الشعوب السودانية تدخل تاريخ الثورات الحديث


محمد نجيب وهيبي
2019 / 4 / 12 - 17:55     

الشعوب السودانية تدخل تاريخ الثورات الحديثة

لا زال السودانيات والسودانيون في الشوارع يغذون انتفاضتهم الشعبية بصلابة ووحدة وعزم على اقتلاع النصر ، رغم البيان الركيك لوزير الدفاع ليوم 11 أفريل 2019 والذي أعلن من خلاله الانقلاب الشكلي على عمر البشير ديكتاتور السودان طيلة 30 سنة ، وإحالة سلطته إلى مجلس عسكري قال عنه انتقالي لمدة سنتين يسلم اثرها السلطة لحكومة مدنية !! ، ولكن حقيقة الأمور على أرض الواقع تقول بأن ما يحصل في السودان هو محاولة من النظام للانقلاب على انتفاضة جماهير السودان التي تتحول رويدا رويدا إلى حالة ثورية ناجزة وتامة الشروط ، حيث رفضت الجماهير إعلان حالة الطوارئ ومنع الجولان وتمسكت بتواجدها في الشارع رفضا لبيان المجلس العسكري ، كما تم تعزيز المتاريس أمام مقرات القيادات العسكرية ومنها مقر القيادة العامة بالعاصمة الخرطوم ، بالإضافة إلى تكثيف البيانات والتعميمات المركزية من مجموعات قوى الحرية والتغيير التي تتمسك بشكل صريح بميثاق/إعلان " الحرية والتغيير" لتتحول بذلك عمليا إلى هيئة أركان عامة للانتفاضة الشعبية بمشروع برنامج سياسي ثوري مشترك .
إن محاولة الانقلاب التي أقرها النظام من داخله لتأبيد سلطة الاوليغارشيا العسكرية-الدينية الحاكمة في السودان ليتجنب قوة المد الثوري الشعبي ، إنما تعبر بكل وضوح عن مدى تخلخل أعمدة النظام القائم ومدى ضعفه وترهله الذي دفع بجزء من مكوناته إلى تقديم عناصره الأضعف قرابين على مذبح الانتفاضة الشعبية ، وهي في نفس الوقت مدخل واضح وصريح لامكانية دك النظام القائم والأطاحة به حتى آخر عناصره ومؤسساته الفاسدة والمفسدة .
قدمت شعوب السودان طيلة أربعة أشهر من الحراك الجماهيري السلمي ملحمة نضالية تاريخية ضد نظام البشير القمعي الرسمي بكل اجهزته وميليشياته الحزبية و"الامنية" المسلحة ، كانت حصيلتها المباشرة ما يقارب المائة شهيد و مئات الجرحى وآلاف المعتقلين إلى جانب المداهمات الليلية والإرهاب السلطوي لكل فئات وشرائح الشعوب السودانية في كل مدن السودان ، ورغم سطوة الجهاز القمعي فإن باكورات انهياره كانت تتجلى يوما بعد ، وتتترجم بشكل واضح في حس الجماهير بقرب الخلاص و تظهر في اشتداد حركة الاحتجاج وتعاظم وحدتها وتغير اشكالها كلما اشتد القمع ، من التدوينات في الشبكات الاجتماعية إلى بناء المتاريس والاعتصام أمام مقرات القيادة العسكرية مرورا بمظاهرات الشوارع و الإضرابات المهنية القطاعية و الاضراب العام و العصيان المدني الشامل... الخ ، ولم ينحصر تعاظم المد الثوري في نمو أعداد المحتجين وتنوع أشكال حركتهم فقط بل إمتد إلى الوعي بضرورة خلق وحدة تنظيمية وطنية ببرنامج وطني يرتقي إلى مستوى البيان السياسي العام للثورة السودانية ، فكان أن إنبثقت "قوى الحرية والتغيير " بمثابة هيئة أركان تنسق جل التحركات والمواقف ، وتتطور مواقفها وارائها و انضباطية منتسبيها والجماهير تجاهها يوما بعد يوم بشكل خلاق ورائع ، فلئن كانت التحركات في بدايتها مشتتة من منطقة إلى أخرى وذات مطالب معيشية إقتصادية بحتة، ولئن غلبت على تصوراتها وشعاراتها مسحة ليبرالية-اجتماعية مع تزعم "تجمع المهنيين السودانيين" ( وهو التقاء لمنظمات مهنية برجوازية صغيرة ) لجزء هام من عناوين الحركة الاجتماعية أثناء تعاضمها النسبي فقد مكنها ذلك من رفع سقف تطلعاتها بأن تلحق مطالب الحريات السياسية بالمطالب الاقتصادية ، إلى أن وصلت في إلى حدود الإقرار الصريح بضرورة إسقاط النظام وإعادة هيكلة الدولة السودانية ، نعم هكذا بصريح العبارة ، مع حل كل ميليشيات النظام المسلحة وأجهزة الأمن والدعم السريع وإلغاء القيود القانونية أو العرفية على حرية المرأة ، الاعتراف الصريح بالمساواة في المواطنة و التوزيع العادل للثروة ...الخ .
إن "قوى الحرية والتغيير" رغم تنوع مشاربها الفكرية والسياسية يبدوا أنها تعي بشكل متطور ويومي ضرورات وتحولات المسار الثوري السوداني وتعمل تحت ضغط الجماهير المنتفضة الى ترجمتها بشكل يومي في خطابها السياسي حيث تعمل مجموعة من القوى الاشتراكية الديمقراطية على التقاط الحس العام لدى عموم الكادحين والأجراء و الحرفيين بتعاظم القهر والميز الطبقي لتحوله إلى جزء من برنامج المسار الثوري تحت شعار التوزيع العادل للثروة وسيادة الشعب على مقدراته .
لن احمل الحراك الثوري في السودان ، أحلاما أكثر مما يمكن إنجازها في الواقع في ظل حالة موازين القوى الدولية الحالية والتي تغلب عليها حتى الآن رجاحة الكفة لصالح قوى الردة ومصالح منظومة الرأسمال المالي العالمي التي تعمل على تأبيد استغلال الإنسان للانسان وإدامة أنظمة حكم لا شعبية تسهل عملية سرقة ثروات الكادحين ، ولكن بعض الشروخات حدثت وتحدث وتتوسع يوميا ضمن أركان النظام العالمي باضطراد وتناسب مع توسع رقعة الاحتجاجات الشعبية في كل أصقاع المعمورة ، وهذه الشروخات قد تسمح هذه المرة لثوار السودان في اقتلاع أكثر ما يمكن من المكاسب والمرور بالحراك الثوري العالمي إلى مستويات أعلى من التطور ، إن الموقف الدولي الرسمي المتذبذب تجاه أحداث السودان وعدم قدرته على الإسناد الصريح لأحد مكونات النظام المنهار الى جانب تريثه في مناصرة البرجوازية و البرجوازية الصغيرة التي تشكل جزءا أساسيا من قيادة الحركة ، يقول بأن إمكانية جنوحها نحو التحول إلى حركة ثورية اشتراكية ديمقراطية تامة الشروط أمر قابل للتحقق على الأرض .
لست بصدد تقديم النصح للشعوب السودانية الرائعة ، حيث يقدمون لنا دروسا عملية في قيادة التحركات الشعبية المختلفة ، وملحمة في الصمود ضد نظام قمعي شمولي مطلق تسنده آلة قمعية وطبقة اوليغارشيا عسكرية-دينية شديدة الفساد ، ولكني اعتقد ان على القوى الثورية السودانية اقتناص اللحظة الدولية والإقليمية والداخلية بسرعة و صرامة لتجذير الحركة وحمايتها من الانتكاس والاختراق ، على السودانيين اليوم أن يعوا فعلا وبالقوة أن الثورة عنيفة حتى في سلميتها ، الثورة نقض للقديم المتمترس خلف أسلحة الإيديولوجية و العسكرية ومؤسسات الدولة الظاهرة و العميقة ، وان هذا القديم العدو له الف وجه والف رأس والف صورة وانه حتما لن يسلم بسهولة ، قد يناور ، ينحني ، يغير سلوكه وخطابه ووكلائه وحلفائه ظرفيا ولكنه في النهاية ينتقم من كل الحراك الثوري ونتائجه حالما يخرج من أزمته ويشتد عوده . هي بالتأكيد "سلمية ضد الحرامية" كما أثبتت أحداثها طيلة أربعة أشهر من الكفاح المدني ، ولكنها حتى تحافظ على سلميتها من خيانة وانقلاب الحرامية عليها أن تجردهم من أسلحتهم تماما ، عليها أن تأخذ عندها اهم واكبر مصالح البرجوازية المحلية والدولية رهائن عندها حتى تفاوضهم عليها مقابل سلميتها ، عليها أن تكون شرسة وعنيفة لأقصى حد ضد الدولة القائمة ومؤسساتها الإيديولوجية ومصالح الاوليغارشيا !! وبالتأكيد سيبدع السودانيون في خلق الأشكال اللازمة ليمارسوا بها أقصى أشكال العنف الثوري بكل سلمية حماية للسلمية ، من قبيل :
- التنظم الشعبي المحلي وفي كل الأقاليم في هياكل تعوض بشكل مباشر وصريح مجالس الحكم و المحافظات وتمارس التسيير الفوري للدولة ومصالح الناس من داخل المقار الرسمية للنظام المترنح
- عدم الاكتفاء بالاعتصام والميادين ... الخ وانتظار قرارات المجلس العسكري المؤقت !!! والإسراع بتشكيل مجلس حكم وطني مدني مؤقت من مندوبين مجالس الأقاليم والمحافظات يتفاوض بشكل مباشر وباسم الشعب مع بقايا أجهزة النظام المتمثلة في المجلس العسكري
- التوجه فورا لمقرات الميليشيات النظامية وقوات الدعم السريع والأمن... الخ لحلها و مصادرة اسلحتها
- مصادرة ملكيات الاوليغارشيا الساقطة وتشكيل لجان ونقابات شعبية لادارتها والتصرف فيها ، حجز الحسابات والودائع البنكية وخاصة منها الموجودة في البنك المركزي
- تعويض كل قيادات الأجهزة الأمنية بضباط عسكريين من الصف من مستويات متوسطة يكونون بطبعهم قبلوا أن يتم تمثيلهم في مجالس الحكم المحلية ومجالس حكم المحافظات .
وعندما تستقر أمور الحكم عند حكومة شعبية انتقالية مدنية بجناح عسكري شعبي خاضع لها ، تتم البرمجة لإعلان دستوري يعمل على إعادة هيكلة الدولة ومؤسستها العسكرية وفق مطالب وتطلعات الثورة ، إن المسار الثوري في السودان يتغذى من كل الحراك الشعبي المتنامي في العالم ضد سيطرة عصابات المال والنهب الدولية وهو في آن واحد يغذي طموحها وآمالها ، إن الحراك الثوري السوداني يسير على هدي الحراك في الجزائر ، يسبقه ليرفعه معه ومن ثمة يلاحقه حتى يسبقه مرة أخرى في حركة تاريخية شعبية خلاقة ورائعة ، قد ينتكس أيا منهم في أي لحظة ، كما قد تتعاضم حجم خسائره ولكنه سجل حتما درسا من دروس التاريخ .
#مدن_السودان_تنتفض