جاك لاكان بين الماركسية و التحليل النفسي


مارك مجدي
2019 / 4 / 16 - 05:30     

جاك لاكان
بين الماركسية والتحليل النفسي
ماركس في أعمال جاك لاكان
بقلم : مارك مجدي

لكارل ماركس موقع محدد في نظرية جاك لاكان في التحليل النفسي , موقع الحقيقة التي تقف في مواجهة الرأسمالية أو موقع المقاومة في مواجهة التأقلم . و من بين زملائه ممن اهتموا بالتحليل النفسي؛ يتخذ لاكان موقفاً نقدياً لعلم النفس.


ان جاك لاكان هو بلا شك المحلل النفسي الاشهر في القرن العشرين , و اعتبر في حياته كأحد أشهر المثقفين في الثقافة الغربية , حيث كان مصدرا للشغف و الفضول لجمهور القراء و المثقفين لفترة طويلة من الزمن .
ولد في باريس عام 1901 , لأب ثري يعمل في مجالات تجارية متعددة و بين عائلة كاثوليكية ملتزمة . درس الطب في الجامعة , وقبل ذلك كان احد المهوسين بنظرية سبينوزا في الاخلاق . و عندما اكتسب شهرته بعد ان لاقت محاضرته اعجابا كبيرا , دخل في خلاف مع جمعية التحليل النفسي و تركها في عام 1953 , بسبب رؤيته الجذرية في العلاج النفسي , حيث اعتقد ان الحوار بين المريض و المحلل هو الاداة الاولي نحو المعالجة و ليس العقاقير .
خالـط الأوساط الأدبية ولاسيما السوريالية منها و تأثر تأثـراً عميقاً بالفيلسوفين الألمانيين هيغـل وهايدغـر ، ولكنه وجّه اهتمامه إلى أعمال فرويـد، فأعاد قراءتها وتفسيرها .
عام 1949 , التقي بكلود ليفي شتراوس , المفكر البنيوي الأهم في مجال الانثربولوجيا , و الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لهذه المدرسة , تأثر به تأثرا شديدا ليصبح لاحقا احد اقطاب المدرسة البنيوية في مجال التحليل النفسي . في العام الذي ترك فيه جمعية التحليل النفسي القي اهم محاضارته بعنوان " الرمزي , الخيالي و الواقعي " و كانت نقطة البداية لدعوته الفكرية الشاملة "العودة الي فرويد ".
أكد لاكان علي أهمية اللغة ودورها الرئيسي في تكوين الشخصية وبوصفها مرآة اللاشعور، ورأى أن لللاشعور بنية لغوية بالدرجة الأولى، و أن جوهر اللغة هو اللاشعورحيث اللغة تكوّن منطلق اللاشعور وماهيته ، وحاول إدخال دراسة اللغة في نظرية التحليل النفسي، فاللاشعور هو موضوع التحليل النفسي بالنسبة له , وينبغي أن يدرس كما تدرس اللغة في ضوء علم اللسانيات. ونظريته إجمالاً تآلف حيّ بين علم النفس وعلم اللغة بدأها تحت شعار العودة إلى فرويد .
و في هذا المقال , لا نتناول مجمل مشروع لاكان في التحليل النفسي و النظرية النفسية بل نكتفي بالاشارة الي علاقة لاكان بمنظومة فكرية قد يعتقد البعض انها بعيدة عن اطروحات لاكان , سواء من حيث المجال المعرفي او التوجه الفكري و السياسي .
الهدف الحقيقي لعلم النفس
حسب لاكان؛ مهمة علم النفس السائد هي إخضاع وأقلمة البشر على النظام الدلالي الرمزي للرأسمالية، بينما يخرب فكر ماركس هذا النظام بكشفه عن الحقيقة الثورية القابعة في جوهره، تلك الحقيقة التي تتضح كأحد أعراض الخضوع للرأسمالية الناتجة عن الاستغلال و الاغتراب.
وإذا كان من الممكن تحديد آلية عمل النظام الدلالي للرأسمالية من خلال التحليل النفسي بصفته نتاج عمل اللاوعي، يمكن وصف قدرة هذا النظام بأنها تلك القدرة المعبرة عن نفسها في ما يطلق عليه لاكان مسمى "الآخر" ، وهو المصطلح الذي تطور مع لاكان على مدار مشواره الفكري ليصبح: " الآخر الكبير – the big other " .
إن فكرة الآخر الكبير تتمثل في التفاعل والتواصل البشري، فهو ذلك المنظم الافتراضي للتقليد و التحاور الاجتماعي، إنه المناخ الذي يتوافر فيه الوضع الذي يخلق القواعد .
يقول سلافوي جيجيك : " عندما أصافح يد أحدهم، فأنا أقوم بفعل ليس له أي أهمية بالنسبة لي، إن مصافحة اليد هي الطريقة المتوقعة للتحية في العالم الغربي، إن مصدر مصافحة اليد بالنسبة للاكان هو الآخر الكبير ".
ان الاخر الكبير هو السلطة اللاشعورية الكبري التي تشكل اللاوعي الشخصي لكل فرد .
و حسب لاكان يعمل الآخر على ثلاثة مستويات متفاعلة ومتداخلة : مستوى الخيالي، الرمزي، والواقعي .
الخيالي، هو كرؤية الشخص لمن يحب، فهو لا يراه مجرد هيكل عظمي و لحم بالي، بل هو يغطي الآخرين بصورة تخيلية، والمستوى الرمزي هي الطريقة التي نتفاعل بها مع الآخر ، أما المستوى الفعلي الواقعي، فهو القوي المحيطة التي تخلق الظروف، إنه الوضع الذي لا يمكن توقع مستقبله او التنبؤ به، وبين هذه المستويات الثلاثة، فإن المستوى الرمزي هو المستوى الأهم في فهم ما يعنيه لاكان بالآخر الكبير .
و يشرح جيجك هذه الفكرة: عندما نتكلم فنحن لا نتفاعل مع الآخرين؛ بل إن نشاط خطابنا يؤسس على القبول والاعتماد على شبكة من القواعد و أنواع أخري من الافتراضات " ، " أو في قولٍ آخر: إن تواصلنا مع الآخرين (ومع أنفسنا) يؤسس و يتمثل في الآخر الكبير، إن الآخر الكبير يتفاعل من خلالنا بالطريقة التي نتحدث بها و نفهم الآخرين " .
ومفهوم "الآخر" هو أحد المفاهيم الرئيسية الثلاث التي أسس عليها لاكان نظريته في التحليل النفسي، الآخر هو المكان الغريب الذي ينبثق منه كل خطاب: مكان العائلة، مكان القانون، مكان الأب في النظرية الفرويدية، أو مكان التاريخ والمواقع الاجتماعية، المكان الذي ترجع إليه كل ذاتية؛ أن نقول إن اللاشعور هو خطاب الآخر، معناه إعادة التأكيد بصورة حتمية على أن الخطاب "الحر" غير موجود، وذاك هو القانون الذي يحكم كل خطاب.
والآخر أيضا موقع في بنية الذات: إذ مثلما أن الآخر ليس ذاتا، بل مكانا وموقعا، كذلك فإن الذات ليست نقطة بل هي نتاج بنية مركبة، ولاكان ينشئ هذه البنية على حدث محدد بعينه يعترض الذات الفردية في مسارها، وهو: مرحلة المرآة التي هي اكتشاف سريري قام به لاكان، والتي تقع في المراحل الأولى من الطفولة (بين ستة وثمانية عشر شهرا)، وعن طريقها يأخذ الطفل في الإحساس بذاته كذات مستقلة، ويكتسب فيها صورته عن ذاته بالتعرف عليها في المرآة، والطفل ما يزال في هذه المرحلة تابعا كليا لمن يعوله، وغير قادر على الكلام وعلى التغذية؛ إن تعرف الطفل على صورته في المرآة تجعله ينتقل من عدم الاكتفاء إلى الاستباق: استباق ما سيكون جسمه البالغ، كجسم مستقل وواقع في شبكة اللغة.
و من خلال قراءة لاكان لنظرية ماركس عن الرأسمالية، يتصور لاكان أن الشخص الخاضع للقوى الفاعلة التي تمارسها الراسمالية، تظهر عليه الأعراض التي تدل على الإحباط، والذي يوقظ بدوره وعياً طبقياً، ويحفز نضال العمال في مواجهة الرأسمالية، ومع ذلك يوجه لاكان نقدا لكل من الليبرالية وما أسماه بالشيوعية الرأسمالية، فمن المؤكد ان مثل هذا العَرَض المصاحب للرأسمالية لا يمكن سوى أن يتجسد في حالة البروليتارية في ذاتها، والتي تختلف عن حالة البروليتاريا لذاتها، تلك الأخيرة التي تحصل على وعي طبقي يؤسس لعلم نفس رأسمالي جديد، والذي يهدف كما هدف ما سبقه إلى أن يخفي الحقيقة التي كشفها ماركس .
عند لاكان، التأقلم هو الهدف الرئيسي لعلم النفس، ولذلك يرفضه.
حقيقة النظام الرأسمالي وإمكانية الإنسان الخاضع :
إن جاك لاكان ليس عالماً نفسياً؛ بل هو محلل نفسي، هو محلل نفسي راديكالي يرفض علم النفس بشدة، وهذا الرفض هو مسألة جوهرية في تأسيس نظريته.
حسب لاكان، على التحليل النفسي أن يمنع استيعابه داخل علم النفس، أو توظيفه من قبله أو احتوائه، على التحليل النفسي أن يقاوم علم النفس .
" إن علمَ النفس المعاصر مسخرٌ كلياً ليشرح سلوكيات البشر في إطار البنية الرأسمالية ... بالنسبة لعلم النفس الحديث، الرأسمالية حقيقة مغلقة، ولكن سلوكنا تجاهها هو الاحتمالية المفتوحة ... إن دور التحليل النفسي الفعلي هو مكافحة علم النفس "
لمصطلح علم النفس معنى سيء في النسق الفكري لجاك لاكان، فعلم النفس بالنسبة للاكان هو: سوء التفسير , سوء العرض , الوهم , الخداع , التلاعب الخ، كلها ألفاظ استخدمها لاكان لإدانة علم النفس السائد، ومن بين هذه الإدانات واحدة يبدو أنها ترتبط تماما بوضع ماركس في فكر لاكان، وهي إدانة خضوع علم النفس للرأسمالية، وعلاقة الخضوع هذه تتأكد عام 1965 , في الندوة ال12 للاكان، حيث يؤكد أن " مجمل علم النفس الحديث صنع لكي يفسر كيف يتصرف الإنسان في البنية الرأسمالية ".
حسب لاكان, البنية الرأسمالية هي الحقيقة الواقعية المفترضة من قبل علم النفس، عندما يتناول السلوك وعلاقته بالواقع الرأسمالي القائم، هذا الواقع الذي يعتبره علم النفس السائد حقيقة قائمة بذاتها، غير خاضعة للمساءلة، ولا يمكن ان يتخيل واقعاً آخر بخلاف الرأسمالية.
حسب علم النفس, الرأسمالية هي حقيقة مغلقة، فسلوك البشر لا إمكانية له في الحدوث إلا في ظل الواقع الرأسمالي، و لذلك فإن سلوكنا يكتسب حقيقته من الواقع الرأسمالي نفسه، والبنية الرأسمالية تمثل السياق الوحيد الممكن لسلوكنا، وهو يقاس وفقا لمعيار واقعنا الرأسمالي، ولذلك فإن التكيف من خلال سلوك مرن يتوافق مع الوضع الرأسمالي هو الهدف المركزي لممارسة علم النفس.
عند لاكان؛ علم النفس يرى أن المجتمع الرأسمالي هو المكان الوحيد الذي يمكن فيه للإنسان أن يوجد، ولذلك فإن الظروف الممكنة للشخص الخاضع هي ظروف محددة ومشروطة بالمجتمع الرأسمالي.
" إن علم النفس وجد لكي يعطينا الظروف والأوضاع الممكنة بالنسبة للشخص الخاضع لمجتمع يحكمه مراكمة رأس المال " (Lacan, 1964-1965, 16.06.65)
في علم النفس, الرأسمالية هي حيث يوجد الموضوع، وهو لا يمكن أن يوجد إلا في الراسمالية، وكيف يمكن للشخص أن يكون في الرأسمالية؟ هذا هو السؤال الذي صمم لأجله علم النفس، ومن خلال الإجابة على هذا السؤال فإن علم النفس لا يحدد فقط الظروف التي يوجد فيها الشخص، إن علم النفس يحددها بصفتها الحقيقة، بل ان علم النفس يقدم للرأسمالية موضوعاً تحت تصرفها، هذا الشخص المقدم للرأسمالية هو ما نحصل عليه من قبل علم النفس.
علم النفس ايدولوجيا تأقلم الإنسان
بينما يبرز ماركس و إنجلز الجانب السيكولوجي في الدين؛ يبرز لاكان الجانب الديني في علم النفس، حيث هناك نوع من الأيديولوجيا الروحية الخاشعة، والتي من خلالها يعطي النظام المادي الرأسمالي الشخص المخضع المناسب، والحديث هنا لا يخص الإنسان بشكل عام، بل هو الخاضع للرأسمالية، المناسب لها والمتأقلم معها، إنه الرجل المتدين و المغترب الضائع لذاته، إنه الرجل الخاص الذي يخفض من مرتبة الآخرين إلى المتوسط و يخفض نفسه كذلك، ليصبح اللعبة في يد القوى المجهولة، هذا الكائن المتأقلم هو الإنسان بالنسبة لعلم النفس .
يوضح لاكان في محاضرته الثالثة: " البشر كائنات متأقلمة طالما عاشوا، ولذلك كل شيء يجب أن يتأقلم " ، و لذلك كل شيء يجب أن يتأقلم مع الراسمالية، إن خضوع البشر للرأسمالية وتأقلمهم معها هو الشرط الرئيسي لوجود الامكانية .
ليؤمن الإنسان وجوده، عليه أن يكون متأقلماً ومفيداً للمنظومة، أي عليه أن يكون قابلاً للاستغلال exploitable ، وعندما يقوم علم النفس بتسهيل مهمة التأقلم، فهو بذلك يؤسس لعملية الاستغلال الرأسمالي الشاملة، إن الاستغلال الاقتصادي يسانده التأقلم النفسي عند لاكان .
بوضوح اذن يتهم لاكان علم النفس بكونه ذلك " المستخدم الحقير في سبيل الاستغلال الاجتماعي" ، السيكولوجيا إذن تأخذ على عاتقها المهمة الاجتماعية عندما تعمل بكفاءة ك "جهاز إيديولوجي" ، وهو ما يحافظ على "إعادة إنتاج العلاقة بين المستغلين والخاضعين للاستغلال، ليس فقط على المستوى الاقتصادي، ولكن كذلك في المجال الأيديولوجي والقانوني".
ان النظام الاستغلالي يستخدم جهازه السيكولوجي، بل وللرأسمالية جهاز إيديولوجي-سيكولوجي، يستخدم رأس المال نفسه ليهيمن، فالرأسمالية تمارس عملية خداع نفسي كبيرة، لتصور نفسها كنظام لا يمكن استبداله.
و لكن هذا الاستخدام الراسمالي لعلم النفس حسب لاكان، يغرقه و يحمله فوق ما يحتمل ويخترق حدوده، إلى ما هو أبعد من حدود الوعي، العمليات العقلية الداخلية، المحفزات والدوافع، الاستفاقة الخ ...
إن النظام الرأسمالي يتطلب ان ينسجم مع نظام ما بعد سيكولوجي meta-psychological system . وهذا النظام الميتاسيكولوجي يتطلب خضوع علم النفس له، فهذا النظام هو ما يحكم العلاقة بين علم النفس و الرأسمالية .
و يمكن شرح هذه الفكرة بالمصطلحات الماركسية، حيث سنقول أن هذا النظام الميتاسيكولوجي يقع بين البناء التحتي والبناء الفوقي، فالقاعدة الاقتصادية للنمط الرأسمالي تستخدم البنية الأيديولوجية الفوقية التي يعتبر علم النفس أحد مكوناتها، لاستغلال الطبقات العاملة، إن علم النفس هو أحد مكونات البناء الفوقي الرأسمالي، وأحد أدوات إعادة إنتاج النمط الرأسمالي، وهو يمكن الرأسمال من الاستغلال من خلال إخضاع علم النفس وفقا له.
وإذا استخدمنا الاصطلاح اللاكاني يمكننا القول أن الاستغلال الفعلي من قبل النظام الرمزي للراسمالية، يمكن الوصول إليه من خلال التأقلم الافتراضي لنفس النظام الرمزي، وهذا النظام يستخدم علم النفس .
حسب لاكان، التأقلم الافتراضي مع النظام الرمزي للنظام الرأسمالي يمثل النجاح المريب لعلم النفس، وعلى صعيد آخر ، هناك محاولة لتدمير هذا النظام الرمزي المعرفي، تتمثل في العمل الحصري لكارل ماركس .
و لذلك وفقا لنظرية لاكان في التحليل النفسي، فإن العلاقة بين ماركس و علم النفس، ترقى إلى التناقض بين محاولته لتدمير النظام الرمزي والتأقلم مع النظام، إنها التناقض بين المواجهة والاستسلام، المقاومة و الخضوع.
فلاكان يعتبر أن مشروع ماركس الفكري هو المشروع المناوئ و المقابل لعلم النفس الذي وضحنا مهمته فيما سبق.
إن الحقيقة التي كشفها ماركس عند اكتشافه لاليات عمل النظام الرأسمالي و الكيفية التي يعيد إنتاج نفسه بها، من خلال فهمه للاغتراب وعملية الوصول إلى الوضع البروليتاري proletarianization ، أي تحويل العامل الي شخص خاضع "للغة الاغترابية للقيم المادية" ، والعلاقة المتبادلة بين الأشياء، والتي أصبحت اللغة الوحيدة المفهومة بين البشر في المجتمع الرأسمالي .
إن ماركس و لاكان يتفقان حول نقطة مهمة، وهي أن العمل المنتج من البشر الخاضعين هو غريب عنهم و لا ينبع منهم، إنهم مجرد قوة عاملة تشترى و تباع و تستخدم من قبل النظام.
إن النظام الرأسمالي يملك وينظم العمل الناتج عن الخاضعين، والخاضعين مجرد منفذين، "إنهم محالون إلى وسائل الإنتاج "،" انه نظام مجسد يظهر كعامل موضوعي خارج عن العمال الخاضعين و يوظفهم كما لو كانوا أشياء"، فيصبح العمال "ملحقات حية بالآلة" ” (1858, II, p. 288) ، "وتتحول الآلة وحشاً مصوراً يوحد الأعمال الفردية" II, p. 383).
يتضح لنا الآن كيف ينظر كل من ماركس و لاكان إلى الرأسمالية، فالأول يراها كنمط اجتماعي محقق له قوانين، والآخر يراها كذلك بالإضافة إلى كونها نظاماً رمزياً لغوياً معقداً، ناتجاً عن علاقة الخضوع لسلطة رأس المال .
إن مهمة اللاوعي تصنع عندما يعبر الشخص الخاضع عن خطاب "الآخر" ، هذا الخطاب هو ليس إلا الوجود التاريخي للنظام الرمزي، وبذلك يمكن تعريفه بصفته "لغة" ، توجد من خلال كل خطاب معبر عنه من قبل الخاضعين : حديثهم , سلوكهم , تفاعلات فيما بينهم , و حتي ابتكاراتهم , المؤسسات و المباني و كافة أشكال تعبيرهم عن وجودهم .
و هذا الخطاب الذي شرعنا في تبيان أثره يوصف بأنه : معرفة معرب عنها، تخفي بداخلها الحقيقة، وهذه الحقيقة لا يمكن الإفصاح عنها، إلا من خلال فعل مقاومة لهذا النظام الفعلي الرمزي، فهذه المعرفة موكل لها مهمة أن تستوعب كل شيء .
المعرفة المقدمة لنا من الرأسمالية من المفترض أن تتضمن كل شيء، و لكنها لا تتمكن من أن تمسك حقيقة و جوهر منطوقها، حقيقة العمل المسلوب الذي يحافظ على النظام الرأسمالي، الحقيقة التي لا يمكن استيعابها في الفلسفة المثالية , الاشتراكية الطوباوية , أو الاقتصاد السياسي الكلاسيكي, كذلك لا يمكن أن يتم استيعابها داخل علم النفس المهيمن خلال القرن العشرين.
إن نظام الرأسمالية المعرفي لا يمكنه ان يخضع الحقيقة بداخله، الحقيقة التي تمكن ماركس من كشفها، والتي لا يستطيع أن يكشفها سوي من يقاومها.
إن التعارض بين ماركس و علم النفس، يتضح أنه هو التعارض بين الحقيقة العرَضية المقاومة، والمعرفة المهيمنة التي لا تقاوم، الخادمة للنظام. (Lacan, 1970)
إنها تتناسب مع قوة العمل المبينة وشروط العمل المعطاة للنظام الرأسمالي : إنه التعارض بين العمل و العمل المجسد، خلق القيمة والقيم التبادلية، قوة العمل الحية والقيمة المستقلة القائمة في ذاتها، شخصية العامل الحقيقية وشخصية الرأسمالي، التجسيد السيكولوجي لراس المال في مواجهة الإرادة و المصالح .
و انطلاقاً من وجهة النظر هذه، يمكن تضمين علم النفس بصفته أحد وسائل الإنتاج، بما أنه ينتج شيئا، فهو ينتج الشعور بالسعادة، الراحة والتأقلم، أي يقدم عمالاً متأقلمين وسعداء، أو بمعنى أصح عمال طيبين، ولكن هؤلاء العمال الجيدين والطيبين هم مواضيع خاضعة، أثبت ماركس أن مصالحهم الفعلية متناقضة مع المنظومة، التي أعطتهم هذه المشاعر الطيبة بهدف تسهيل استغلالهم .
" الحقيقة الهدامة التي كشفها ماركس حول الرأسمالية لا مكان لها في المعرفة السيكولوجية، و هذه المعرفة محكمة في مواجهة الحقيقة، فالسيكولوجيا تنفر من الحقيقة، و لذلك فهي تنفر من ماركس ". Lacan, 1964-1965
البشر المستغلون و معرفتهم السيكولوجية المتأقلمة
الإنسان يتأقلم مع النظام عندما يطيع شكل العلاقات الذي يقرره هذا النظام.
هذه الطاعة المتأقلمة تتضمن الإصرار , الحافز , و تنفيذ أي نشاط , و استغلال هذا النشاط , وليس فقط التأقلم مع نشاط قائم يمارس بالفعل و مفروض من قبل النظام .
إن الفرد في المجتمع يجد العلاقات الخارجة عنه ويتأقلم معها، بل إن هذه الشروط الاجتماعية تحمل في داخلها المحفزات والأهداف للنشاط المطلوب، لكي يتفاعل مع هذه العلاقات الشرطية، هذه العلاقات التي يخلقها النظام .
إن الأشخاص الخاضعين يجب أن يكونوا متأقلمين بعمق مع نظام العلاقات في المجتمع ويقصد هنا التأقلم النفسي، أي التأقلم على مستوى مشاعرهم وأمانيهم مع النظام الرمزي المستغل، وهو الطريق الوحيد للتأقلم المفروض في سبيل التعايش مع المجتمع.
و لكي يكون المرء متأقلماً وجاهزاً لكي يستغل من قبل النظام، عليه أن يكون غارقاً من كل قلبه في الحقيقة المفروضة عليه من النظام .
علي المرء أن يكون خاضعاً علي مستوي المشاعر للنظام، ولهذا يحتاج النظام إلى علم النفس، فهو من يضع الشخص الخاضع في الوضع الملائم علي المستوي النفسي، لكي يتكامل مع القواعد التي يستقي منها النظام قوته .
وعلي النقيض من ذلك، من خلال كشف الحقيقة الثورية والمحبطة لهذا النظام، يضع ماركس الحقيقة الإنسانية في مواجهة حقيقة النظام اللاإنساني، في وضعية مقاومة ومواجهة، تتناقض مع الخضوع و الاستسلام السيكولوجي، إن ماركس بهذا الفعل يهدد النظام كما يعتقد لاكان .
فعندما يقول ماركس إن الرأسمالية تغلب المادة على الإنسان، وتسلع العلاقات الإنسانية، فهو يكشف الجانب اللاإنساني للمنظومة، ويعرض حقيقته في مواجهة الحقيقة التي يحاول النظام أن يجعلها الواقع الوحيد، ولذلك فهو يضعف المنطق الذي تستند عليه إمكانية هذا النظام و هي المهمة الأولى لعلم النفس.
البروليتاريا في ذاتها و البروليتاريا لذاتها
إن الكشف الماركسي للحقيقة يؤدي إلى ظهور الإرهاصة التي سوف تخل بالنظام الرمزي للرأسمالية، هذه الإرهاصة تتجسد في الظرف البروليتاري، حيث يتحول البشر إلى قوة عمل مأجورة و خاضعة.
وبالتعبير عن الخطاب المنتج من قبل النظام الرمزي الدلالي للغة، يتكشف لنا أن كل شخص خاضع لهذا النظام هو مستغَل , مغترِب و خاضع للظرف البروليتاري في النظام، هذه هي الحقيقة المحبطة والثورية داخل النظام، إنها حقيقة تكشف عن نفسها كإرهاصة حقيقية للنظام الرمزي، إرهاصة تتجسد في الظرف البروليتاري في ذاته، هذا الظرف البروليتاري هو شرط رئيسي في المجتمع الرأسمالي، وهو كذلك شرطٌ كونيٌ يتعلق بكل خاضع للاوعي، فكل خاضع للظرف البروليتاري، حسب لاكان، هو قوة فاعلة لهذا اللاوعي، وهو كذلك بروليتاري في ذاته.
حسب لاكان، البروليتاري في ذاته كشخص خاضع للاوعي، لا علاقة له بالبروليتاري لذاته، كموضوع للوعي، إن البروليتاري لذاته هو شخص خدع من الطبقة.
فلاكان يعتقد أن الدعاية التي تمارسها الأحزاب الشيوعية بخصوص الوعي الطبقي و سلطة الطبقة الجديدة، هي سيكولوجيا معرفية جديدة، تتطابق مع القديمة التقليدية التي تنتج من قبل الراسمالية، فهو يعتقد أن الحل يبقى دائما في التمسك بالحقيقة التي كشفها ماركس، دون محاولة خلق سيكولوجيا و نسق رمزي جديد.
ولاكان هنا لا يشير إلى الأحزاب الثورية ومحاولاتها الفكرية لتأسيس نسق نظري مناوئ للوضع الرأسمالي، بل هو يتحدث عن الأنظمة الشيوعية الحاكمة التي تؤسس لعلم نفس من خلال اجهزة الدولة فيها يهدف للتصالح مع الحقيقة القائمة، حتى لو اكتست هذه الحقيقة بمصطلحات ماركسية، فلاكان كان أحد المفكرين الذين اعتبروا أن الأنظمة الشيوعية القائمة رأسمالية في جوهرها، وبناء على ذلك فأي محاولة سيكولوجية من قبلها، هي محاولة تهدف لإخضاع الأشخاص إلي الواقع القائم فيها.
الخلاصة: هي أن لاكان يعتبر عمل ماركس، هو السلاح الأول في مواجهة علم النفس البرجوازي، بل هو الطريق الرئيسي لحل الإشكالية التي يعتقد لاكان أنها الإشكالية الرئيسية بين التحليل النفسي و علم النفس.
خاتمة
رغم كل ما ذكرنا من اوجه الاتفاق بين ماركس و لاكان الا انه لا يمكن تصنيف وجهة نظر جاك لاكان السياسية ، من الواضح أنه أرجع كثيراً من الإشكاليات النفسية الي الرأسمالية .
وجهت البنيوية العلوم الاجتماعية بعيداً عن البشر و الأشياء، و أرشدتها إلى العلاقات، وهنا تلتقي البنيوية بماركس، فكما يحدد دي سوسير معنى الكلمة وفقا لعلاقتها بالكلمات الأخري، كذلك عند ماركس تحدد الملكية وفقاً لطبيعة العلاقات بين الأطراف المتعددة المرتبطة بها.
لجاك لاكان تأثير على اليمين واليسار الغربيين على حد سواء، و لكن تأثيره يتعاظم بقوة يساراً، خصوصا على لويس ألتوسير ، فلقد أوضح ألتوسير أن توجهه المعادي النزعة الإنسانوية قد أخذه عن جاك لاكان .
لقد كشف ماركس عن حقيقة الفعل البشري ووضعه في التاريخ، بصفته نتاج وضع طبقي وتاريخي محدد و ليس الإرادة، فالبشر يصنعون تاريخهم وفقا لأوضاعهم و ظروفهم المحددة قبلهم، و من الصعب عليهم الانسلاخ عن ظروفهم الموضوعية التاريخية والطبقية إلا من خلال وعي علمي، كذلك كشف فرويد عن دور اللاوعي في تحريك البشر وتحديد أفعالهم، وهنا يأتي دور الأيديولوجيا في تجاهل و إنكار هاتين الحقيقتين.
و هنا يسير ألتوسير على خطى لاكان، فالأيديولوجيا تخاطب الفرد بصفته موضوعاً مجرداً من الزمان و المكان، و ليس نتاجاً لمجتمع محدد وطبقة محددة، والمثل الأوضح على الأيديولوجيا التي تمارس هذا الدور يتجسد في الدين، وكذلك الليبرالية، التي تخاطب كياناً اسمه الإنسان، وتجرده من عناصر متعددة شكلت موقعه من الأحداث، وقد كانت أعمال لاكان تؤكد دائما علي دور اللاوعي في فعل البشر، و بدرجة أكبر، دور العلاقات الخارجة عنهم في صياغة أفعالهم، فوجه سهامه لعلم النفس الذي يواجه أزمة في الانطلاق من الفرد.
نلاحظ اذاً أن الخط الفكري المواجه للنزعة الإنسانوية، هو نقطة التلاقي بين لاكان وألتوسير .
أما عن العلاقة بين لاكان و فرويد، فيذهب بعض الباحثين أن أطروحات لاكان في التحليل النفسي المستندة بشكل رئيسي على اللغة والحوار في المعالجة النفسية، و دحثه على التقدم في العلاج النفسي، من خلال الممارسة الحوارية المستمرة، هذه العلاقة هي التي تجعل لاكان يدفع النظرية الفرويدية الي مزيد من الممارسة . .


مصادر :
Lacan, J. (1972-1973). Le séminaire. Livre XX. Encore. Paris: Seuil
(poche), 1999.
Lacan, J. (1974). La troisième, intervention au Congrès de Rome.
Lettres de l’École freudienne, 1975, 16, 173-203.
Lacan, J. (1974-1975). Le séminaire. Livre XXII. Réel et Symbolique et
Imaginaire.
Van Haute, P. (2002). Against Adaptation. Lacan´s Subversion of the
Subject. New York: Other.
Slavoy zizek p(2002). How to read lacan .