولة الحديثة ومجمل القيم السياسية الملازمة لها لم يكن نتيجة تطوّر طبيعي وذاتي في التجربة التاريخية العربية في العصر الحديث؛ بقدر ما كانت نتيجة لانهيار النظام القديم تحت تأثير الضغط المادي والعسكري والنفسي والثقافي للحضارة الغربية. (أنظر: اغتيال العقل، دار التنوير، بيروت، ط2).
6 -عبد الله العروي، الفصل الأول، ص16.
7 -نفس المرجع، ص 198.