مغالطة تعميم مفهوم الأغلبية والاقلية على حقوق الإنسان


مولود مدي
2019 / 5 / 22 - 22:57     

المعضلة التي تواجه قضية حقوق الإنسان في العالم العربي هي إخضاعها لرأي الأغلبية فهي لا ترقى إلى أن تكون حقوقا إلا إن صادقت على ذلك الأغلبية. هذا تسبب في ذوبان استقلالية الفرد لصالح رأي الأكثرية في المجتمع كنتيجة طبيعة، وأصبح الفرد في مجتمعه سواء كان ينتمي الى الأقلية أو الاغلبية، يحدد موقفه من قضايا مجتمعه على حسب رأي الأغلبية وليس على حسب قناعته الشخصية، فكل تلك القضايا المجتمعية لا يتم عرضها للنقاش المفتوح بين المواطنين بل تحسمها جملة "مجتمعنا أغلبيته كذا" اذن على الأقلية أن "تحترم" الأغلبية، وفي الحقيقة مفهوم الاحترام المقصود هنا هو كلمة مخفّفة تعوّض كلمة "يتنازل" عن حق من حقوقه الاساسية، والا عليه ان يغادر بلده ويهاجر نحو بلد أخر ليمارس حريته كاملة..

إفراغ كلمة "إحترام" من محتواها هو في أحسن الأحوال غطاء لإقصاء فئات معينة من وظائف حكومية على سبيل المثال لمجرد اختلافها مع الأغلبية في الدين والمذهب و في أسوئها عذرٌ لتبرير انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. ان الشخص الذي يقبل بإنتهاك احد حقوق الاخر بحجة انه يعيش في وسط مجتمع "محافظ" وأن على الأخر ان يقبل بهذا و "يحترم" عليه أن يراجع جيدا معنى كلمة "احترام" وان لا يستخدمها في غير محلها، فمن يؤمن بصحة وعدالة فكرته عليه ان يعبّر عليها بكل وضوح لا ان يخفيها وراء خطاب معسول.
مفاهيم (حقوق الإنسان) ، (الأقلية/الأغلبية) هي ركائز أساسية من أجل إعادة تأسيس للمسائل العالقة (دولة المواطنة، العدالة الاجتماعية..) ، ومعالجة المشكلات الصعبة في دولنا ومجتمعاتنا (الاستبداد مثلا)، ان أي تغير في الواقع، يسبقه تغيير في الفكر، يعني يجب تصويب المصطلحات السياسية ووضعها في سياقها.
مصطلح (أغلبية/أقلية) هو من طرق ادارة السلطة، يعني أنه مفهوم سياسي (نسبي)، وفي الديمقراطيات العريقة، يتم وضع هذا المصطلح في سياقه، بالانتماء إلى هذا الحزب السياسي أو تلك الكتلة السياسية، وليس إلى الأغلبية الطائفية أو القومية أو الدينية.

وبالمناسبة، المجتمعات المتقدمة التي تتميز بتفوقها السياسي، تجد ان العمل بالتمايز بين مواطنيها كأكثرية وأقليات على حسب الدين والمذهب والعرق ممنوع، الدولة ينبغي أن تخدم كل مواطنيها، والمواطنة لا تفرق بين الناس إلا من خلال ما ينتجه أو يبدعه أو يقدمه كل مواطن لمجتمعه، فتجد الانتخابات سياسية محضة، ويتم اختيار المسؤولين والزعماء اختيارات سياسية أو تكنوقراطية أو براغماتية، يتم اختيارهم بناء على مشاريعهم وليس لأنهم المتحدثين بإسم دين او طائفة معينة، حتى الأحزاب السياسية في أوروبا التي تضيف على أسمائها كلمة "مسيحية" مثل الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، والذي يقبل بغير المسيحيين بين صفوفه، ويقبل بقيادة المرأة للبلاد.. اضافة كلمة "مسيحية" الى اسم الحزب تعني أن الحزب يستمد أفكار التعايش والمحبة من الديانة المسيحية، ولكن ليس من اجنداته مخططات لفرض المسيحية على غير المسيحين، او لإنشاء دولة كهنوتية مسيحية..

مفهوم (الأقلية/أغلبية) نسبي يتغير حسب ظروف الواقع، فما هو اغلبية اليوم قد يكون أقلية غدا، وصول اليساريين مثلا الى السلطة بعد فوزهم في الانتخابات البرلمانية لا يعني أنهم سيبقون أغلبية الى الأبد، فإن فشلوا في الوفاء بوعودهم التي قطعوها على الناخبين وفشلت سياستهم فلن يصبحوا أغلبية، وسينتخب الناس غيرهم ويصبحون تلقائيا عبارة عن أقلية، وحتى ان كانوا أقلية، فلا يعني أبدا أنهم سيبقون كذلك، النازيون في ألمانيا كان ينظر اليهم كمجانين غوغائيين لا أفكار متناسقة لديهم، وأي حديث أنذاك عن وصولهم الى السلطة هو نكتة بحد ذاته، وكان هتلر في نظر السياسيين الألمان عبارة عن مهرّج دجّال يبحث عن الشهرة وفقط، الى غاية حدوث الكارثة الاقتصادية العالمية في 1929، وأصبحت أفكار النازيين القومية تجذب كل الشعب الألماني الذي وأد بنفسه الديمقراطية وسمح لهتلر بأن يصل الى الحكم
مصطلح (حقوق الإنسان) لا يمكن أن نعمم عليه فكرة (الأغلبية/الأقلية) .. حقوق الإنسان هو مصطلح لا يمتلك أي تعريف واضح، ولكنها ليس مصطلحا ذي جوهر متغير حسب ظروف الواقع، لأن فكرة الحقوق قائمة على الحفاظ الكرامة الإنسانية وحمايتها، فلا يمكن أن ننزع من الإنسان حقّه في الحياة مثلا بسبب مستجدات الواقع، ولا أن نخضع ذلك الحق الى الانتخاب والى قاعدة (الأغلبية/الأقلية) ونفس الأمر ينطبق على حق اعتناق أي عقيدة او مذهب يريده الإنسان، وحق التعبير عن الرأي الخ..

كذلك لا يستطيع أن يأتي رئيس دولة ويقول أن حقوق الإنسان لا تصلح لبلاده، او أن شعبه غير مستعد لها وكأن شعبه منفصل تماما عن الشعوب الاخرى، هذا يعبّر على أن أصحاب ادعاء أن (حقوق الإنسان) هو مفهوم غربي يجهلون أن هذا المصطلح مُعرّف دوليا كمفهوم مُسقَط على الجميع.. وفي هذه النقطة تلتقي الانظمة العربية الديكتاتورية مع الإسلام السياسي، الإسلامويين لا يتوقفون عن تأصيل المفاهيم الغربية ومحاولة ايجاد السبق الإسلامي فيها (كمفاهيم الديمقراطية، حقوق الإنسان..) وهذا لكي يثبتوا أنهم ديمقراطيين ومؤمنين بحقوق الإنسان وف نفس الوقت يقولون أن هذه الحقوق لا تصلح لمجتمعهم الشرقي، بحجة أن مجتمعاتنا محافظة، وكأن التديّن والمحافظة على القيم يستوجب الغاء حقوق الإنسان، فإما أن تختار بين دينك وبين حقوق الإنسان وهكذا يضعون من حيث لا يشعرون الإسلام وحقوق الإنسان في صدام، ومن جهة هم يتهافتون في دول الغرب لإظهار سماحة الإسلام وأنه أعطى للإنسان كامل حقوقه غير منقوصة.

الاستناد الى مفهوم (الأغلبية/الأقلية) من أجل تبرير قمع حقوق الأقليات، وقمع الرأي المخالف لتوجه الأغلبية، ليس فقط عبارة عن خلط مفهوم سياسي بمفهوم حقوقي، بل هو مغالطة منطقية بحد ذاته، الاعتماد على رأي الأغلبية للفصل في قضية معينة، يسمى بمغالطة (الحجة من السلطة – Argument from authority) .. لا يعني مجرد كون مجموعة كبيرة من الأشخاص تعتنق وتتمسك بقضية معيّنة يدل على أنها صحيحة بالضرورة، الكثير يطمئن لقمع الأغلبية لأفكار الأقلية، بسبب أن الاغلبية اتفقت على ممارسة القمع.

يجب أن اشير الى نقطة مهمّة، القول بأن (حقوق الإنسان ) هو مفهوم غربي، لا يعني أن منشأها هو في البلاد الغربية بالضرورة، انما المقصود أن نضج هذا المصطلح تم على أيدي مفكرين غربيين، بوذا كان من الأوائل الذين اهتم بالمسألة وتحدث قبل ألف عام عن ما يهدد الحريات الأساسية للإنسان جراء العنف والفاقة والاستغلال ونقض العهود.. وجراء الاستبداد الديني، وتمرّد الناس على الظلم والاستبداد انتقلت قضية حقوق الإنسان من الفلاسفة وأنبياء الاديان، الى الحكّام، ولعل أكبر مثال هو وثيقة العهد العظيم الشهيرة (الماجنا كارتا) التي أصدرها الملك الانجليزي جون عام 1215 تضمّنت الاعتراف بحق الفرد في التقاضي.

اذن رفض (حقوق الإنسان) بحجة انه فكر غربي هو طرح لا معنى له، فالمصطلحات عندما تصاغ فهي تصاغ عند بلوغ الظاهرة المقصودة النضج والذروة، ودومًا أي مصطلح في أي مجال هو يعبّر عن نضج في المسار، المصطلح لا يظهر قبل الفكرة، مثل فكرة "التنوير" الكثير من المفكرين العرب يرون أن التنوير هو فكر غربي محض، بينما من يقرأ التاريخ يجد أن جذوره تعود الى الصين، الأفكار عبارة عن موروثات، فهي تتطور وتغتني بموروثات أخرى الى ان تصل الى النضج، وبعدها يظهر المصطلح الخاص بها، وهذا ينقض تلك الدعوات "المحافظة" التي ترى أن "التنوير" ، "حقوق الإنسان" هي مصطلحات غربية، والغاية من الاشارة الى الغرب ليس الاعتراف بالفضل وانما تقبيح هذه المصطلحات، لأن التيار الإسلامي زرع في الناس أن المسلم هو معدن الأخلاق السامية و الاخر المخالف دينيا منحل أخلاقيا، وهذا ما يحصل عندما يشعر المغلوب بالهزيمة فيلجأ الى الهجاء الاخلاقي كأخر سلاح يستطيع أن يواجه به الغالب.