الفساد ليس حداد وكونيناف فقط.. انما منطق يسير به النظام الجزائري


مولود مدي
2019 / 4 / 27 - 02:44     

يطبق النظام الجزائري حاليا أحد أبرز الاستراتيجيات التي برز فيها، وهي استراتيجية "الإلهاء" ، وهي عنصر أساسي في التحكم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انشغالات الرأي العام، عن المطالب الملحة، وهذه الاستراتيجية حاليا تتم عن طريق المعلومات المغلوطة والشائعات، و وابل من الإلهاءات وأحيانا المعلومات التافهة، والهدف الأساسي من هذه الاستراتيجية هي تحوير الحراك، وجعله طرفا في صراع العصب، لأن حملة الاعتقالات الحالية تندرج في اطار صراع عصب السلطة، ولن أبيّن فقط أن العدالة التي تدّعيها السلطة هي عدالة "انتقامية" بل سأبين بأن الفساد هو منطق الدولة الجزائرية، اشتغلت به منذ نهاية السبعينات، منطق متفشي في كافة مفاصلها وحتى في المؤسسة العسكرية، عكس كل ما تريد السلطة اظهاره وهو أن الفساد عبارة عن أشخاص لتخرج علينا فيما بعد، وتقول لقد اعتقلنا الفاسدين، وانتهى الفساد والسلام عليكم!.

الاعتقالات التي تطال العديد من "رجال الشكارة" هي اعتقالات لرجال عقدوا صفقات مع نظام بوتفليقة، منهم حداد وكونيناف، عدا ربراب، ان نخبة الأعمال هذه داعِمة بشدّة للرئيس بوتفليقة. ففي عهده، ازدهرت هذه الطبقة التي عملت على تثبيت وجودها، مستفيدة من انتهاء العشرية السوداء، وإعادة تدوير الإيرادات النفطية في الاقتصاد غير الهيدروكربوني، من خلال العقود الحكومية وأشكال متعددة من الحمائية. فعلى ضوء الحماية من المنافسة المحلية والدولية، نجح رجال أعمال على غرار علي حداد، وكريم كونيناف من شركة KouGC للإنشاءات، ومحي الدين طحكوت من شركة طحكوت لتصنيع السيارات وسواهم، وبنوا مجمّعات تسيطر على الاقتصاد الجزائري.

يندرج هذا الترتيب في إطار المحاولة التي بذلها الفريق الرئاسي في عهد عبد العزيز بوتفليقة لفرض الإدارة المركزية لتوزيع عائدات المحروقات، والتخلص تدريجاً من شبكات المحسوبيات المتنافِسة الأخرى داخل النظام. محاولة تندرج في اطار محاولة بناء أوليغارشيا مالية في الجزائر، بإمكانها أن تأخذ السلطة كاملة، وتستولي على كل دواليب الدولة، وستكون مرتبطة بمراكز القوى الرأسمالية كأمريكا وفرنسا، ولاتكون لها أي علاقة بالبناء الوطني للإقتصاد، لقد سعى بوتفليقة، منذ انتخابه في العام 1999، إلى فرض سلطته داخل البلاد عبر العمل على تعزيز شبكته الزبائنية (La clientèle) على حساب جنرالات الجيش، والاستخبارات العسكرية. وفي حين نجحت جهوده نسبياً في الحد من تأثير هذه المجموعات، ظلّ الكيان السياسي الجزائري منقسماً إلى سلسلة من شبكات النفوذ التي منعت الفريق الرئاسي من فرض احتكاره للمجتمع وقطاع الأعمال.
الفساد هو أبرز صفة تميز بها النظام الجزائري، منذ الاستقلال، ، فيجب هنا توضيح نقطة مهمة لا تزال عالقة في اذهان الجزائريين وهي "أن الفساد ظهر في اواخر الثمانينات فقط عندما كان الشاذلي بن جديد رئيسا للدولة"، وكأن الدولة قبل هذه الفترة لم تعرف الفساد قط وكانت تعيش عصرا ذهبيا، وهذا امر خاطئ تماما، فيذكر البروفيسور رابح لونيسي، أن الفساد كان موجودا منذ الإستقلال وحتى في عهد الرئيس بومدين، إلا أنه كان محدودا، ويتم في مستويات عليا، حتى بومدين ذاته فتح بنك التنمية المحلية في 1967 خصيصا لشراء ذمم بعض المجاهدين، خاصة الكبار منهم بقرضهم أموالا للقيام بالتجارة مقابل السكوت وعدم الإهتمام بالسياسة، أي عدم معارضته، فقبل البعض منهم ذلك، لكن الذين رفضوا تعرضوا للقمع، بل الإغتيال مثل كريم بلقاسم في 1970.

ماهو الفساد؟ وماهي تمظهراته؟ تتركز غالبية تعريفات الفساد على الإستيلاء على الموارد العامة من أجل مكسب خاص، هناك ظاهرتان تتصلان اتصالا وثيقا بالفساد كما عرّفناه آنفا، الظاهرة الاولى، ايجاد الريوع واستخراجها، والثانية ما يشار اليها بأنه المحسوبية (المعريفة عند الجزائريين) و الزبائنية.
في علم الإقتصاد، الريع هو اعتماد الدولة على مصدر واحد للدخل، وهذا المصدر غالبا ما يكون مصدرا طبيعيا ليس بحاجة إلى آليات إنتاج معقدة سواء كانت فكرية أو مادية، بحيث تستحوذ السلطة الحاكمة على هذا المصدر وتحتكر مشروعية امتلاكه وتوزيعه وبيعه، لكن لا يجب الحكم على الريع من هذه الزاوية، بل يجب النظر الى الغرض من هذا الريع، هل ينتج سلعة أو منفعة يستولي عليها المسؤول الحكومي، أم يخدم في الواقع هدفا عاما أوسع نطاقا؟.

إنتشار الريع وتوزيعه هو مؤشر للفساد في الجزائر في واقع الأمر، لأنه لا ينتج أي منفعة للشعب، وكل ما يتم الترويج له عن بناء السكنات وتوزيعها مجانيا هو شراء للسلم الاجتماعي، وهي رشوة غير مباشرة للشعب، وهذا ما يشجع الكثير من الاشخاص الطامحين، على اختيار السياسة بدلا من الأعمال التجارية سبيلا للثروة، وليس هناك أكبر مثال، من مهزلة البرلمان الجزائري.. لقد أصبح الوصول إلى سدة البرلمان معناه اكتساب امتيازات منها الحصانة البرلمانية والاجور العالية، بدل تمثيل الشعب وطرح مشاكله ومحاولة ايجاد حلولا لها، ففي الدول المتقدمة يقوم البرلماني بربط مصالحه بمصالح الشريحة الاجتماعية التي يمثلها مما يجعله أكثر استماتة في الدفاع عن مصالحها لأنه دفاع عن مصالحه الخاصة في نفس الوقت، لكن في الجزائر ما يحدث هو استخدام اليات ديمقراطية لخلق طبقة بورجوازية موالية للسلطة.

الظاهرة الثانية التي ارتبطت بالفساد هي المحسوبية أو الزبائنية. تقوم العلاقة الزبائنية على تبادل الحظوة والخدمات بين فردين على مستويين مختلفين من المكانة والنفوذ، وتشمل في العادة تسهيلات يقدمها الراعي الى العميل مقابل دعمه السياسي، يجب أن يكون الدعم المقدم الى العميل سلعة أو منفعة يمكن الاستيلاء عليها فرديا، مثل وظيفة في احد الادارات أوالمؤسسات، او تبرأة أحد الأقارب من شكوى قضائية ضدّه الخ.. ولهذا السبب قام عبد العزيز بوتفليقة بتحجيم دور "مجلس المحاسبة" الذي كان يطبّق مبدأ "من أين لك هذا" عند مجيئه الى الحكم في 1999، وقام بتقزيم دوره وسمح مقابل ذلك بتغول الادارة لكي يجعل دوره ثانويا، والطريف أن هذا المجلس أمر في 9 اوت 1983 بمتابعة بوتفليقة بتهمة اختلاس أموال عمومية قدرت بحوالي 6 مليار سنتيم، وحولها الى حسابه الخاص في سويسرا.

مشكلة الزبائنية والمحسوبية هي أنها أكثر خطورة من الريع، فهي لا توجد فقط في البلدان المتخلّفة، بل حتى في البلدان الاكثر تقدّما وديمقراطية، لأن هذه المشكلة نابعة من طبيعة مترسخة في البشر، البشر كائنات اجتماعية بالطبيعة، هنالك مبدآن في البيولوجيا اساسيان تتقاسمهم فعليا كل المجتمعات البشرية لا احد يستطيع الهروب منهما؛ اصطفاء الاقرباء، والايثار المتبادل، الاول يفضّل الأفراد أقربائهم في الدم، أما الثاني فيشمل تبادل الخدمات والمنافع على أساس مباشر بين أفراد لا تجمعهم صلات القربى.

ان اختيار شخص ما لأداء مهمة معيّنة بناء على كفاءته لا على علاقتنا الشخصية به، هو أمر معاكس لميولنا الطبيعية، وهذا المبدأ ما كان ليتفوق الا بتطور مؤسسات سياسية مثل الدولة الحديثة، اذن عندما تغيب الدولة تنهار معها مفاهيم الشفافية والكفاءة واللاشخصية، فنعود الى الأشكال البدائية القديمة كالمحسوبية ومحاباة الأقارب بوصفهما شكلا من أشكال التواصل الاجتماعي، اذ ان هذه الأشكال البدائية تليق بالقبيلة وليس بالدول المدنية الحديثة، هذا ما دفع بالفيلسوف الشهير "هايك" للقول بأن؛ "الإنسان متمدن ضد ارادته".
على أي حال، ماسبق هو مجرد توضيح لما يعني مفهوم الفساد وكيف أنه منطق نظام، وعلى أي حال لسنا ضد محاسبة الفاسدين، بما فيهم اسعد ربراب إن ثبتت التهم الموجهة إليه، إنما المنطق والعقل يقولان أن الذي يجب عليه تطبيق العدالة والمحاسبة لابد وأن يكون نظيفا لتوفير جو من الثقة والمصداقية، كما قال الجنرال (الهامل) "اللي بغا يحارب الفساد لازم يكون نظيف، صدق الهامل وهو كذوب !، من المفروض اعتقال (سعيد بوتفليقة، محمد مدين، بهاء الدين طليبة، الطيب لوح..) والتحفظ على أموالهم وعدم محاكمتهم الى غاية بناء قضاء نزيه.

لكن على ما يبدو أنها فخ مدروس ، وبالتالي يجب على حراكنا التفطن لهذه اللعبة الخطيرة، يجب أن يحافظ على وعيه بالرهانات الحقيقية لأن القرارات الاستعراضية التي يسوقها إعلام مرتبط بنظام الفساد قد تتحول إلى طعنة قاتلة في قلب المشروع الذي حمله ملايين الجزائريين ، مشروع دولة قانون، تكون نتيجته الطبيعية تفكيك كلي لنظام الفساد وبناء قضاء مستقل عن السلطة التنفيذية و لا يسير بالهاتف وغير هذا فهو باطل وزائف ومحاولة للإلتفاف على الحراك، والنجاة من دولة القانون وقضاء نزيه سيسحق الفاسدين مهما كانت مراتبهم ومسؤولياتهم، مثلما حاولوا مؤخرا الالتفاف على الحراك بنكتة انتخابات 4 جويلية الرئاسية، والتي قالوا عنها انها ستكون نزيهة ونظيفة، بنفس أليات نظام بوتفليقة وبنفس الدستور الذي منحه صلاحيات جعلته الها على الدولة و الجزائريين وليس موظفا يؤدي واجبه نحوهم.