الثورة الحضارية الجديدة...هل نصنعها..؟


محمد عبد الشفيع عيسى
2019 / 5 / 23 - 00:37     

كان ظهور الإسلام فى شبه الجزيرة العربية، منذ أربعة عشر قرناً، بمثابة ثورة كاملة، ثورة عقائدية بالذات ، ومركزها "التوحيد"؛ و من التوحيد نبعت فكرة "المساواه"-في ظروف العصر- و شىء كثير من العدل-وفق نفس الظروف. وكان ذلك كله يمثل انقلاباً كاملاً على منظومة القيم السائدة فى معظم مناطق العالم حينئذ، في مطلع القرن السابع الميلادي: عالم الشرق والغرب، أى العرب والفرس والروم و اللاتين وصولا إلى الهند و الصين.
وكانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية مهيأة لأن تؤتى الثورة ثمارها فى موطنها وما حولها : فقد كانت منطقة شبه الجزيرة، وبالتحديد منطقة الحجاز ومركزها مكة والمدينة، هى النواة التجارية الفاعلة فى وسط العالم (المتمدن) آنئذ.
كان الحجاز مركز التجارة بين اليمن والشام ، ومن اليمن إلى افريقيا الشرقية ، ثم من الشام إلى امبراطورية الروم جميعاً وما وراء المتوسط . وكان التوسط التجاري هو مفتاح الحركة الدينامية الفاعلية، ومحورها الاجتماعي فئة التجار . وهم ليسوا تجاراً فقط وإنما محاربون أيضا -فاتحون، فهى طبقة "أو شبه طبقة" "التجار – الفاتحين" كما عبّر سمير أمين .
ومن التجار المحاربين الفاتحين– المؤمنين – تكونت نواة فعالة اجتماعياً وإيديولوجياً، وتوفرت لها قيادة ممثلة في النبي محمد (571 -632 م)، مفكراً ومقاتلاً و صاحب حسَ ملهم عميق. و توفرت "قاعدة " هى شبه الجزيرة العربية.
وكان أن اكتسحت النواة ، بقيادة وقاعدة ، العالم من حولها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ، فطالت اليمن ومسّت أطراف الشمال عند الشام فى غزوة تبوك، وتهيأت للعراق وفارس، وحوض المتوسط . وبعد وفاة النبى قام خليفته الأول بتأديب "المتطاولين" – المرتدّة- و وأْد الفتنة في شبه الدول الوليدة . ثم قام الخليفة الثانى "أمير المؤمنين" بالتوسع المنتظر (الفتح) للعراق ثم فارس، فى معركة القادسية ونهاوند، حيث سعد ابن أبى وقاص و رفاقه، وفى الشام كان دور خالد بن الوليد و أبى عبيدة ابن الجراح، واتسع القوس إلى مصر مع عمرو بن العاص.
ومع فتح الأمصار، كانت عقيدة التوحيد والمساواة وشىء كثير من العدل قادرة على هزَ الأمصار هزاَ ، وصولاً إلى جنوب أوروبا وأسبانيا – الأندلس - فانتشر الدين ومعه اللغة ، ومعهما عالم اجتماعى كامل جديد. ثم أخذ (الإسلام) – وهو الكل المعقد المكون من العقيدة و الشريعة و الفقه و العالم الاجتماعى الجديد – أخذ يتحول إلى حضارة انطلاقاً من بذور حضارة . وكان أن قام الأمويون والعباسيون باحتضان الحضارة الجديدة ونشرها إلى أقاصى آسيا (الهند وأطراف الصين) وأطراف أوروبا (أسبانيا وصقلية وشطر من بلاد الفرنجة الأخرى – فرنسا وإيطاليا الحاليتين). وبادرت ضربات خارجية بمحاولة تدمير الأعصاب المركزية لهذه الحضارة مشرقا ومغربا، فكان هجوم الفرنجة –تحت راية مزعومة للصليب- على ساحل الشام وأرض فلسطين في مطالع الألفية الثانية للميلاد( : الحملة الصليبية الأولى 1096-1099 والثانية في عام 1145). وانكسرت موجة الهجوم الرئيسية تلك في معركة حطين (1187) بقيادة صلاح الدين الأيوبي . تلت ذلك موجة الهجوم التتاري التي نجحت في اجتياح عاصمة العالم الإسلامي بغداد عام 1258 و انكسرت الموجة الرئيسية الزاحفة إلى الشام، في معركة "عين جالوت" بقيادة سيف الدين قطز ثم الظاهر بيبرس عام 1260. وفي المغرب كانت معركة كبرى مماثلة للمشرقية في قوتها القتالية في مواجهة زحف القوط على الأندلس، وإن تأخرت عنها زمنيا، وكان ما كان من جهد عسكري صارم على أيدي المرابطين، بقيادة يوسف ابن تاشفين (1083-1143) ثم على ايدي الموحدين وخاصة ابن عبد المؤمن (1163-1184).
وكان للمواجهات الكبرى، امام التحديات الخارجية، أثر كبير في استنفاد قوة المقاومة في الجسد العربي-الإسلامي، طوال خمسة قرون وأكثر، من القرن الأول للألفية الأولى حتى السادس منه ونيّف، كما كان لها أثرها في تصدر القوى الاجتماعية المعسكرة للمشهد العربي والإسلامي كله طوال القرون التالية، لتحل "العساكر" محل الأمراء وحلفائهم من التجار والحرفيين وكبار حائزي الأرض، كمركز لا ينافس للقوة بكل معانيها، القوة المجسدة حربيا و اقتصاديا، والقوة غير المجسدة، ثقافة آفلة و تديّنا يرين عليه الجمود، ثم توسط القوة كلها في مجال الحكم، ممثلا في قاعدة السلطة السياسية النابعة من فوهة البندقية، ومعها ينابيع الثروة من بعد.
وهكذا، وفى نهايات العصور الوسطى الأوروبية تم فتح القسطنطينية ،(1453) لتُدْبِر دولة "الروم" المسيحية الشرقية ، ويحل محلها العثمانيون-ورثة "السلاجقة" الذين حاربوا "الروم" قرنا بعد قرن، ثم ليقوموا بفتح أو بإعادة فتح كل ما هو حول هضبة الأناضول ، وخاصة البلقان وشطر من شرق أوروبا الحالية، والأقاليم الناطقة بالعربية كلها تقريبا، شرقها وغربها .
وتشاء الأقدار ان يتزامن عوْد الصعود الإسلامي-نسبيا و بمعنى ما- علي أيدى الأتراك العثمانيين، لا سيّما بدخولهم القسطنطينية – عاصمة الإمبراطورية البيزنطية ، مع تحول نوعيّ هائل في شمال و غرب أوروبا، اقتصادياً واجتماعياً ، ببزوغ نظام اقتصادي اجتماعي جديد هو النظام الرأسمالي الحديث، من قلب الزراعة فالتجارة ومنهما إلى الصناعة ثم المال، وأخيرا: التكنولوجيا.
كانت الدولة التركية العثمانية الناشئة، والضاربة في جميع الاتجاهات بالعالم (القديم) حينئذ، ذات سطْوة عسكرية ولكن مع تأخر اقتصادى لأسباب شتى . لذلك لم يترجم الصعود العثماني تقدماً اقتصادياً، بقدر ما ترجم عسكرياً من خلال المساعدة في حماية "الثغور" بالمنطقة العربية الإسلامية مشرقا ومغربا-وهي المركز الوسيط للتجارة العالمية آنئذ- في مواجهة الزحف البرتغالي –الأسباني (و الهولندي)، بعد سقوط الأندلس النهائي (1492)، ثم البريطاني والفرنسي، تحت أعلام الرأسمالية البازغة.
ذاك إذن جرح قديم و نازف لم يزل ، رغم تقلب الدهور؛ فقد انطبعت الهزيمة الحضارية محفورة في أحجار البناء العمراني وفى أذهان البشر؛ فإن اعتزاز ذوى الحضارة بحضارتهم تلك، العربية-الإسلامية، كان أكثر من المألوف عالميا إلى حد بعيد، إذا صح التعبير، بالمنظور المقارن، بفعل تداخل (المدنية) و الثقافة لدى غالبيتهم، في الحقيقة، بالإرث التاريخي للعقيدة الدينية -الإسلامية.
ولما أخذت تنشأ حركة القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، ثم استوى عودها في أواسط القرن، كان تركيزها في البداية موجها ضد الأتراك العثمانيين بمنطقة المشرق، ثم صار موجهاً في الأخير ضد العدو الخارجي في عموم الوطن العربي. وبذا تحولت من محض حركة قومية عامة وثقافية- لغوية في مواجهة حملة "التتريك"قبل الحرب العالمية الأولى، الي حركة سياسية في مواجهة السيطرة الاستعمارية الغربية والمشروع الصهيوني، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

عودٌ على بدء
عودٌ إلى ما قبل ذلك، إذْ كانت المنطقة العربية- الإسلامية المركزية، وخاصة قلبها العربى ومحوره "مصر – الشام" المملوكية، هى واسطة العالم التجارية، حتى اكتشاف رأس الرجاء الصالح، في نهاية القرن الخامس عشر (1498)، الذي بعده ران الركود على المركز وأطرافه القريبة في ظل الأتراك العثمانين، الذين توّلوا، بمعنى ما، حماية الأطراف المهددة في "الغرب الإسلامي" بخاصة، أي المغرب العربي الحالي، وشواطئه المديدة، من جانب أسبانيا الجديدة وريثة الحكم الإسلامى فى الأندلس، و قبلها البرتغال.
تلك إذن الموجة الثانية من التوسع الحضارى الإسلامى و نواته العربية، هي الموجة العثمانية، بعد الموجة الأولى الممركزة عربياً فى مكة ودمشق وبغداد والقاهرة الفاطمية، مع بقاء آثار الشعلة الأولى قائمة في مراكش وفاس والقيروان، وإن بشكل مختلف.
و كان أن تهددت الموجة الثانية ، ومركزها العربى – المصرى ، ومن حوله شبه الجزيرة خاصة جنوبها (اليمنى – العمانى حاليا) باكتشاف أوروبا البورجوازية الناشئة، انطلاقاً من أسبانيا – فاسكو دى جاما – للطريق الدائرى من رأس الرجاء الصالح . وكانت قد جفت ينابيع التجارة الأوسطية مارة بين الشرق والغرب عبوراً لإفريقيا، بعد أن هُزِم المماليك من البرتغاليين في موقعة "ديو" البحرية على شواطئ الهند عام 1502، تزامناً تقريبيا مع سقوط آخر معاقل الحكم الإسلامي فى الأندلس. وكانت هذه نقطة التحول الكبرى باتجاه هيمنة تركيا العثمانية لدرجة السيطرة على الشام من بين فكىَ المماليك (1516) وصولاً إلى المركز المصرى نفسه (1517) .
بعد ذلك، انتقل مركز الحضارة إلى أوروبا ، بدءً من أسبانيا ومعها دولة "النمسا –المجر" بزعامة آل هبسبورج التى كانت عجمت عود تركيا العثمانية الجديدة فلم تنكسر، بل و دقّت أبواب فيينا .
واستطاعت أوروبا أن تتقدم بالكشوف الجغرافية –بعد الأمريكتين- إلى سواحل إفريقيا و الهند الشرقية، حيث حملت الطبقة البورجوازية التجارية ثم الصناعية مشعل الحضارة الجديدة وريثة الإسلام .
هكذا إذن وقف عالم الإسلام ، تحتضنه تركيا المعسكرة ، مقابل أوروبا "الاقتصادية" الزاحفة إلى عالم ما وراء البحار، آسيويا-إفريقيا و كذا أمريكياً . وكان أهل عالم الإسلام هذا، ومعه تركيا الحامية للثغور، ولو نظريا فقط، قد استمرأ جلّهم اجترار (الإسلام-الدين) محولاً إياه إلى عقيدة ينتابها الجمود، فى أعراض "الدوجما" المعتادة ، يتناوشها كل طرف من جانبه، طائفياً ومذهبياً .
ذلك إذن هو عصر "الانحطاط" الذى حاول الإبقاء على ما بقى قائماً من الشعلة الحضارية الذاوية، بذبالة شبه منيرة، اعتماداً على الشرح والتفسير على هوامش المتون .
ولما اختفى "التجار – الفاتحون"، لم يحل محلهم تكوين طبقى مبادر، فقد انتقلت الدينامية الاجتماعية إلى أوروبا البورجوازية، وما عداها فى العالم تُبَّع وتوابع .
وطوال العصور الحديثة منذ مطلع القرن السادس عشر، ظل عالم الإسلام عسكريا – تركيّا، مع وجه مملوكىّ فى المشرق، و آخر عسكري وارث للأندلس في المغرب، ومن حوله عالم "مختلف تماما"، بل ومعادٍ.
لم يختلف حال العالم الاسلامى -ومركزه "الوطن العربى" الحالي العتيد – طوال القرون الخمسة الأخيرة تقريبا. خمسمائة عام، ران عليها جمود عقائدى ، وتجمد اجتماعى ، ونقل بالعقل و بدونه معاً، وتطلع ناحية الغرب في القرنين الأخيرين بالذات، للأخذ دون عطاء.
هذا العالم لم يعد قابلاً للتطور الحضارى الحقيقى بحاله القائم ذاك، إلا أن يشهد ثورة جديدة، مشابهة من حيث الدلالة العامة لثورة الإسلام المزلزلة منذ أربعة عشر قرناً، ولكنها ليست ثورة على الإسلام ذاته، وإنما ثورة تغتنى به وتغنيه . ومنذ قرنين و نحن نجرّب – نحن العرب – طريقاً خارج الإسلام، و من داخله غالباً، وفق أفهام بعضها منير وغالبها غير ذلك، فهل آن الآوان لاشتقاق بناء عقائدى و اجتماعى جديد ؟
لقد حانت الفرصة مع انتشار الاشتراكية في العالم و عندنا، خلال القرن العشرين، وجربها بعضنا ولم يكمل، لظرف داخلى وخارجى معقد . وحانت الفرصة مع القومية العربية أيضا وخاصة بعد ثورة الثالث والعشرين من يوليو – تموز – 1952 فى القاهرة ، ولم يكتمل البناء القومي-الاشتراكي، إذ سرعان ما عاجلته قوى الغرب ومعها الوكيل الجديد – الأمبريالية الصغرى- ممثلة في الكيان الصهيوني إسرائيل .
أفلا نستطيع إذن ، بناءً على قوى اجتماعية جديدة قوامها المنتجون "الذهنيّون"- فى عصر الاقتصاد الرقمي– أن نقيم عالماً جديداً ، بإيديولوجيا متساوقة معه ، قائمة على القيم العتيدة : تطور دائب، ومساواة ، وعدل. إيديولوجيا لا تنطلق من الماضي وحده، ولكنْ تُصالحه مع المستقبل الآتي، بل و تفيد منه ما استطاعت، بالتآلف مع المسيحية الشرقية .
فهل نستطيع ؟ ولكن كيف لنا في مصر العربية أن نفعل ذلك و هذا ماضينا البعيد و القريب يجثم فوق الصدور. و فضلا عن ميراث الجمود ذي (الطابع "الكهنوتي)، إن صح التعبير، الممتد بعمق وعَبَق، طوال قرون، تطل أشباح الهزيمة من بين كوّات التاريخ العريق.
وحقا، إن بعض الشعوب تقع ضحية تاريخها بالذات. و هكذا الحال مع الشعب العربى فى مصر.
فالوحدة الوطنية التامة أو شبه التامّة، النافية للُفرقة والشرذمة، غدت منذ عشرات السنين تحول دون إمكانية انبثاق أحزاب سياسية فاعلة .. عل عكس الحال مع بلدان المشرق العربى مثلا.ـ ذات الهشاشة البنيوية من الزاوية الجيوبوليتيكية في عصرنا.. ولكن ذات القوة الفعلية فى بنيانها الحزبى؛ فكأن فُرقتها سرّ نجاحها النضالى الشعبى: "سوريا – لبنان" ، فلسطين، و إلى حد ما العراق والأردن .
ثم أن قِدم أو "أقدمية" الجهاز الحكومى فى مصر ، ذى الذراع الضاربة فى أعماق التاريخ ، صارت – فى ظل الدول الحديثة – تحول دون تطويع الجهاز وقابليته للإصلاح ، بفعل مقاومته للتغيير. فهو واهنٌ ثقيل الخطى .. عكس الحال مع بلدان أخرى ذات ماضٍ قريب فى مجال " بناء الدولة" ، فقد أسست جهازاً إدارياً للدول الوليدة من "نقطة الصفر"، فكان لبعضها ما أرادت من استخدام جهاز الحكم بقدر عالٍ نسبياَ من المرونة.
وإن مصر معقد الأمل العربي، والأمل فيها معقود على تأسيس حركات سياسية منظمة فاعلة ذات بعد تقدمي وعروبي عميق، ثم بناء جهاز للإدارة العامة وإدارة الإنتاج موافق للعصر الجديد، تحت رايات التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية والاستقلالية الوطنية-القومية الحقيقية.