الثورة المصرية.. والبحث عن دولة يناير (3)


محمد دوير
2019 / 5 / 17 - 16:25     

يخطئ من يتصور أن الخلاف السياسي بين النظام الحاكم الآن وجماعات الإسلام السياسي هو اختلاف جوهري ، فالموقف من الشريعة الإسلامية وكل ما يتصل بعلاقة الدين بالدولة والموقف من المرأة والمواريث والأحكام الدينية المختلفة ...الخ ليس فيه اختلاف كبير او رئيسي. وكذلك الموقف من الاقتصاد الحر والتبعية وشرعية الملكية العامة ...الخ ليس بينهما ايضا اختلاف كبير.. وكذلك الموقف من دور الجماهير في الحياة السياسية والعامة ، ففي الاسلام السياسي يوجد أهل الحل والعقد الذين ينوبون عن الامة في تحديد المصالح العليا، ولدي النظام الحاكم نجد المجلس العسكري ومجموعة الرئيس هي المنوط بها تحديد مصالح الأمة العليا... وكلاهما لا يؤمن بحق الشعوب في تحديد وتقرير مصيرها، فالشعوب دائما - في تقديرهم - غير مؤهلة للديمقراطية، وتقتصر وظيفتها فقط علي التأييد والحشد، مثلما فعل الاخوان أثناء انتخاب مرسي، ومثلما فعل رجال السيسي أثناء استفتاء الاعتداء علي الدستور..
هنا.. يتفق النظامان " نظام دولة الخلافة ونظام الدولة الوطنية المستبدة" علي ضرورة استبعاد الجماهير من دائرة التأثير السياسي. وربما كانت هذه النقطة بالذات هي أهم قضية تحالفا فيها سويا، وسيبقي استفتاء 19 مارس نموذجا صارخا يكشف مبكرا عن أن قوي الثورة المضادة كانت علي وعي تام بكيفية الحفاظ علي مصالحها التي تعارضت في لحظة ما مع تطلعات الشعب الثائر..وفي تقديري ان قدرات النظامين علي استشعار خطورة الحراك الشعبي كانت أقوي من قدرتهم علي التعاون المشترك لفترة طويلة، فحدث الشقاق مبكرا بعد تولي مرسي بشهور قليلة..
وللاسف.. لم تستفد قوي الثورة من النزاع الذي دار بين دولة الخلافة والدولة الوطنية المستبدة، بسبب غياب تلك القوي الثورية وسيطرة الحالة الرومانسية علي مواقفها ، فاستسلمت للانقسام بين مؤيد للاسلاميين وداعم للعسكر..
لذلك لم يتبقي من يناير سوي الدروس المستفادة ومن أهمها
1- الوعي الثوري المتراكم
2- النخبة الثورية الجديدة التي تتشكل الآن
3- تناقضات قوي الثورة المضادة التي تزداد كل يوم
4- تقلبات الوضع الدولي والاقليمي الذي ربما لا يكون في صالح النظام الحاكم الان. من هنا.. وجب علينا أن نعيد النظر من جديد.. في تحليلاتنا لمسار ثورة يناير ومستقبل الحراك الجماهيري في ظل أوضاع أمنية قاسية تحكم قبضتها علي النخبة السياسية التي تطرح رؤي معارضة بشكل جذري..
.. إن أخطر ما يواجه قوي الثورة الآن.. هو سؤال الهوية .. من نحن ؟ وماذا نريد ؟ وكيف ننجز مهامنا ، الصغري قبل الكبري..؟ كيف نبدأ من جديد .. في مجتمع أنهكه كل شيء.. الغلاء .. التفاوت الطبقي.. حتي التظاهر والاحتجاج بات شيئا مرهقا ومكلفا خاصة أنه يتم بتكلفة غالية جدا من شهداء ومعتقلين.
وجدير بالذكر أننا أمام نوعين متصلان بسؤال الهوية: الهوية السياسية والهوية الثورية، والثانية منبثقة عن الأولي.. وليس العكس.. فنحن إن بدأنا من الهوية الثورية كمدخل للهوية السياسية نتج عنه مواقف وتحالفات تختلف جذريا لو أننا وضعنا الهوية السياسية أولا ثم اشتقاق الهوية الثورية بناء عليها.
.. وما حدث في يناير أن ضغت الهوية الثورية " حديث الثورة الميتافيزيقي" علي الهوية السياسية تحت شعار" التخلص من مبارك أولا ثم مواصلة السير.. " .. وتم التخلص من مبارك بالفعل تحقيقا لرغبة الجميع" دعاة الدولة الوطنية المستبدة ودولة الخلافة والدولة الديمقراطية المدنية" وحينما رحل مبارك تم استدعاء الهوية السياسية فانتصر الإسلاميون وبقي العسكر يراقبون الموقف حتي انتهزوا فرصة القفز علي السلطة من جديد.
.. وفي تقديري، أنه لابد من العودة من جديد، لوضع العربة أمام الحصان.. وطرح سؤال الهوية السياسية ليحتل مقدمة المشهد السياسي الراهن.. بمعني هناك ضرورة لتحليل النظام الحاكم والإسلام السياسي أيضا تحليلا طبقيا،أو بمعني أبسط تحليلا اقتصاديا ، وننطلق من هذا التحليل الي وضع بناء تصوري عن الحالة الاجتماعية المصرية وتأثير السياسة والاقتصاد والثقافة والتقاليد والأعراف وتأثرها بالأمية الابجدية والسياسية وتأثرها أيضا بثقافة ما بعد الحداثة في مجتمع ما قبل حداثي..
.. في تقديري ، مرة أخري، أن إحياء نمط التفكير الايديولوجي المتوافق مع متغيرات العصر، والمتوافق أيضا مع تعزيز إنسانية الإنسان دون وضعه في طاحونة التفكير المغلق، هذا الاحياء ضروري في حالتنا الراهنة..
كيف نخلق مناخا سياسيا ( ايديولوجيا وطبقيا ) نرسم به ملامح مشروع سياسي يكون منطلقا لتجديد الحالة الثورية ؟ والحقيقة أننا نجتهد كثيرا في ملاحقة قرارات ومواقف النظام الاقتصادية والسياسية، وكذلك في نقد تعليقات الإسلام السياسي علي الحياة السياسية العامة، وهو ما يعني أن لدينا من الوعي الكافي لفرز الخصوم وملاحقة أخطائهم.. وهذا هو الجانب الأول في عملية بناء البديل.. ولكنه ليس كافيا أبدا..ذلك أن العمل علي خلق تيار ديمقراطي مدني قضية يجب أن تخرج من حيز الجماعة الوطنية إلي براح الجماهير الواسع، وتلك هي الإشكالية التي مثلت احدي أزمات يناير الكبري.. فنحن من دفع باتجاه إدخال الجمل من ثقب إبرة، أي من سعي الي تكثيف وتركيز الجماهير في بؤرة التحرير، فجعلنا الفعل الثوري عملا مركزيا " جغرافيا وسياسيا" .. إذ تحلقت عيون المصريين حول الميدان، واختزلت مطالب المحتجين حول خلع مبارك، ومن بعدها خلع مرسي.. ونمارس نفس الخطيئة الآن بالصراخ بخلع السيسي.. والقضية ليست في خلع هذا أو ذلك أو ذاك.. وإنما في خلع النظام نفسه... وانتزاع انيابه من جسد المجتمع قضية لا مركزية أصلا، ولا فردية أيضا، ولن تتم بنضال الجماعة الوطنية، فقط تلك الجماعة التي تتآكل يوميا بصورة مرعبة بفعل عوامل النحر السياسي وتجريف الوعي الجمعي باتجاه تنشيط غدد الحلول الفردية والبحث عن مخرج للذوات التي أرهقها الفشل المتواصل...
.. ومن هنا.. استطيع أن أقول: أن التكوين الثقافي والمعرفي والسياسي نفسه يمر بأزمة.. ذلك التكوين الذي تشكل في ظل مجتمع ظل علي مدار قرنين من الزمان مشوها باستثناء فترات نادرة وقليلة..وهذا التشوه خلق نزعة ثقافية تشبه التراتبية العسكرية، فهناك القائد أو الزعيم ثم الإتباع، مما أدي الي نشأة الحلقية في كافة التنظيمات السياسية، بل وغالبا ما يتم تعريف التنظيم باسم صاحبه... فما يفعله النظام المصري برفع صورة الزعيم فوق رؤوس الناس، فعلته الجماعة الوطنية بوضع نفسها معيارا للأحكام السياسية والقيمية..وتلك آفة الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة عموما.. ومن هنا نواجه أهم الصعوبات وأخطرها.. صعوبة كيف نبني تنظيما أفقيا لا رأسيا ؟ وكيف نتداخل مع الجماهير ونجعلها - وهي في مواقعها دون الرحيل الي المركز الثوري - قادرة علي التأثير والرؤية ؟
من الضروري أن يعلم الجميع.. أن نقد النظام فقط..ليس عملا ثوريا.وأن دولة يناير ضرورة تاريخية،لأنها الدولة المدنية الديمقراطية التي ستنقل المجتمع المصري من مرحلة ما قبل الحداثة إلي مقدمات الحداثة التي أصبحت فريضة واجبة علي كل مواطن يبحث عن حريته ويضمن الحد الأدنى من مقومات الحياة.