الكونية


محمد وهاب عبود
2019 / 5 / 15 - 04:56     

يستوطن في الوجدان والعقل الانساني منذ امد بعيد حلم تشكيل صورة مغايرة عن العالم الذي نحياه, بحيث يمكنك أن تتخيل العالم كله وطنك , العالم الذي تشعر فيه بالراحة والحرية وفي فضائه تجمعك صلة قرابة روحية مع الاخرين باعتبارهم بشر, هذا المفهوم يسمى الكونية

الكونية هي مفهوم قديم تم تداوله في العصور القديمة خاصة من قبل مدرسة الرواقين الذين بينوا ان الناس ينقسمون إلى أولئك الذين يستخدمون عقولهم واولئك المناهضين لنمط حياة العقل . الرواقيون يؤكدون انه بمجرد أن نبدأ في استخدام العقل والسعي من أجل حياة مثالية سوف نجد انفسنا متحدين على الفور بسبب العقل أو الصوت الداخلي الذي يطالبنا بذلك. هذه العقلية ستكون اللبنة الاولى لتشييد وطننا الموحد"العالم" اذ يصبح كل الناس العقلاء اسياد في وطنهم. الدخول إلى هذا المجتمع مفتوح للجميع"لا حرس حدود ولا اسوار ولاخفر سواحل ، ولا توجد قيود. ومن هنا جاءت فكرة كوزموبوليس ، والتي تعني في اليونانية "مدينة الكون". الكون كدولة ، كمكان يمكننا التعايش فيه معًا.

بالإضافة إلى الاساس الواضح أن العالم كله هو وطننا ، يرى الكونيون بوجوب أن توضع مصالح البشرية جمعاء في المقام الأول. عندما نسأل أنفسنا عما إذا كان ينبغي لنا أن نرسم هذه السياسة أو تلك ، ونجادل فيما اذا كان ذلك القرار السياسي الصادر أخلاقيا أو غير أخلاقي فيجب اولا أن نسأل أنفسنا ما إذا كان جميع الناس سوف يصب لصالحهم القرار ام لا. إن القضايا التي تهم الجميع اليوم من - تطوير التكنولوجيا والحرب والمشاكل البيئية – كانت ولا تزال قضايا عالمية ، وبدورها اثارت جدالا واسع النطق عما اذا كان ينبغي ان نكون كونيين للتصدي لمشكلاتنا الراهنة

كان عمانوئيل كانط من أوائل رواد الكونية والكلاسيكية. في أطروحته الموسومة "إلى السلام الأبدي" ، قال إن هناك طريقة لإنهاء الحرب: على جميع الدول على الأرض أن تتحد في اتحاد واحد من الجمهوريات. ويحتفظون بالسيادة والاستقلال ، لكنهم سيفوضون جزءًا من سلطاتهم إلى هيئة أكثر عمومية.

بقيت صورة كانط للهيكل السياسي للعالم طوباوية/مثالية ، لكن بعض أفكاره ظهرت في الحياة. تجدر الإشارة إلى تاسيس منظمة الأمم المتحدة ، التي لا تزال قائمة. على الرغم من أن دورها قد تراجع في العالم الحديث. مثال أكثر وضوحا هو الاتحاد الأوروبي ، وهو كونفدرالية للدول الحرة الموحدة في مجال سياسي وتجاري واحد.

في الفلسفة السياسية الحديثة ، تعد الكونية واحدة من الطرق للتدليل على فشل المسلمات السياسية ، التي تفترض أن الدولة القومية يجب أن تكون دائمًا في صلب الاهتمام وفي محور النقاش السياسي وترديدها لجملة من الشعارات مثلا " المصالح الوطنية , شعبنا , تاريخنا , لغتنا , مستقبلنا". في نهاية المطاف ، تدور جميع السياسات العالمية حول مفهوم واحد موحد هو الدولة قومية

لكن ماذا لو أردنا فجأة أن ننظر إلى العمليات السياسية ، في السلطة ، وإلى العلاقات الدولية ليس من موقع الدولة القومية؟ ماذا لو أردنا تحويل التركيز ووضع مفهوم الدولة القومية وراء ظهورنا؟. هناك مفهوم لمدينة عالمية يعمل على تطويرها علماء الاجتماع الحديث. في الوقت الراهن جميع المدن العالمية متصلة ببعضها البعض عن طريق الاتصالات. باريس ، نيويورك ، لندن ، موسكو ، مومباي ، طوكيو متصلة باستمرار ، هناك أسواق مالية ، تبادل المعلومات ، تبادل العمالة ، إلخ
دعونا ننظر إلى هذا الموقف ، على سبيل المثال ، الدولة القومية بريطانيا العظمى. بمجرد ظهور لندن الحالية كعاصمة للإمبراطورية البريطانية ، التي حكمت نصف العالم ، والتي كانت تسيطر على التدفق التجاري الضخم. حيث يعيش ممثلو جميع البلدان والشعوب وهناك كل الأديان و توجد عقارات باهظة الثمن للغاية ، ومستوى معيشة . وقد يسأل أحد الإنجليز من سكنة لندن نفسه : "لماذا يجب علَيَ أن أربط هذه المدينة الحالية بلندن القديمة ؟ لندن - إنها مجرد مدينة عالمية ضخمة للجميع ، وليس فقط للبريطانيين. وربما يقول لندن ليست مريحة ، مدينة صاخبة للغاية ، باهظة الثمن وينبغي الرحيل الى مكان اخر اكثر هدوءا وانسب

واحدة من أطروحات علماء الاجتماع هو أن المدن تسعى للدخول الى ساحة السياسة العالمية ، وهذه وسيلة لتحويل النظر والتحول من الدولة القومية الى الكونية. لقد وضعت الدول القومية بعض العقبات المتمثلة في التأشيرات وجوازات السفر ، وما إلى ذلك ، كنوع من القيود. من المتوقع في مرحلة معينة امكانية السفر من بغداد إلى لندن بدون تأشيرة (بينما في لندن ستكون هناك حاجة إلى تصريح معين)).

الفيلسوف الأمريكي المعاصر نوسبوم ، يتعامل دائما مع الأخلاقيات ويتناول أحيانًا مسألة الكونية. لديه مقال صغير بعنوان "الوطنية والكونية" ، يستشهد فيه بالعديد من الحجج المعيارية التي تجعل الكونية مناسبة لنا. يتلخص الحديث في أهمية مصالح الإنسانية أكثر من مصالح بلادهم. يقول نوسباوم أنه باعتبارك كونيا أمر جيد لأنه وسيلة لمعرفة الذات. ومن خلال اتخاذ إجراء عقلي لتعريف أنفسنا بالعالم كله ، فإننا نفهم بشكل أفضل من نحن وما هو مكاننا في هذا العالم ، وما هي هويتنا.

يقول احدهم إن مصالح هذه الفئة او هذا الشعب أكثر أهمية من مصالح الجميع (المنطق القياسي للمصالح الوطنية). وهناك موقفان أخلاقيان لا ثالث لهما. فإما أن نقول إن علينا التزامات أخلاقية تجاه جميع الناس ، وتكون مصالح البشرية جمعاء في المقام الأول ، أو نفرد مجموعة صغيرة أو طائفة بالاولوية. وهذا ما يسمى بالقبلية الجديدة.

المفكر الثاني المثير للاهتمام هو كوامي أبيا ، وهو رجل كوني للغاية. وهو مواطن إنكليزي (من مواليد لندن) وأبواه من غانا. أبياه فيلسوف محترم. لديه كتاب مهم ، الكونية: الأخلاق في الزمن الغريب ، والذي يوضح الفكرة التالية. إذا كنا نتحدث عن العولمة ، والأسواق العالمية ، وحركة العمل ، وما إلى ذلك ، إذا كان هذا هو واقعنا ولدينا الإنترنت والمصالح تقسم على اساس وطني وغير وطني ونعيش في مدن تضم مختلف الثقافات والاديان والاعراق , عندها نحن بحاجة إلى تكييف وجهات نظرنا السياسية ونظامنا الأخلاقي والإجابة الوحيدة التي يمكن أن نقدمها هي الكونية ، التي تعود إلى كانط والرواقيين.

في اغلب محافل الدول القومية يتم تقديم فكرة الكونية باعتبارها مؤامرة وفكرة رجعية.
في الوقت ذاته تُظهر الافلام أن الأشخاص الذين يسافرون لاكتشاف كواكب جديدة يحملون أعلامًا أمريكية. بالتحديد ناسا وهذا يمكن تفسيره بان المشروع القومي الأمريكي يعمل على امركة كائنات الفضاء في الفضاء او العكس جذبهم الى الداخل الامريكي

يوحي النهج الحديث الساخر بعدم قدرة البشر على التوحد والائتلاف وان حصل ذلك ولو لمرة واحدة ، فهذا فقط نابع من تهديد بعض القوى الخارجية لنا او عدو معين او كائن غريب , وهذه الوحدة بحسب ذلك النهج ستفشل في التصدي اذا لم يكن للامريكان الدور الطليعي والقيادي في مدلول ضمني على ان التعاونية والكونية مشاريع تتناقض مع الطبيعة البشرية اما مفاهيم من قبيل الكوكب باسره "وطني" والارض من اجل الناس فهي تعتبر مثالية وضرب من ضروب الخيال وفق الرؤية الامريكية .