قوة العمل و راهنية تحول علاقات الإنتاج


زكرياء بغور
2019 / 4 / 12 - 23:54     

تعقب كارل ماركس في مقالته "العمل المأجور و رأس المال" 1891 تناقضات الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في مفهوم القيمة. كان آدم سميث أول من أكد بأن قيمة السلعة تتحدد بالعمل المبذول لإنتاجها. لكن كيف سنحدد قيمة "العمل" باعتباره سلعة يعرضها العامل على الرأسمالي كما يرى آدم سميث نفسه؟ هذا هو التناقض الأول الذي كشفه ماركس. تدارك الكلاسيكيون هذا التناقض و خصوصا في نسخة لريكاردو. يرى ديفيد ريكاردو أن قيمة السلعة تتحدد بنفقات إنتاجها و يدخل "العمل" أيضا في هذا التحليل. يستمر ريكاردو بتوضيح كيفية احتساب نفقات إنتاج "العمل" ليستنتج أن السلع الأخرى ستتحدد قيمتها بتكاليف الإنتاج و غيرها من العوامل و بنفس الطريقة يمكن احتساب نفقات العمل بالحاجيات الضرورية اليومية للعامل التي تسمح له بالعيش و هذا هو التناقض الثاني. فباحتساب تكاليف الانتاج الموجودة أصلا قبل دخول العامل عملية الانتاج فالفائض المتبقي من دورة الانتاج و الذي يحتسب بطرح تكاليف الانتاج سيكون هو قيمة العمل الحقيقة لأنه جاء نتيجة "العمل" و بالتالي فما يعتبره ريكاردو نفقات إنتاج العمل هو نفقات إنتاج العامل حقيقة. هنا تدخل ماركس ليؤكد أن ما يقدمه العامل للرأسمالي هو "قوة عمله" و ليس "عمله". أنجلس من جانبه يؤكد أن قوة العمل هي في المجتمع الرأسمالي بضاعة كجميع البضائع الاخرى، ولكنها مع ذلك بضاعة من نوع خاص تماماً. فانها بالفعل تتصف بميزة خاصة تتقوم في كونها قوة تخلق القيمة في كونها ينبوع قيمة، بل أكثر من ذلك، اذ انها تخلق عند استخدامها بصورة ملائمة، قيمة تفوق القيمة التي تملكها هي نفسها. وفي حالة الانتاج الراهنة، لا تنتج قوة العمل الانساني في يوم واحد فقط قيمة اكبر من القيمة التي تملكها والتي تكلفها هي نفسها؛ فلدى كل اكتشاف علمي جديد، لدى كل اختراع تقني جديد، يزداد هذا الفائض من المنتوج اليومي لقوة العمل على كلفتها اليومية وبالتالي يقل القسم من العمل، الذي يضطر فيه الى تقديم عمله للرأسمالي دون أي مقابل.
صحيح أن كارل ماركس لم يكن يتصور أن الرأسمالية ستصل إلى المرحلة التي تعيشها اليوم، من الرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية المالية و اقتصاد السوق، لكن طرحه لمفهوم قوة العمل كان علامة فارقة في كشف تناقضات الرأسمالية في نظرية القيمة عبر التاريخ. سننطلق هنا من فكرة أساسية مفادها أن قوة العمل عرفت مسارا تطوريا عبر التاريخ من العمل العضلي للعامل في المصنع أو الفلاح في الحقل إلى صورة أكثر تجريدا تتجسد في إنتاج المعرفة و الإبتكار. و سواء تلعق الأمر بالجهد الذي يقدمه العامل أو الفلاح للرأسمالي، أو بالمعرفة العلمية و التقنية التي يقدهما المهندس لصاحب الشركة، فإن الرأسمالية لم تستطع مواكبة الدور التاريخي لقوة العمل في مراكمة الثروة و تطور الرأسمالية عبر السنوات.
قد نذهب إلى حد الجزم أن التقدم العلمي و التقني كان و لايزال مرتبطا بالأساس بعملية الإنتاج. في المجتمعات قبل الرأسمالية، لم تكن هنالك فرص كبيرة لحدوث توسع ديناميكي في المعرفة العلمية. اتسمت تلك المجتمعات بركود نسبي في عملية الإنتاج بسبب بطء تقدم المعرفة العلمية، و كان لذلك انعكاس مباشر على عملية مراكمة الثروة. أما في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، فالطابع الغالب على عملية الإنتاج هو التطور الدائم و السريع بسبب الآفاق التي فتحتها الثورة العلمية و التقنية مما أدى إلى مراكمة الثروة بشكل لم نكن نتوقعه قبلا. بل إن الثورة التقنية كانت قادرة على خلق الثروة بشكل لم يكن العمل البشري ليقوم به لسنوات عديدة. هذا الإرتباط الوثيق بين العلم و عملية الإنتاج يفترض أن التراكم المعرفي و ما نتج عنه من تطور تقني يفتح الطريق أمام تطور قوى الإنتاج بشكل يستطيع المجتمع استيعابه في لحظة زمنية معينة.
كان بالتالي للرأسمالية دور كبير في تحفيز الثورة المعرفية و التقنية خلال القرون الأخيرة. الهدف من المعرفة العلمية هو تغيير الواقع، و من هنا تأتي أهمية العلم للرأسمالية التي كانت دائما تسعى إلى تغيير العالم الطبيعي بشكل يمكن من مراكمة الأرباح. لهذا تستثمر الرأسمالية أموالا طائلة في البحث العلمي لا لخدمة البشرية لكن لمراكمة الثروة. فحتى لو عارض التقدم العلمي مصالح الإنسان فذلك لا يثني الرأسمالية عن الخوض فيه ما دام يساهم في خلق فائض قيمة أكثر كمجال تطوير الأسلحة و باقي الصناعات التي تضر البشرية أكثر من أن تنفعها.
هذا لا يجب أن ينكر عن الرأسمالية دورها الهام في ما وصلت إليه البشرية من تقدم و رفاه. فالرأسمالية هي التي وفرت الشروط الموضوعية لحدوث التورة التقنية.
هنالك إذا ارتباط وثيق بين المعرفة العلمية و عملية الإنتاج في نمط الرأسمالية. تلعب المعرفة دورا هاما في كل مراحل الإنتاج منذ البداية حتى إنتاج السلعة. مع التقدم الكبير في المعرفة والتكنولوجيا أصبح الإنتاج المادي متوفرا بشكل لن نكن نتوقعه. من هذا المنطلق كان لابد من جعل المعرفة جزءا لا يتجزأ من السلعة و فائض القيمة. قد تختلف مستويات المعرفة من معرفة العامل بكيفية تشغيل آلة معينة إلى معرفة مهندس المعلوميات في تطوير برامج معينة أو معرفة خاصة بتنظيم العمل داخل شركة معينة أو معرفة تقنية كالتي تساعد في صناعة الآلات، لكن الثابت أن العملية المعرفية جزء من عملية الإنتاج، و عملية الإنتاج برمتها تستند إلى عنصر المعرفة.
من هذا المنطلق تحدث كارل ماركس عن مفهوم المركب العضوي لرأس المال (organic structure of capital). و هو يجمع بين عنصرين.. مركب القيمة و المركب التقني. يتحدد مركب القيمة في رأس المال بقيمة وسائل الإنتاج إضافة إلى قيمة قوة العمل، أما المركب التقني لرأس المال فيتحدد بحجم وسائل الإنتاج و حجم العمل المستلزم في عملية الإنتاج.
تأسيسا على المفهوم الماركسي لمركب رأس المال، فإن المعرفة هي جزء هام من مركب قيمة رأس المال، فالمعرفة تطور تاريخي لقوة العمل التي انتقلت من مفهومها المادي (العمل البشري) إلى مفهوم أكثر تجريدا و تطورا (المعرفة العلمية و الابتكار). من هنا يبدو أن المعرفة (قوة العمل) جزء هام من تكوين ليس فائض القيمة فقط بل رأس المال الثابت أيضا (الالات و التكنولوجيا المستعملة في الانتاج). و هنا تأتي راهنية إعادة النظر في علاقات الإنتاج الرأسمالية بشكل يعطي قوة العمل بشكلها المعاصر المتجسد في المعرفة العلمية قيمتها الحقيقية.
تحايلت الرأسمالية على قيمة قوة العمل باعتبارها سلعة يطرحها العامل في السوق بمقابل معين عبر التاريخ. في نظرية القيمة الكلاسيكية، للسلعة قيمتان.. قيمة استعمال و قيمة تبادل. تتحدد قيمة الاستعمال للسلعة بقيمة المنفعة الموجودة في السلعة ذاتها، و هي تختلف من شخص لآخر. أما قيمة التبادل للسلعة فهي قيمة السوق للسلعة و تحددها عناصر كالوفرة. و قيمة التبادل هامة في النظرية الكلاسيكية لأنها ما يتيح لمالك السلعة خلق هامش الربح و التحكم به بوسائل كالإحتكار. من جهة أخرى، يعتقد ماركس أن قوة العمل أيضا سلعة يبادلها العامل بمقابل معين. و بما أن قوة العمل عنصر مساهم في فائض القيمة، فإن الرأسمالية في نظره تمارس الإحتيال بخصوص قيمة العمل.
في عصرنا الحالي.. عصر المعرفة و التكنولوجيا، أصبحت المعرفة جزءا لا يتجزأ من عملية الإنتاج. من هنا يظهر قانون تزاید العوائد فى مجال الانتاج الرقمي للسلع والخدمات. و هو مجموعة من القوانين التي تعطي للسلعة قيمة جديدة في مجال الإنتاج الرقمي و الخدمات تعويضا لقانون تناقض العوائد في مجال الأصول المادية. و يرتبط قانون تزايد العوائد في الانتاج الرقمي بقانون الأصول الرقمية، و هي تلك الأصول التي لا تستهلك بالإستعمال كالأصول المادية. هذه القوانين تضمن حقوق الملكية الفكرية و غيرها من مظاهر الإنتاج المعرفي.
طورت الرأسمالية طرق التعامل مع العمل البشري بتطور هذا الأخير من الصورة المادية النمطية في الفكر الكلاسيكي إلى الشكل الذي نراه الآن. أصبحت المعرفة، باعتبارها تطورا تاريخيا لقوة العمل من المنظور الماركسي، دعامة أساسية في خلق الربح و مضاعفته في الرأسمالية المعاصرة، و بالتالي كان لزاما التصريح بأن النظرية الرأسمالية لقيمة العمل لم تتطور بشكل مواز لتطور مساهمة العمل (المعرفة) في خلق فائض القيمة، و هذا نفس التناقض الذي سقطت فيه الرأسمالية الكلاسيكية في نظرية القيمة.
كان لزاما، بالتالي، إعادة النظر في قيمة قوة العمل بشكل يتناسب مع دورها التاريخي في مراكمة الأرباح و خلق الثورة. في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية، من المستحيل استفادة قوة العمل من مساهمتها في خلق فائض القيمة و من مساهمتها في تكوين رأس المال الثابت لأن هذا ينافي جوهر المبادئ الرأسمالية التي تأسس لفردية الملكية، ما يستدعي إعادة النظر في علاقات الإنتاج تلك بالصورة التي تمنح قوة العمل قيمتها الحقيقية. نحن هنا لسنا بصدد تقديم بديل من أي نوع، لكن الغرض هو توضيح تناقضات الرأسمالية في نظرية القيمة عبر التاريخ.