الطعنات القاتلة للدولة العراقية


جاسم محمد كاظم
2019 / 4 / 27 - 14:46     

الطعنات القاتلة للدولة العراقية
ظهر العراق إلى الوجود بإرادة بريطانية جراحها ونستون تشرشل بعد تأكد وجود النفط بكميات هائلة تفوق التوقعات .
عرفت الإدارة البريطانية أن سلاح النفط سيمسك مخانق البشرية للقرن القادم برمته لأنة سيكون دم الحضارة الإنسانية الدافق وان قلبه النابض يكمن في هذه المنطقة .
سار العراق على طول فترة العهد الملكي كدولة تابعة للتاج البريطاني فلا توجد وزارة عراقية ألا بمستشار بريطاني يمتلك كل الصلاحيات تماما بينما يبقى اسم الوزير سوى للدعاية والإعلان .
خشيت بريطانيا كثيرا على العراق بعد بروز دور الاتحاد السوفيتي وانتصاره الكاسح في الحرب العالمية الثانية وتنامي دور الأحزاب الشيوعية .
لذلك قسمت بريطانيا العراق إلى مقاطعات زراعية يتملك الإقطاع ما يقارب من 90% من أراضيها وبالخصوص يتملك من 6 إلى 7 أشخاص كل المساحات الزراعية ويعمل أكثر من 80% من السكان تحت سوط الإقطاع لحراثة وزراعة الأرض في عصر يشابه إلى حد بعيد العصر العبودي .
وعلى طول 37 سنة من الحكم الملكي لم يتطور شي في العراق بل بقي العراق يراوح في مكانة كقاعدة عسكرية بريطانية في الشرق ضد الاتحاد السوفيتي يفتقر إلى المصانع الحديثة وخدمات المستشفيات والرعاية الصحية والتعليم يعاني سكانه الفقر والعوز والفاقة والمرض .
بينما تذهب إيرادات النفط بنسبة 80% للشركات الاحتكارية والخزينة البريطانية ويوزع ما بقى من النقد كرواتب للزمرة الملكية والمتسلطين والجلاوزة من الوزراء وبقية سلك السلطة .
تغير الموقف بعد ثورة الرابع عشر من تموز الظافر بقيادة الزعيم الخالد عبد الكريم حيث شهد العراق قفزة هائلة وبغضون أربع سنوات تحقق مالم يتحقق في 40 سنة من حكم جلاوزة الملكية .
شهد العراق ظهور المصانع الضخمة بعد توقيع الاتفاقية العراقية - السوفيتية وبدئت بوادر الصناعة الوطنية وما تبعها من بناء الجامعات العراقية كبغداد . البصرة .المستننصرية .الموصل وبدء عهد التعيين المركزي للخريجين في المؤسسات الصناعية والخدمية وتطور القطاع الصحي كثيرا ببناء المستشفيات الجمهورية لأول مرة في العراق والمدارس المختلفة لكافة المراحل والأعمار .
تعرضت الدولة العراقية الوليدة إلى الطعنة الأولى وأصابتها في مقتل بعد انقلاب شباط الغادر وعلى طول الجمهوريات التي تلت تأسيس الجمهورية الأولى لم يتوقف الأعمار العراقي وخطط البناء لكنها الخطأ القاتل تمثل بعدم القضاء على الطبقات الإقطاعية والدينية والمستغلة بالكسر نهائيا وتنمية طبقة موالية للجمهورية قوامها العمال والفلاحين والموظفين بحيث عادت السلطة إلى مغازلة الإقطاع وقوى الرجعية وأعطت المناصب الحساسة لأبنائهم للتحكم في قيادة الدولة .
وصلت الدولة العراقية إلى ذروتها كأقوى اقتصاد في منتصف العقد السبعيني وبالخصوص عام 1978 حيث وضعت الخطط الخمسية للبناء والتنمية وبوادر صناعة وطنية كاملة للوصول إلى حالة الاكتفاء الذاتي وبناء صناعة استهلاكية متطورة وهذا ما شجع على قيام طبقة عمالية متنورة مع طبقة برجوازية قوامها الموظفون بحيث طغت مفاهيم المدينة على مفاهيم الريف ونسي الدين من الوجود وانتهجت الدولة سياسية تنويرية لتثقيف المجتمع وإبراز دور الإنسان في العمل والبناء ووصل التعليم في العراق إلى مرحلة تساوى فيها مع التعليم في الدول الاسكندافية .
نسي الدين من الوجود وأصبح القانون هو السيد المطاع بعد انحسار قيم الريف والعشائرية من المجتمع كمفهوم اجتماعي سياسي .
وقفز العراق قفزات اقتصادية مشهودة حيث تخطى الدينار العراقي نظيرة الدينار الكويتي لأول مرة بفارق دينار وربع وأصبح الدينار العراقي يعادل 3 دولارات أميركية في سوق الصرف .
لكن المأساة المتمثلة بقيادة الحزب والأمن لدولة بصورة تعسفية جدا مما يخلق حالة من الخوف والهلع في نفوس الموطن على الدوام .
كان بالحكام آنذاك في هذه الأجواء بناء جبهة وطنية تقدمية اشتراكية لقيادة الدولة وتأسيس جمعية وطنية وسن دستور ثابت وتفعيل دور القوات المسلحة في الحفاظ على الدستور وصيانته كما هي في مصر وتركيا والجزائر .
خشي الغرب كثيرا من العراق وخاصة بعد دور الجيش العراقي في حرب تشرين ومواجهة جيش الدفاع الإسرائيلي والتغلب على قطعاتة الحربية فبدء حملة تدمير للدولة العراقية بتغيير القيادة بعملية دراماتيكية تسيد بها صدام حسين المفتقر إلى كل المؤهلات القيادية سوى القتل والتنكيل بالآخرين وبغضون شهر واحد أبيدت القيادة العراقية والكفاءات الوزارية بصورة غريبة لتسود بعدها حالة من الرعب والخوف من القادم السيئ .
وما هي ألا سنة واحدة حتى أقحمت الدولة العراقية في حرب شرسة امتدت إلى 8 سنوات مميتة مثلت ثاني الطعنات القاتلة للدولة أفرزت نتائجها السلبية تدمير الدولة العراقية اقتصاديا وتوقف عجلات التنمية والتطور وتحولت الدولة العراقية ذات الميزانية الكبيرة والخزين النقدي ب30 مليار دولار إلى دولة مدينة بتكلفة أكثر من 50 مليار دولار .
ومع سقوط بعض الديون من قبل بعض الدول الصديقة وبدء حالة من الانفراج للاقتصاد بعد ضخ النفط وانتهاج الدولة سياسة قائمة على التقشف الشديد من اجل أصلاح ما يمكن أصلاحه .
لكن القادم من المجهول بقي أقوى من كل الحسابات بيوم من أيام آب اللهاب بدخول القوات العراقية إلى الكويت لتكون الطعنة الأشد قتلا للدولة بعد نفاذها في كل الأحشاء لم يحسب لها عقل صدام حسين المتكون من الغباء والعنجهية والمؤمن بعقلية البدوي الغليظ فقط .
سقطت الدولة العراقية نحو الهاوية بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت وحدوث تمردات في اغلب المحافظات وانتشار النهب والسلب والحرق لكل المؤسسات الحيوية وتوقف تام للمؤسسات الكهرباء والماء الصالح للشرب ودخول العراق نفق الحصار الاقتصادي المميت حيث لا يسمح للدولة بتصدير برميل واحد من نفطها أو مسك دولار من إيرادات النفط .
سارت الدولة العراقية على طول 13 عشر سنة في درب الموت لكنها برغم ذلك حققت الاستقرار والأمن وأدى طبع العملة المحلية إلى تحريك السوق الداخلي والعودة إلى العصر الزراعي وتحول العراق إلى قرية تمثل بظهور الشيخ والإقطاعي بدل الطبقة البرجوازية التي انهارت تماما وتلاشت من المجتمع بعد تدهور العملة وتفوق الدولار الأميركي على الدينار العراقي ليصبح الدولار الواحد يساوي 2500 دينار عراقي في أعظم نكبة تعرضت لها العملة الوطنية .
تراجعت المدنية إلى الحضيض بسيادة مفاهيم القرية وبروز طبقة شيوخ العشائر كقوة جديدة غير مألوفة في المجتمع ونمو المفاهيم الدينية بعد انتشار الحملة الإيمانية وإدخال الدين بقوة في المناهج الدراسية حتى أصبحت مادة الإسلامية من أصعب وأزعج المناهج للطلبة في كل المستويات والمدارس .
انهار الاقتصاد العراقي تماما ووجدت الدولة نفسها أمام تحدي تمثل بعدم استطاعتها أطعام القوات المسلحة المدافعة عن السيادة والوجود فعمت المجاعة معظم القطعات المسلحة وأصبح الجندي لا يحصل ألا بالكاد على ما يبقيه حيا من فتات الطعام بينما احتفظت الدولة بقطعات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة التي تشكلت فيما بعد والحرس الخاص لحماية بغداد فقط بإطعام قياسي .
انهارت الجمهورية العراقية برمتها بعد دخول قوات العم سام لإنهاء حكم صدام حسين في 2003 لكن المكشوف المخبأ تمثل بإزالة وإنهاء الجمهورية العراقية من الوجود وتدمير المنجزات الحقيقة للشعب من تأميم النفط والخدمات المجانية والتعيين المركزي والنمط الاشتراكي للسوق والحفاظ على العملة من الهرب والضياع وتحصين السوق ضد العملة الأجنبية بقوانين البنك المركزي وتهديم كل ما شيدته الجمهورية العراقية المجيدة منذ تأسيسها على يد الزعيم عبد الكريم قاسم .
وهكذا تفكك كل البناء العراقي وعاد فرز المكونات بصورة جديدة على الطائفة والمذهب والعرق وتدمير الاقتصاد برمته وبيع النفط للشركات الاحتكارية وسرقة ما أمكن سرقته من النقد إلى الخارج وإفقار الشعب وتجويعه والسماح لقوى الموت من المليشيات السوداء بالتسيد على الشارع لقتل كل نفس يحلم بالحياة من جديد .
،،،،،،،،،،،،،،،،،،
جاسم محمد كاظم