الأنظمة الدكتاتورية العربية بين ربيعين


رضي السماك
2019 / 4 / 22 - 15:11     

عشية العقد الجاري هبت رياح الانتفاضات والثورات العربية التي عُرفت ب " الربيع العربي " ، بدءاً من تونس في أواسط ديسمبر / كانون الأول 2010 ، ثلتمتد إلى مصر في 25 يناير / كانون الثاني 2011 ولتتمكن كلتاهما من اقتلاع عرشين من رؤساء الجمهوريات العربية الطغاة ( زين العابدين بن علي وحسني مبارك ) خلال فترة وجيزة تقل عن الشهرين ، ولتمتد هذه الحراكات بعدئذ والتي اتخذها بعضها الطابع الاحتجاجي السلمي العادي وبعضها الآخر طابع االانتفاضات والثورات السلمية إلى خمس دول عربية اخرى ( سورية وليبيا المغرب واليمن والبحرين ) ، وباسثناء تونس التي أزهر ربيعها باقتلاع نظام زين العابدين ، وإن مابرحت تخوض مخاضاً عسيراً لإستكمال هذا الازدهار من خلال تصفية ماتبقى من جهاز الدولة القديم من ورواسب بيروقراطية وفسادية ، فإن مآلات ربيع البلدان الاخرى سرعان ما انتهت بالفشل جراء تمكن قوى الثورة المضادة الممثلة في الأنظمة الاستبدادية وتدخلات الأنظمة الرجعية والاقليمية السافرة بالتحالف مع الإمبريالية الأميركية وحلفائها الغربيين والتي كانت كانت جميعها تتوجس من تلك الانتفاضات والثورات بقلق بالغ خشية انتقال عدواها إلى بلدانها وهو ما مكّن تلك الأنظمة من إجهاضها . وبالإضافة إلى الأساليب القمعية العنيفة الوحشية التي ساعدتها على إخماد الحراكات الاجتماعية السياسية ؛ فإن بعضها الآخر برع أيضاً بمكر ودهاء تتمثل في خلط الأوراق السياسية خلطاً معقداً عبر تفجير التناقضات الثانوية -كالطائفية والقبلية - والتي تحوّل بعضها إلى حروب ضروس مدمرة دامية طويلة الأمد مما فتح الأبواب على مصاريعها للجماعات المسلحة والتدخلات العسكرية الفجة البالغة الخطورة للقوى الاقليمية العربية والدولية ، كما جرى ويجري في سورية وليبيا واليمن ، ولتتحول أحلام شعوب هذه البلدان في ربيعها إلى كوابيس وكوارث مأساوية أشد خطورةً من أوضاعها السياسية والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية إذ زعزعت سلمها الأهلي وعرضت بعضها إلى تفتت جغرافيتها السياسية علاوةً على تفتت وحدتها الوطنية .
وإذ توهمت الأنظمة الدكتاتورية التي نجت من طوفان الربيع العربي بانتصارها النهائي على أحلام وإرادات شعوبها المتطلعة للحرية والعدالتين الاجتماعية والسياسية ، فإن موجة لربيع عربي جديد باتت تلوح في الأفق في ضوء تفجر انتفاضتين شعبيتين في قطرين عربيين : الأولى في السودان منذ ديسمبر / كانون الأول الماضي والتي أضحى تكللها بالأنتصار بين قوسين أو أدنى في ضوء تمكنها من إسقاط الدكتاتور الطاغية الجنرال عمر البشير وما قدمته السلطة العسكرية التي حلت محله من تنازلات مهمة متوالية ؛ نقول ذلك بقليل من الحذر ، أي مالم تقع تطورات دراماتيكية غير متوقعة تجهض الانتفاضة ، والثانية في الجزائر التي اندلعت شرارتها في فبراير / شباط الماضي ، لكن ورغم تمكنها من إرغام النظام على تقديم تنازلات مهمة على رأسها إجباره على ازاحة الرئيس المسن المقعد المريض عبد العزيز بوتفليقة وهو الواجهة الشكلية التي تمسكت بها - بعد عجزه الصحي عن الحكم - عصابة القمع والفساد المتوارية خلفه في قمة جهاز السلطة ، فإن هذه التنازلات ما زالت غير كافية بما ينبئ بتكلل الانتفاضة الشبابية الجزائرية الراهنة النهائي بإنتصارها النهائي وتحقيق كامل مطالبها .
وبطبيعة الحال ليس خافياً على أحد بأن القلق عاد من جديد ليستبد بمعظم الانظمة العربية ، وفي مقدتها التي تمكنت من إجهاض انتفاضات وثورات ربيع مطلع العقد الجاري ، ومازالت تتحين فرص تدخلها والقوى الدولية المتحالفة معها في هذين القطرين لكن فرص هذا التدخل ليس متاحاً لها بما فيه الكفاية وبما تشتهيه ، لاسيما مع بات واضحاً بأن قوى التغيير والمجاميع الشبابية المنتفضة في القطرين قد أستفادت من دروس وعِبر الانتكاسات التي مرت بها الانتفاضات العربية في الموجة الأولى السابقة من الربيع العربي وكذلك من والاسباب التي مكنت قوى الثورة المضادة من إجهاضها .
وإذا ما قرأنا وتمعنا في مغزى ودلالات هذين الحدثين الجزائري والسوداني بالترابط بفضائح الفساد للحكومات العراقية المتعاقبة في العراق منذ إسقاط نظام الدكتاتور البعثي صدّام حسين وهي حكومات يغلب عليها نفوذ الإسلام السياسي الشيعي ، وبالتوازي أيضاً مع تفاقم فضائح الفساد والأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تثقل الشعب الإيراني تحت حكم النظام الإسلاموي في إيران ؛ وبالتوازي مع نموذج آخر للإسلام السياسي الثيوقراطي السني في نفس المنطقة فإن ذلك يبشّر بنتيجتين مترابطتين ومتداخلتين :
الاولى : ما يلوح في الأفق -ولو بعد حين غير بعيد - بقرب انتهاء حكم العسكر في الجمهوريات العربية الاستبدادية المتبقية إلى الأبد وانعدام ثقة الجماهير العربية في أي مصداقية لهم في التعبير عن الثورات والأماني الشعبية نحو التحول إلى أنظمة ديمقراطية حقيقية قائمة على الفصل بين السلطات الثلاث والانتخابات الحرة الشفافة للبرلمان ( السلطة التشريعية ) ، و استقلالية السلطة القضائية ومبدأ تداول السلطة المنتخبة وفق دساتير عقدية حقيقية معبرة عن إرادة الشعب وحق التعددية الحزبية وسائر الحريات العامة .
الثانية : إن ثقة الجماهير في قدرة قوى الإسلام السياسي على إدارة الدولة الحديثة وحكمها آخذة في التبخر المتسارع بسبب فشل نماذجه القائمة في الحكم ، ولعل الاحتجاجات والهبات المتقطعة في ايران والعراق خير برهان على ذلك ، فحينما يكون الجوع كافراً لن ينفع النظام أو السلطة المنتخبة تخندقها بالشعارات الإسلامية الباهتة ولا دغدغتها لمشاعر الجماهير الدينية والإيمانية أو تدثرها بالشعارات الليبرالية والديمقراطية باعتبارها شعارات لا تنسجم مع ايديولوجياتها واُمتحنت جيداً في مدى مصداقية الإيمان بها قولاً وفعلاً .
لقد استغلت قوى الثورة المضادة لثورات وانتفاضات الربيع العربي مطلع العقد الجاري والتي أجهضت أحلامه الشبابية على أيدي الأنظمة الجمهورية أو على أيدي الأنظمة الرجعية المحافظة على حد سواء لزرع اليأس في نفوس الشباب العربي بانتفاء أي آمال له للتغيير وعدم جدوى أي محاولات حراكي. جماهيرية ثورية جديدة تسوّل له نفسه للقيام بها للتغيير ؛ ورافعةً إيماءً أو تصريحاً المقولة العربية العتيدة " ليس في الإمكان أفضل مما كان " وبأن أوضاع الشعوب السابقة كانت أفضل قبل ثوراتها بغية بث القنوط في نفوسها ؛ لكن ما كان لهذه الأنظمة أن تجهض تلك الانتفاضات والثورات لولا تشديدها القبضات الحديدية المتغولة في الوحشية والدموية على نحو غير مسبوق منذ فجر التاريخ العربي الحديث ، وبات واضحاً بأنها قرأت في ازدهار الربيع التونسي باقتلاع نظام زين العابدين بن علي وفي سقوط أيضاً بعض رؤساء الجمهوريات العربية حتى في ظل بقاء أنظمتها دون تغيير بأن كل ذلك ما كان ليحدث لو أنهم تعاملوا مع انتفاضات شعوبهم بمستويات رهيبة أشد من القمع الوحشي الدموي الذي يعتبرونه هو الذي أنقذ أنظمتهم من السقوط وتراخت الانظمة التي سقطت أو سقط رؤساؤها ممارسته بالشدة التي مارسوها ضد شعوبههم .
وحتى مع ما يلوح في الأفق من إمكانيات لانتصار انتفاضتي السودان والجزائر واتساع موجة الربيع العربي الجديدة فليس ثمة أي مؤشرات على أن الأنظمة الدكتاتورية ستستفيد من عِبر ودروس الانتفاضتين السدانية الجزائرية باتجاه الانفتاح على شعوبها والاصغاء إلى مطالبها المشروعة للتغيير والإصلاح قبل فوات الأوان ؛ وذلك كما هي عادة وديدن كل الحكام الدكتاتوريين ، بل سترى بأن ما حدث في هذين القطرين يفرض الجاجة إلى القبضات الوحشية الدموية الفاشية بمعدلات ينبغي أن تكون أشد وأعظم وهي أوهام لن يفيقوا منها إلا بعد فوات الأوان عندما يأزف رحيلهم النهائي وللأسف ولو تكلللا بالنجاح التام لن يتعظوا كما هو ديدن الحكام الدكتاتوريين في كل العالم .